نايدا فتاة فليدية جميلة، ناعمة ومتدفقة كالماء العذب، هي من عمر دوق فليد، من طبقة نبيلة، نشأت على فليد قريبة من دوق وكانت رفيقة له في طفولته وشبابه، حين تفتحت مشاعر نايدا للمرة الأولى رأت بجانبها فتى جميل الطلعة ذو أخلاق ملكية يعاملها كما لو كانت أميرة، كانت تقضي الأوقات برفقته كفراشة تحلق بين الزهور، تركض معه، يهتف باسمها وتهتف باسمه بين الجبال فيسمعان الطبيعة تردد نداءاتهما معًا برومانسية حالمة، أحبت نايدا دوق كثيرًا وكانت ترى فيه الصديق والحبيب والعاشق، وكان هو يمنحها الكثير من الحب والسعادة التي تحتاج إليها روحها الفتية.
ولكن شيئًا ما قد حدث فعكر صفو ما بينهما، انشغل دوق فجأة وأخذ يغيب روبدًا رويدًا عن صديقته، وظهر بحياته آخرون، ارتبط كثيرًا بصديقه موروس، غادر فليد لفترة ذاهبًا لكوكب مورو وكان طالب تبادل ثقافي وقتها، نضج دوق كثيرًا وبدأ ينسج أحلامًا جديدة مع موروس، واختفت نايدا من الكثير من أحلامه مع مرور الأيام.
ظلت نايدا تحب دوق وتشتاق إلى أيامها معه، وكانت تقنع نفسها بأن ما يحدث هو أمر طبيعي وأنه لم يغب عنها فعلًا لكن حدث طارئ أصاب الجميلة في مقتل، لقد حضرت الأميرة روبينا للإقامة بكوكب فليد، فتاة جميلة بشخصية متفتحة وصريحة، رحب بها الملك ونزلت ضيفة عنده، وأصبحت روبينا الأقرب لدوق شيئًا فشيئًا، وأحست نايدا بمشاعر الأميرة الفيجاوية التي بدأت تشتعل بقلبها، شعرت بحبها لدوق، لكن نايدا كانت تقنع نفسها بأن لا مكان لروبينا بحياة دوق حتى حدث ما لم تتوقعه نايدا، عرفت نايدا بمخططات الملك فليد وبلغتها أخبار الزيجة السياسية والتي لم تباركها وقتها ولا في أي وقت آخر، لكنها لم تكن تملك من أمرها شيئًا، وكانت تتألم وتكبت مشاعرها بقلبها ولا تبدها لأحد، لكن جرحًا غائرًا كان ينزف داخل قلبها كل ليلة وهي وحيدة غرفتها، شعرت نايدا لأول مرة بالخذلان كما لم تشعر به من قبل، وحاولت أن تقاوم خيبة الأمل وأن تحاول رؤية ما يحدث بعيني حبيبها الذي لم يعد هناك أمل باستعادته، ويظهر أنها نجحت لبعض الوقت فعلًا، لكن حدث ما تمنته نايدا دون أن تبده لأحد، رحلت الأميرة من كوكب فليد يومًا ما ودون سبب واضح وبدا أن هذه الزيجة قد باءت بالفشل أو أنها في طريقها لذلك.
مضت فترة تتفست فيها نايدا الصعداء وظنت أن القدر عاد يبتسم لها، لكن دوق كان بعيدًا جدًا، وفي يوم هاجمت قوات فيجا كوكب فليد، امتلأت السماء بقوات الميني فو، واشتعلت الحرائق وسالت دماء كثيرة، لم يكن دوق يومها قريبًا من نايدا ولم تكن هي تعرف مكانه، واستمرت الحرب أسابيع أسرت نايدا خلالها وأرسلت لكوكب فيجا، وأوكل أمرها للقائد جاندال وبقيت رهينة عنده لأجل غير مسمى.
بقيت نايدا على هذه الحال ما يقرب من ثلاث أو أربع سنوات تحطمت خلالها روحها المعنوية، انقطعت أخبار الدوق وآخر ما عرفته عنه أنه هرب بجريندايزر نحو الأرض، فقدت نايدا أخاها سيليز في الحرب الفليدية، وظلت تعاني طيلة هذه السنوات، وكانت تشعر بالوحدة والألم والحزن العميق، لكن كل هذه السنوات لم تكن تساوي تلك الأسابيع القليلة التي خضعت فيها للتعذيب على يد فيجا الكبير شخصيًا، تم اقتياد نايدا عنوة وربطها إلى مقعد مرعب، وفي لحظة سرى تيار كهربائي بشع في كل جزء من جسدها، اتسعت عيناها من الألم وتوقفت بصيلات شعرها وشعرت وكأن عظامها تكاد أن تتحطم، راحت تصرخ حتى كاد صوتها أن يتلاشى من حنجرتها، كان الألم رهيبًا، رهيبًا لدرجة لم يتحملها جسدها الرقيق، فانهارت على مقعدها، أحنت رأسها وأغمضت عينيها دون إرادة منها، تندى جبينها بالعرق وزادت دقات قلبها، سمعت صوت فيجا الكبير بخاطبها، كان يخبرها شيئًا لم تستطع تمييزه في البداية، كانت مشوشة جدًا ومتألمة حتى النخاع، لم تستطع سؤاله عما يعني ولم تملك الوقت لذلك، لقد سرى التيار الكهربائي في جسدها من جديد، وفي هذه المرة فقدت وعيها تمامًا.
استمرت هذه الجلسات البشعة لبضعة أسابيع، وبدأت نايدا تعي شيئًا فشيئًا ما يقوله فيجا، لقد كان يحدثها عن دوق فليد، قال لها أنه خائن وأنه هرب بجريندايزر وأبقاها وحيدة في فليد وأنه لم يفكر بنجدتها، قال لها أنه قتل سيليز، لم تصدقه نايدا في بداية الأمر وكانت تقاوم بشدة، لكن إصرار فيجا الكبير وإنهاكها وشيء آخر لم تكن تعرفه جعلها تصدقه في أحد الأيام، ولأول مرة أومأت برأسها إيجابًا منقادة لأمره حين أخبرها بأن عليها أن تجد دوق الخائن وأن تقتله هو وجريندايزر.
كانت نايدا تملك شخصية عنيدة ومراوغة، وكانت تصر على بلوغ هدفها مهما كان، ومنذ أن أُخذت رهينة وهي تحاول الهرب المرة تلو المرة، لكن في محاولتها الأخيرة تمكنت فعلًا من ذلك، كانت في صحن طائر، وكانت تعرف أنها مأخوذة إلى مكان ما، وكعادتها استغلت فرصة انشغال الجنود بالهبوط بأمان وحاولت الهرب، استطاعت فتح الباب والخروج منه، كانت أجواء الأرض مبهجة بالنسبة لها لكنها لم تكن تملك الوقت الكافي للتظر إليها أو تأملها، لقد كان الجنود خلفها يركضون بأسلحتهم يحاولون اللحاق بها، كانت تركض على غير هدى ولا تعرف إلى أين تتجه، ثم سمعت دوي نيران من خلفها فأسرعت تختبئ وراء الجبل، ولم يمض وقت طويل حتى هدأ كل شيء، خرجت نايدا من وراء الجبل تنظر بحذر، فرأت شابًا ملقًا على الأرض، رأته يستدير إليها وينهض مندهشًا وهو يهتف باسمها، ويالا دهشتها هي كذلك! لقد عرفت نايدا هذا الشاب لكنها صدمت لمرآه، راح ينظر إليها ويقول لها: “أنت نايدا أليس كذلك؟! أنا هو دوق فليد” لم تصدق نايدا أذنيها، رددت اسمه كأنها تؤكد ما يحدث لنفسها، أخذت تغمض عينيها وتفتحهما مرارًا، رأت طيفًا أمام هذا الشاب، طيف صورته بزيه العسكري، سمعته يؤكد لها هويته: “نعم دوق فليد الذي كان على كوكب فليد” كان أكبر من الصورة التي تركته عليها، كان زيه غريبًا، رأته يندفع نحوها فلم تقاوم مشاعرها، رأت حب عمرها حيًا أمام عينيها فلم تتمالك نفسها، ركضت نحوه تعانقا وسقطا على ركبتيهما أرضًا، سمعته يقول لها بأنه فرح لنجاتها وأنه ظن بأنها قُتلت عند مهاجمة عاصمة كوكب فليد، أخبرته بأنها لم تتوقع رؤيته ثانية، تعانقا مرارًا، نسيت نايدا ما أخبرها به فيجا الكبير، لم تذكر غير عاطفتها العطشى لصديق طفولتها وفتى أحلامها وحبيبها الذي فقدته سنينًا طويلة.
طلب منها دوق أن تذهب معه إلى حيث يقيم، أخبرها أنه سيأخذها لمكان آمن، ذهب بها إلى مركز أبحاث علمي، عرفها على رجل خمسيني، قال أنه الدكتور أمون صاحب هذا المركز والمسؤول عن إدارته، عرفها بشاب عشريني هو كوجي كابوتو، لم تكن نايدا في حالة نفسية تسمح لها بالتحدث مع أحد، كانت بالكاد تتحدث مع دوق، دوق فقط، طلب منها دكتور أمون أن تروِ لهم ما حدث لها، لهذا أجابته على مضد، تحدثت عن كوكب فليد ولم تتحدث كثيرًا عن نفسها، فقط تحدثت عن محاولاتها المتكررة للهرب، تفاجأت بكف دوق على كتفها فالتفتت إلبه، سمعته يتحدث عن الأرض وجمالها، يتحدث عن الشمس والأشجار، يتحدث عن حب الناس، تساءلت بداخلها: أين أنا بين كل تلك المشاعر الجديدة؟! ألم تفكر يومًا بي؟ هل بدا لك موتي حلًا مريحًا لهذا الحد؟ هل نسيت كوكب فليد بهذه السهولة؟ ولماذا رضيت بالبقاء هنا وكأنك واحد منهم؟
كان دوق يقول لها بأنه متأكد من أن جراحها ستلتم بعد فترة إن أقامت هنا، لكن نايدا كانت تشعر بأنه يقتلها بسكين تلمة لا بأنه يواسيها، تمنت أن تسمع اعتذاره عما حدث لها، تمنت أن يطلب منها توضيحًا لما عانته، تمنت أن يبدو آسفًا لأجلها، لكنه يحلق في عالم آخر وكأنها فقط تعاني من جرح بسيط في ساقها، لكن استياء نايدا بلغ ذروته حين تحدث دوق عن كوكب فليد، لقد بدا وكأنه يذكر الطفولة البعيدة فقط، يذكر نشأتهما كأخوين، ماذا عن تلك الأيام المليئة بالحب يا دوق؟ ماذا عن تلك الأيام التي تَفَتَّحْتُ فيها كوردة أمامك؟ هذا ما كان يدور بخلد نايدا حتى أتى دوق على ذكر سيليز، الأدهى أنه قد نسي اسمه وكأن الأمر لا يعنيه، شعرت نايدا بالألم والاستياء والإهانة أيضًا، لهذا لم تخبره عن الاسم حين سألها، بل أخبرته الاسم وخبر الموت معًا، ووقفت بعدها تتظر وقع تلك الكلمات على هذا الحبيب الذي تنصل من حبها وذكرياته معها، بل ونسي حتى اسم أخيها في استهانة واضحة بها.
رأت نايدا اتفعال دوق حين عرف بموت سيليز، سألها عن سبب موته فأجابته دون تفكير بما أخبرها به فيجا الكبير، دوق لا يبدو مهتمًا بها كما كانت تظن طيلة السنوات الماضية وهذا يعني أن ما أخبرها به فيجا يحمل شيئًا من الصحة، لهذا وجدت نفسها تجيبه بأن من قتل أخاها هو “الخائن”، لكن نايدا في أعماقها لم تكن واثقة تمام الثقة مما تقول، لهذا قالت ما قالت واستدارت تهرب من عيني دوق، تهرب مما تلفظ بها لسانها، تهرب من حقيقة تشك في صدقها، تصدقها وتكذبها في آن واحد، لكنه هو لم يكن رحيمًا بها أيضًا، لقد أمسك بها وأدار جسدها بعنف، قبض على ذراعيها وهو يسألها عن الخائن، سألها بعصبية: “من هو؟” فلم تجيب، سألها ثانية: “رجل من كوكب فيجا؟” فأومأت بالنفي وبداخلها غضب يشتعل من جراء هذا السؤال، تمنت لو ردت عليه بأن الخائن مؤكد ليس من عدونا وإلا فهو ليس بخائن، شعرت بأنه يتملص من ذنبه بوقاحة أمامها، عاد يسألها من جديد: “رجل من كوكب فليد؟” فصمتت ولم تجد بداخلها الشجاعة لتومئ له إيجابًا، أردف: “لا أصدق أنه يوجد رجل نذل على كوكب فليد.. أجيبي!” لم تجبه وإنما تخلصت من الموقف بأن نبهته لألم ذراعها حيث اشتد ضغطه عليها، هنا أفلت ذراعيها وهو يعتذر لثوان، ثم استدار وهو يضم قبضته ويحدث نفسه يشيء لم تسمعه، أخيرًا التفت إليها وهو يهتف: “لن أسامح ذلك الخائن.. لن أسامحه” فار غضب نايدا كبركان، هذا الأحمق يتوعد نفسه وكأن من فعل تلك الفعلة ليس هو! من بكون إذن إن لم بكن هو؟ إن كان هو قد تخلى عني طوال تلك السنوات واستراح لحقيقة موتي ونسي اسم أخي فما الذي ينفي حقيقة أنه من قتله؟! لا شيء!
ذهبت نايدا لغرفة أعدت لها في المركز، أبدلت ثيابها و أخلدت النوم، لكن طيف دوق كان يراودها ويعذبها، كانت تتقلب بين حبها واشتياقه له وبين غضبها وثورتها عليه، حاولت أن تهرب من طيفه فشدت الغطاء تخفي به عينيها لكن ذلك الكابوس البشع لازال يلاحقها منذ فترة طويلة، ترى نفسها كل ليلة بين يدي فيجا، تشعر بهذا التيار الكهربائي البشع، تذكر عبارته عن دوق فليد وهو يخبرها بأنه خائن وأنه هرب على جريندايزر وأبقاها، ثم تصرخ من الألم وتفيق منداة الجبين، هذا الكابوس صار أكثر بشاعة بعد أن التقت دوق من جديد.
صباحًا نهضت نايدا مرهقة ومنزعجة، زارها دوق في غرفتها وقدم لها علبة مغلقة، فتحتها بعد مغادرته فوجدت فستانًا ورديًا وحذاء طويلًا أحمر اللون، هل هذه هدية؟! هذا ما تساءلت عنه نايدا وقتها لكنها ارتدت الثوب ووقفت تنظر لنفسها في المرآة، شعرت بأنها غريبة، شيء ما أزعجها دون تفسير، قدرت أن كوابيسها هي السبب لهذا غادرت غرفتها، أخبرها دوق أنهما سيتنزهان معًا اليوم، خرجا من المركز فوجدت حصانًا أبيض اللون بانتظارهما، ساعدها على امتطاء الحصان الذي لا تعرف كيف تمتطيه أساسًا، قفز على الحصان خلفها وأمسك باللجام، لم تره نايدا من قبل يركب مخلوقًا كهذا لكنه كان يقوده ببراعة، أخذ الحصان يركض بهما بين الأشجار والخضرة، وعلى حين غرة أفلت دوق اللجام وطوق خصرها وسقطا معًا، أخذا يتدحرجان على العشب الأخضر وسرق هو قبلة سريعة من شفتيها.
استلقت نايدا على العشب وأغمضت عينيها، لم تكن قادرة على استيعاب أفعاله المضطربة، حتى تلك القبلة السريعة جدًا بدت لها غريبة وغير مفهومة كأنه قبَّلها دون أن يشعر أو يفكر بذلك، قطع أفكارها ملمس بتلات الوردة على خدها، فتحت عينيها فرأته يحاول إيقاظها من شرودها ويبتسم لها.
طلب منها أن تشاركه الركض فاندهشت لطلبه: أي عبث يقدم عليه دوق؟! هي لا تستطيع الفهم حقًا، راودها شعور بالاستياء الفجائي وشعرت أنها تريد الإقدام على شيء ما، شيء خطر جدًا، تحسست بيدها جيب فستانها بحذر، تأكدت من وجود الخنجر في مكانه رغم سقوطهما من على ظهر الحصان، هي لم تعرف السبب الذي جعلها تدس هذا الخنجر في جيب فستانها ولا لماذا أحضرته معها، لكن شيئًا ما جعلها تعتقد أنها تحتاج لفعل ذلك، كان هو قد سبقها فعلًا ووقف على بعد متربن يلوح لها بيده ويناديها، استقامت واقفة دون حراك فاتجه ناحيتها وحاول الإمساك بيدها وهو يقول لها: “حسنًا سأشدك من يدك” أخذ يركض بها فرحًا ومبتهجًا في حين غمرتها هي الدهشة والحزن والجمود، شعرت نايدا أنهما لم بعودا كما كانا، شعرت أن شيئًا قد تحطم بين الاثنين.
وصلا لطرف جسر خشبي، أفلت يدها وأخذ ينظر للبحيرة والجبال المحيطة بها وهو يهتف باسمها وقد وضع كفيه حول فمه، سمعت الجبال تردد اسمها، التفت إليها وسألها مندهشًا لماذا لا تفعل مثله، كان دوق يكرر لعبة الصدى القديمة التي طالما أحبتها نايدا لكن نايدا لم تعد كما كانت، حاولت أن تهتف باسمه فلم تستطع، أمسك يدها يدعوها للعودة فارتعش الخنجر بيدها، أخيرًا تدفقت مشاعرها القديمة، شعرت بحب جارف يغمرها، أفلتت الخنجر وأفلتت يده ووضعت كفيها حول فمها وهي تنادي بأعلى ما تملك: “دوق فليد”
بقيت نايدا في مركز الأبحاث لعدة أيام، كانت تتحدث مع دوق من وقت لآخر وإن غلف الصمت معظم أوقاتهما معًا، لم يذكر دوق اسم جريندايزر أمامها مطلقًا، لم يذكر شيئًا عن كوكب فليد، لم يذكر شيئًا جديدًا عن حياته هنا، كان فقط يحاول إسعادها والتعايش معها وكأنهما خارج حدود الزمن، كان شابًا تجاوز الخامسة والعشرين يعيد معها ذكريات خلت منذ أكثر من عشر سنوات، لكن بداخلها هي كان هناك بركان يوشك على الانفجار، كانت تتساءل عن جريندايزر، ذلك السلاح الذي كان منوطًا به حماية كوكب فليد، والذي بهرب دوق به انتهت حياتها على كوكب فليد، أبن هو الجربندايزر الآن؟ كانت تتسلل من غرفتها كل ليلة بعد منتصف الليل لتسير بهدوء في ممرات المركز والمنطقة المحيطة به، كانت تبحث عن دليل او أثر يقودها إليه، كانت تشعر بفضول ورغبة حقيقية في إيجاده ودون ان تعرف السبب وراء ذلك، عادت نايدا ترتدي زيها الفليدي الذي يشعرها بالراحة، وضعت الفستان الذي أهداه لها دوق جانبًا ولم تحاول ارتداؤه مرة أخرى، واستمرت محاولاتها للبحث عن جريندايزر أيامًا، لكن في تلك الليلة بالذات كانت محظوظة لدرجة لم تتوقعها.
تتبعت نايدا أحد حراس الأمن في المركز، رأته يسير في ممرات غريبة، ممرات متشابكة ومعقدة، تبعته بخفة ورشاقة، كانت تقفز من زاوية لأخرى، وتختبئ دون ان يلحظ وجودها، وكانت بارعة فعلًا في ذلك، أخيرًا أوصلها الحارس لمرادها، لقد دخل الحارس محطة جريندايزر، فتح الباب، وتقدم للداخل فتسللت خلسة واختبات، أخذ يتفقد المكان بمصباحه اليدوي فرات جريندايزر على ضوء مصباحه، استدار الحارس وغادر المكان واغلق الباب بإحكام، تنفست نايدا الصعداء، أخذت تنظر لجريندايزر وشعرت بانها على وشك تحقيق إنجاز ما لكن الغاية منه لم تكن واضحة لها، أخرجت من جيبها قنبلة وأشعلتها، للمرة الثانية تفاجأت نايدا بحملها سلاحًا لا تدري ما الهدف منه، لكنها تدرك في قرارة نفسها أنها بحاجة إليه، أمسكت القنبلة بإحكام وأخذت تتقدم من جريندايزر بثبات، تمتمت لنفسها: “إن قضيت على جريندايزر.. بإمكاني سحق جريندايزر” لكن حدث مالم تتوقعه نايدا، لقد انقلب الموقف فجأة، سمعت صرخة دوق باسمها وفي لحظة رأته يهوي من الأعلى باتجاهها، اصطدم بها وسقطا أرضًا من أعلى ممر أقلاع جريندايزر، كان الممر مرتفعًا والسقطة عنيفة، حاولت نايدا إخفاء القنبلة قدر استطاعتها، سمعت دوق يقول لها: “انتبهي نايدا أوشطتي أن تحرقي حتى الموت، هل نسيتي أن أي شخص آخر غيري يصيبه جريندايزر تلقائيًا إذا اقترب منه؟ هل نسيتي هذا؟” لم تستطع إجابته في ذلك الوقت، لم تكن نايدا تملك جوابًا فعلًا، دوق يتحدث عن حقيقة هي كذلك تعرفها لكنها نسيتها لسبب لا تفهمه، لهذا صمتت وشعرت بالاضطراب، لم يمهلها دوق الوقت الكافي للتفكير لقد أخذ ينظر إليها بتشكك ولاحظ ذراعها خلف ظهرها، مد يده وهو يسالها: “ماذا تخفين؟” استطاع أن يجذب يدها بعنف وانتزع منها القنبلة، حاولت أن تستعيدها منه فأمسك معصمها بعنف واستعاد القنبلة وقبض على ذراعها، تغيرت لهجته معها، كان يسألها بعنف عن سبب وجود تلك القنبلة معها، عندها انفجرت نايدا غاضبة في وجهه، أبعده عنها بعنف وهتفت بحدة: “لكي أفجرك لكي أنسف الخائن” واندفعت نحوه تحاول استعادة القنبلة بعنف، اشتبك الاثنان لثوان لكن دوق تمكن من دفع نايدا بعيدًا، فسقطت بعنف على الأرض وسمعته يسألها باستهجان: “لماذا تنعتيني بالخائن؟”
هنا لم تتمالك نايدا نفسها، وجدت نفسها تنفجر غاضبة في وجهه قائلة: “لا تقل أنك نسيت الموضوع كله، عندما هاجمتنا القوات المحالفة لكوكب فيجا وعندما كنا نهرب منهم ونطلب الاستغاثة لقد هربت على جريندايزر الذي كان الحارس الوحيد لكوكب فليد” حاول أن يخبرها أنها مخطئة وأنه لم يكن يملك سبيلًا آخر وأن كوكب فليد قد تدمر تدميرًا كاملًا، لكن نايدا كانت تملك حجة حقيقية للرد عليه، كانت حياتها هي دليل إدانته لهذا أخبرته بحدة: “كوكب فليد لم يدمر تدميرًا كاملًا! انظر إلي.. لازلت على قيد الحياة مثلًا، لا اريد أن أسمع أعذارك، أنت خائن هربت نحو الأرض لتنجو بنفسك وتركتنا جميعًا” حاول أن يقاطعها لكنها لم تمنحه الفرصة لذلك، لقد كانت تتحدث بانفعال جارف وغضب حقيقي، كانت ثائرة لدرجة لا توصف، كل معاناتها خلال السنوات السابقة استحالت بركانًا في وجهه، أكملت نايدا كلامها وهي تستعيد معاناتها النفسية، كانت كمن يحدث نفسها فجأة، استدارت تنظر بعيدًا عنه وتقول: “أحببتك حتى ذلك اليوم، نعم أحببتك، لكن كل شيء انتهي” سقطت على ركبتيها وهي تمسك رأسها بكفيها بألم حقيقي، كانت تشعر بألم نفسي وألم جسدي لا حدود لهما، كانت تشعر بضغط عواطفها على عقلها، وتشعر بصراع بين حقائق كثيرة تعرفها ولا تعرفها، حقائق تصدقها وأخرى تشك في صدقها، صراع بين مشاعر حب واستياء وشوق وخذلان، كانت نايدا تعاني في تلك اللحظة كما لم تعانِ من قبل، انهارت على ركبتيها وهي تستدرك حديثها: “لن أغفر لخائن، إنك تقتل فرصتنا الأخيرة للحياة والتي منحناها في حالة الياس، الوحش الأنبوبي الذي سحقته كان رجلًا من كوكب فليد، أتعلم كان رجلًا من كوكب فليد” لم تكن نايدا قادرة على السيطرة على أفكارها وكلماتها في تلك اللحظة، كانت كمن سقط في سيل جارف وفقد إرادته وقدرته بالكامل، سمع دوق كلماتها وانقلبت سحنته تمامًا، نهضت وهي تنهي كلامها ووقفت مواجهة له وهي تمد ذراعها بطولها وسبابتها تشير إليه بكراهية.
أفلت دوق القنبلة من بين يديه دون وعي، تدحرجت القنبلة حتى سقطت في إحدى فتحات التهوية وانفجرت بدوي شديد، لكن لم يحرك أيًا منهما ساكنًا، استدركت نايدا حديثها وكأن انفجار القنبلة لا يعنيها: “عقل رجل من كوكب فليد يستعمل في الوحش الأنبوبي، هذا العقل قتلت فيه قوة التفكير، واستبدلت بعقل موالٍ لكوكب فيجا، لازلت تذكر الوحش الأنبوبي جيرو جيرو أليس كذلك” لم يكن دوق وقتها قادرًا على الحراك أو النطق، تحول لتمثال من الشمع أمام عيني نايدا التي وجهت سبابتها إليه بكراهية شديدة والدموع تسيل على وجهها وهي تكمل: “ذلك كان أخي، ذلك كان سيليز، الوحش الأنبوبي جيرو جيرو كان أخي سيليز” عندما بلغت نايدا تلك النقطة في حديثها لم تعد تعرف فعلًا ما يحدث، ولم تكن قادرة على السيطرة على أفعالها، لقد امتدت يدها لقضيب ملقًا على الأرض بالقرب منها، أمسكت به بكلتا يديها ونزلت به على رأس دوق فليد ووجهه بعنف وابتسمت ابتسامة لا معنى لها.
اقتحم دكتور أمون وكوجي المكان في تلك اللحظة بعد سماع دوي الانفجار، لكن نايدا ودون سبب منطقي اندفعت نحوهما بشراسة غير مبررة فأطلق عليها دكتور امون شعاعًا من مسدس في يده، شعرت بالألم والاختناق، أمسكت صدرها بحركة تلقائية وسقطت على الأرض فاقدًا لوعيها.
استيقظت نايدا فجاة لتجد نفسها ممدة على فراش في مكان غريب لم تره قبلًا، شعرت بضمادة حول رأسها، ورأت فتاة هادئة تقف بالقرب منها وتنادي بصوتها على من حولها تخبرهم بأنها استعادت قواها العقلية، كانت الفتاة تتحدث عن نايدا باسمها كأنها تعرفها، لكن نايدا لم ترَ هذه الفتاة قبلًا، كان أول ما نطقت به نايدا هو اسم دوق، كانت تسأل عنه، آخر ما كانت تذكره هو أنه كان معها ولا شيء آخر، لكن حين رأت الفتاة تنظر إليها بهدوء سألتها عمن تكون، ردت عليها: “صديقة دايسكي لا صديقة دوق” لم تفهم نايدا ما يعنيه ذلك لكن هذه الفتاة على كل حال هي صديقة لدوق ومؤكد تعرف مكانه، كررت سؤالها عن مكان دوق فتدخل شاب آخر في الحوار.
نايدا قد رأت هذا الشاب يوم وصولها كان اسمه على الأغلب كوجي، لم تكن قد استعادت صفاء ذهنها بعد، سمعته يقول لها بأن دوق تحت العلاج بسبب الجرح الذي سببته له، فذهلت نايدا من جوابه، عن أي جرح يتحدث؟ وجدت نفسها تتساءل بتلقائية: “أنا آذيته! هل آذيت دوق؟” لم تكن نايدا قادرة على استيعاب كونها قد أقدمت على فعل قد يؤذي دوق تحديدًا الذي تحمل له مشاعر حب صافية وحقيقية، سألتها الفتاة بحنان:” ألا تذكرين ما فعلتِ ليلة أمس؟” شعرت نايدا أن سؤالها كالقشة التي يمكن أن تتمسك بها لتنجو لهذا تشبث بذراع الفتاة دون أن تعرف حتى اسمها، سألتها بصدق: “عفوًا! ما فعلت ليلة أمس؟” هنا تبدلت ملامح الفتاة وهي تجيبها: “لقد نعتي دوق فليد بالخيانة وحاولتي تفجير جريندايزر” بدا على الفتاة الاستياء والأسف مما حدث لكن نايدا لم تكن قادرة على لومها، هي أيضًا شعرت بأنها ارتكبت شيئًا بشعًا فأطرقت برأسها وهي تتمتم: “أنا يا إلهي!”
تدخل دكتور أمون في الحديث فجاة وهو يقول لها بحنان أبوي: “لا تظلمي نفسك، كان شخص آخر يوجهك من خلال معلومات دماغية، كوني مطمئنة فإن دوق فليد ليس في حالة سيئة” التفتت إليه فوجدته يمسك جهازًا صغيرًا بيده ويبدو أنه المقصود بكلمة “يوجهك” أما الشخص الآخر فقد خمنت نايدا حقيقته، إنه فيجا الكبير ولا شك، تنهدت لسماعها بأن دوق ليس في حالة سيئة لكن سرعان ما استدرك دكتور أمون حديثه: “الشيء الوحيد هو..”
كان ما أخبرها به دكتور أمون مؤلمًا، قال إن إصابة دوق الجسدية بسيطة لكن إصابته النفسية بالغة، إنه في حالة نفسية سيئة جدًا، طلبت نايدا أن تراه فاصطحبتها الفتاة إلى حيث مكانه، قادتها الفتاة لغرفة مغلقة توجد نافذة صغيرة على بابها عليها بضعة قضبان، نظرت نايدا من النافذة فوجدته، كان جالسًا على طرف فراش في حالة غريبة، كان يتألم ويضغط على رأسه بكفيه بطريقة مخيفة، كان يصرخ ويتألم دون أن يمسه شيء.
سمعت الفتاة تصف لها حالته قائلة: “كما ترين هو في حالة غيبوبة، إنه فاقد الوعي وليس على اتصال بالعالم الخارجي، ولا يبدِ أي تجاوب مع أي شيء، بل الأسوأ من ذلك ألا رغبة له في الحياة، هذا خطر ولكنه السبيل الوحيد لإنقاذه”.
رأت نايدا بعينيها دوق يعاني بشدة، حسب ما قيل لها أنها السبب فيما حدث وهي لا تذكر ذلك، أخذت تلوم نفسها: “يا إلهي ماذا فعلت؟!” لكنها نظرت للفتاة بجانبها فرأت دموعًا حبيسة بعينيها، سمعتها تنادي دوق باسم آخر بألم، استطاعت نايدا أن تشعر بحب الفتاة العميق لدوق، تذكرت الفستان الوردي الذي أعطاها دوق إياه، هي وحدها ظنته هدية لكن هذه الفتاة تماثلها طولًا ويبدو أن لهما القياس نفسه، تساءلت فجأة عن تلك الفتاة وعن علاقتها بدوق، تنبهت لكون الفتاة تعرفها وهي لم تسمع شيئًا عنها، تذكرت غياب دوق عنها من وقت لآخر، تذكرت تلك القبلة الخاطفة التي أربكتها، تذكرت شعورها بأنها لم تكن إلا قبلة عابرة بلا معنً حقيقي، دارت الأفكار برأسها في جزء من الثانية، رأت دموع الفتاة تغرق عينيها، رأتها تنظر لدوق نظرة عاشقة، شعرت نايدا بعجزها عن إصلاح ما فعلت، شعرت أن لا مكان لها هنا الآن، شعرت أن بجانب دوق فتاة أقدر على مساعدته منها، فكرت أن تهرب من هنا، إلى اللا مكان، نظرت للفتاة تسألها: “تحبين دوق، أليس كذلك؟” احمر وجه الفتاة خجلًا فشعرت نايدا أنها أصابت الحقيقة فاستدركت: “أعتقد ذلك، أحب دوق أيضًا من المحتمل أكثر منك” تمنت نايدا أن تقول للفتاة أنها آسفة جدًا لما حدث، وأنها آسفة بحجم حبها الكبير له، وأنها تتركه لها وهي واثقة من قدرتها على مساعدته، التفتت الفتاة لنايدا مندهشة من كلامها فأومأت لها برأسها كأنها تقول: هو لك فاعتن به!
ركضت نايدا دون كلمة إضافية، غادرت مركز الأبحاث، اتجهت إلى حيث وجدت دوق أول مرة، كانت تصرخ: “آسفة يا دوق لما فعلت، أحببتك حقيقة” تمنت لو يحمل الهواء كلماتها إليه، نايدا لم تجد في نفسها الشجاعة لدخول غرفة دوق والاقتراب منه، ماذا يمكنها أن تفعل بقربه؟ وبماذا تخبره؟ نايدا تعرف أنها أخطأت خطأ فادحًا دفعها إليه فيجا، لكنها تعرف أيضًا أنها ظلت لسنوات تحمل استياءً كبيرًا تجاه دوق، فهل من الممكن أن تكون هي سبب نجاته هذه المرة؟ وهل من المؤكد أن اقترابها منه لن يأتِ بما هو أسوأ؟ دارت التساؤلات بعقلها وهي تركض حتى وجدت الصحن الذي هربت منه في مكانه الأول، فدخلت إلى قمرة قيادته وانطلقت به، رأت قوات فيجا تحلق في السماء، قدرت أن دوق لن يتمكن من محاربتهم الآن، فهو كما قالت الفتاة: “في حالة غيبوبة وليس على اتصال بالعالم الخارجي” لهذا رأت نايدا أنها الوحيدة القادرة على التصدي لهذا الجيش القادم ولو كان الثمن حياتها، كانت ترى أنها مسؤولة مسؤولية تامة عما حدث لهذا اتخذت قرارها وانطلقت، كانت تخاطب دوق من داخل قلبها، كانت تتمنى أن يشف سريعًا وأن يستعيد قوته وحيويته من جديد، كانت توقن أنه الوحيد القادر على القضاء على فيجا الكبير وتدميره، كانت ترى أنه الوحيد الذي بإمكانه أخذ الثأر لأجل كوكب فليد الذي دمر ولأجل ما عانته طيلة السنوات الماضية، كانت تقدم له اعتذارًا كبيرًا ثمنه حياتها.
لم يمض وقت طويل حتى سمعت نايدا صوت دوق يناديها من داخل جهاز الاتصال، ابتسمت وتنفست الصعداء لكنها لم تعدل عن قرارها، حتى لو عاد دوق لرشده وأصبح بإمكانه أن يقاتل، إن ما اقترفته من ذنب الليلة الماضية لن يجعل بقاءها معه ممكنًا، لقد تشوه حبها له وتدنس على يد فيجا الكبير، هو يستحق حبًا أنقى بنقاء تلك الفتاة التي كانت تذرف الدموع لأجله وتنادي باسمه الذي لا تعرفه نايدا.
ورغم صرخات دوق وطلبه منها أن تتوقف إلا أنها مضت بكل حزم نحو جيش فيجا واصطدمت به بعنف وانفجرت في سماء اليابان ولم يتبقَ منها غير ذكراها وصرخات دوق باسمها الذي كتبه بدخان جريندايزر في السماء.
اترك تعليقًا