الحلقة التاسعة والثلاثون – أعرف أنك ستفعل..!
أخيرًا أستطيع أن ألتقط نفسًا عميقًا لأستعد للحياة الجديدة التي تنتظرني! في مغرب اليوم جمعتنا شرفة مركز أبحاث الفضاء: أبي، كوجي، دكتور أمون، دايسكي وأنا، وفيها وضع أبي يده بيد الدكتور أمون وهو يقول باعتزاز: “ما كنتُ أسعد مني اليوم يا دكتور أمون! وأخيرًا انضمت هيكارو إلى فريق المجد”، ووقفنا – دايسكي وكوجي وأنا – نمد أيدينا ونضع كفوفنا فوق بعضها البعض، وأخيرًا أصبح الحلم حقيقة! ما كنتُ أسعد مني اليوم كما قال أبي فعلًا! نجاحات متتالية لم أكن أتصور أن أعيشها بهذه السرعة، لكن كيف تحقق كل ذلك في غضون أيام قليلة؟
منذ يومين، وتحديدًا قبل موعد بطولة الجمباز بيوم واحد، كنت قد قررت أن أتحدث لدايسكي صراحة حول رغبتي في القتال، علي أن أناقشه بوضوح، علي أن أجد حلًا لهذا التوتر الذي احتدم بينه وبيني منذ فترة، والذي دفع كل واحد منا لتجنب الآخر وتحاشي الحديث إليه أو مواجهة عينيه، كنت مشتاقة لدايسكي كثيرًا وبحاجة حقيقية لقربه ودعمه لي، كما أن قلقي عليه وعلى أحواله كان يعصف بنفسي من وقت لآخر، ولم أكن أجد بنفسي الشجاعة لكسر هذا الحاجز الذي بُني بيننا بسبب تطلعاتي الجديدة، لكن قرب موعد البطولة زاد من حاجتي ورغبتي لكي أفعل، تذكرت أن بإمكاني تغيير الواقع مهما بدا صعبًا، كل ما كنت أحتاجه هو الشجاعة، تذكرت ما رواه لي جورو في الليلة الماضية، تذكرت عيني دايسكي وهما تراقباني، شعرت بالسكينة تغمر قلبي، بإمكاني المضي قدمًا فيما أريد.
لهذا استيقظت في صباح ذلك اليوم وقد عقدت العزم على ذلك، نزلت للمطبخ لإعداد الإفطار، تفاجأت بدخول دليسكي المطبخ صباحًا، ولم أكن أعرف أنه قد قضى ليلته هنا، لم أحاول رؤيته ولم يحضر للعشاء وظننته قد قضى ليلته في المركز، دخل المطبخ مبتسمًا فارتبكت وأنا أسأله:
هل يلزمك شيء ما؟
صباح الخير!
تجاوز دايسكي سؤالي وارتباكي وحياني بود فأجبت تحيته، ارتسمت البسمة على شفتي دون أن أحاول رسمها، كنت مشتاقة فعلًا لرؤيته هذا الصباح، ابتسامته الهادئة وصفاء عينيه منحاني الكثير من السعادة، وجدتها فرصة مناسبة لبدء حديث ودي معه:
أنتَ مدعو لحضور استعراض الجمباز غدًا بالمناسبة!
ماذا؟
قالها وقد اتسعت عيناه وبدت عليه الدهشة، في هذا المكان منذ خمسة أشهر مضت تجادلنا حول إمكانية مشاركتي في تلك البطولة، واليوم في المكان ذاته كنت أؤكد لدايسكي نجاح محاولتي لتحقيق حلمي وأعود لأشاركه إياه بتفاصيله:
تذكر بطولة الجمباز التي حدثتك عنها منذ أشهر؟ لقد تم قبولي فيها كممثلة عن مدرسة واي؟
كيف حدث ذلك؟!
لا شيء، فقط تمكنت من إقناع المدير باختياري ممثلة لمدرسته بدلًا من بطلة الجمباز الأولى لديه.
بهذه البساطة؟
لا دايسكي! لقد ربحت في المباراة الفردية التي أقامتها المدرسة بين الآنسة كامي وبيني، ربحت بفارق النصف عشر فقط.
جميل! تهاني هيكارو!
كنت مبتهجة لحديثنا، ولخروجي من حالة العزلة التي لازمتني طوال الأسابيع الماضية، أعود اليوم لأشارك دايسكي مخططاتي قبل البقية، أشاركه كصديق عزيز على قلبي، وكحبيب أحتاج لوجوده وحضوره بجانبي، سألته:
ستأتي لحضور الاستعراض في طوكيو غدًا؟
بالطبع سأفعل.
قالها واستعد للانصراف، ثم توقف للحظة والتفت إلي مردفًا من أعلى كتفه:
تستطيعين تحقيق ما تريدين مهما بدت صعوبته!
قالها وعيناه مركزتان على عيني وانصرف دون أن يترك لي مجالًا للرد، ودون أن أعرف سبب حضوره للمطبخ من الأساس، تدفق الدم في وجهي فجأة، شعرت بحرارته وارتبكت، ما الذي يعنيه دايسكي بالضبط؟ أتراه يشير لما حدث بالأمس؟ لا أعرف!
أنهيت إعداد الإفطار بارتباك، وعلى المائدة أخبرت أبي وجورو بشأن الاستعراض، كان أبي سعيدًا بذلك، في حين بدا جورو متحمسًا بشدة، جورو هو الأكثر وضوحًا في التعبير عن مشاعره، هكذا الأطفال دومًا، أما دايسكي فقد ابتسم بهدوء وقال أنه واثق من نجاحي.
تحاشيت بعدها الحديث عن معركة الأمس مع دايسكي رغم عَقْدِي العزم على ذلك، تلك اللحظات القصيرة في صباح اليوم غيرت مزاجي ورفعت من معنوياتي ولم أشأ أن أخوض جدالًا معه، ليس الآن على الأقل، انشغلت بالتدريب المكثف طوال اليوم، وبالطبع لم تسنح لنا الفرصة لنسهر سويًا فقد كان علي أن أذهب للنوم باكرًا.
في يوم الاستعراض ذهبنا جميعًا لطوكيو بالجيب: أبي، جورو، كوجي، دايسكي وأنا، تركتهم في مقصورة المشاهدة بعد أن تمنى لي الجميع حظًا طيبًا، توجهت
للداخل كي أبدل ثيابي وأستعد، وبدأ الاستعراض فعلًا، ولسوء حظي كنت المتسابقة الأخيرة في القائمة، لهذا وقفت أتابع المتسابقين والمتسابقات واحدًا تلو الآخر، كلهم ذوو مستوى أداء رائع، وكلهم منافسون حقيقيون
سيطرت على أعصابي قدر استطاعتي وحين جاء دوري انطلقت.
حاولت تكرار ما فعلته في مدرسة واي، لم أنظر للحضور من حولي، تحاشيت الجميع عدا دايسكي الذي كنت أشعر بعينيه تلتقي بعيني دون أن أراهما فتغمراني بروح الحماس والتحدي
أخذت أؤدي حركاتي الواحدة تلو الأخرى، بذلت كل ما بوسعي من طاقة، كنت أسمع مجموع تقاطي يزداد مع كل حركة جديدة
الآن الحركة الأخيرة والنتيجة تسعة وتسعة أعشار، كان هذا أعلى مما حققه بقية المتسابقين، لهذا وقفت باعتداد ألتقط أنفاسي أخيرًا.
عند إعلان النتيجة كنت أنا الحاصلة على المركز الأول، تسلمت ميداليتي الذهبية التي صرت أعتز بها اعتزازًا لا مثيل له، وانهالت علي كاميرات الصحافة، كان هذا الحدث رائعًا ولا يمكن نسيانه.
ذهبت لأبدل ثيابي وخرجت للقاء أسرتي، كان الكل سعيدًا بنجاحي، أبي تغمره الفرحة، أخذ يعانقني ويقبلني بحب وهو يقول بأني رفعت اسم عائلة ماكيبا، جورو كان يعيد على مسامعي وصفًا لحركاتي وكم كانت رائعة، كوجي علق على مرونتي وخفتي وقدرتي على التوازن والصمود، قال أني بدوت كإنسان فضاء، أما دايسكي فقد كان كعادته هادئًا وعميقًا في شعوره ومتحفظًا أمام الكل، قال أنني رائعة وأن لي إرادة من حديد، قال أني نجحت في هذا التحدي رغم صعوبته، لقد كانت مشاركتي في تلك البطولة أساسًا ضرب من التحدي لما تصوره دايسكي سابقًا.
لا زلت أذكر بدقة تلك الأيام التي لم يكن فيها متيقنًا من قبولي في البطولة رغم مشاركته لي في تدريباتي أحيانًا، وذهابه معي للمدينة لشراء متطلبات ذلك اليوم ومنها الثوب والحذاء اللذين ارتديتهما اليوم فقط.
التقيت كذلك بمدير المدرسة والآنسة ميساكي اللذان أخذا يهنآنني بحرارة، أخبرني المدير أن الآنسة ميساكي كانت تتوقع فوزي، وأنه راهن على ثقتها بي، وأني كنت أهلًا لتلك الثقة، قال أن مدرسة واي محظوظة بانتسابي إليها، أخبرتني الآنسة ميساكي أن علي الحضور لمدرسة واي بعد عدة أيام لحضور الحفل الذي سيقام بتلك المناسبة، شكرتهما بصدق ووعدت الآنسة ميساكي بالحضور.
أخيرًا عدنا للمزرعة وأقمنا احتفالًا صغيرًا بتلك المناسبة، وبعد تناولنا جميعًا لطعام العشاء صحبني دايسكي بدراجته إلى حيث لم يخبرني وقتها، قال أنه يريد أن نحتفل معًا بفوزي، حمل قيثارته وبعض الحطب وانطلقنا بدراجته، كانت الليلة صافية والقمر بدرًا مكتملًا، وصلنا صوب البحيرة والجزيرة الصغيرة إياها، يحب دايسكي ذلك المكان ويشعر فيه بالراحة، أذكر أن أول حديث عن كوكب فليد كان هنا، كذلك حين خرجت أبحث عنه بعد انتحار نايدا كان هنا وحيدًا، لهذا عرفت أن دايسكي يحمل اليوم مشاعر متضاربة، وأنه مثلي قد أنهكه الصراع والخلاف فيما بيننا.
كنت أفكر طيلة الطريق فيما سنقوله؟ وكيف؟ لم أتمكن من الحديث مع دليسكي في اليوم السابق كما خططت، لكن ماذا سيحدث الآن؟ وفي حين كنت غارقة في تساؤلاتي حافظ هو على هدوئه وصمته فزاد من حيرتي كثيرًا.
وصلنا وجلسنا على العشب الأخضر وقد استند هو لجذع شجرة وكنت على يمينه نرقب النار الصغيرة أمامنا، كان ودودًا ولطيفًا على نحو افتقدته منذ مدة، طوق كتفي بذراعه الأيمن فغمرني شعور غريب، كلما طوقني دايسكي بتلك الذراع تحديدًا أشعر أنني أقرب إلى روحه، وأنه يريد أن يبثني آلامه بأكثر من سعادته، أكون قريبة من جرحه وموضع ألمه، وقريبة من مخاوفي التي تؤرق ليالي بلا انقطاع منذ أشهر، وأجدني في موضع وسط بين ألمه بمرارته وقلبه بدفئه وروعته، لهذا أخذت مشاعري تتهدج على نحو حُرمت منه طويلًا في الأسابيع الماضية، نسيت كل شيء عدا حبي لدايسكي ورغبتي بالحياة بقربه، وغمرني شوق جارف إليه وكأننا انقطعنا عن رؤية بعضنا البعض لسنوات، أما هو فقد جعل يتحدث بهدوء وانفتاح، هنأني بفوزي بلطف، قال أنه على الرغم من دهشته جراء مشاركتي إلا أنه كان سعيدًا بإصراري وفخورًا بعزيمتي، قال أنه خلال الاستعراض كان متوترًا مثلي وأنه كان يشاركني شعوري، طلب مني أن أقص عليه ما حدث في مدرسة واي وكيف تم قبولي بتفصيل أكبر، فرويت له ما حدث، سألني عن سبب عدم إخباري له بالأمر، فأجبته بأن الظروف وقتها لم تكن مواتية كفاية للأسف وأني لم أتمكن من ذلك رغم رغبتي به، سألته عن أحواله وعن صحته، طمأنني بأنه بخير، كانت الأجواء مشجعة لبدء حديث واضح وصريح معًا، لهذا قلت له:
تذكر دايسكي تلك الأيام التي دربتني فيها على قيادة الجيب!
أومأ برأسه إيجابًا وهو يجيبني:
أذكر اليوم الذي أتينا فيه إلى هنا وكنتِ قلقة بشأن القيادة ليلًا، ورغم ذلك نجحت دون مساعدتي لك!
صحيح، كنت قلقة وقتها، وتصورت أن مخاوفي بقيت حبيسة عقلي فقط، لكن حدث عكس ذلك.
عاد يومئ برأسه في صمت فالتفت إليه حتى صارت عيوننا على بعد بضعة سنتيمترات فقط وأنا أردف:
دعنا نفعلها معًا دايسكي أرجوك! علمني كيف أقاتل!
صمت قليلًا وعيناه لا تفارق عيناي ثم أجابني:
دعينا نؤجل الحديث في هذا الموضوع رجاءً!
وعلى الرغم من أن جوابه كان مخيبًا لآمالي كثيرًا إلا أن لهجته الحانية جعلتني أمسك عن الحديث فعلًا، أسندت رأسي لكتفه القوي وأغمضت عيني باستسلام، وبقيت أنعم بقربي منه وبحبه وهدوئه، أما هو فقد مد يده يلتقط القيثارة التي بقيت صامتة لأسابيع وجعل يدندن عليها لحنه المعتاد، عدت أسمع ألحان دايسكي التي اشتقت إليها كثيرًا، ولأول مرة منذ أشهر طويلة شعرت من جديد أنني وردة تتفتح بتلاتها مع كل رنة جديدة، تمامًا مثل الأيام الخوالي، وهكذا انتهت ليلتنا بهدوء وسكينة افتقدناهما طويلًا، كان هذا أجمل احتفال يمكن أن أحظى به حقًا، لحظات من الهدوء والحب نسرقها من الزمن وننتزعها من بين فكي الحرب التي باتت تخنقنا بالفعل!
صباح اليوم التالي نهضت بمزاج جيد، منيت نفسي بنهاية مشرقة لخلافي مع دايسكي، طلب مني أن نؤجل الحديث بهذا الخصوص لكنه بدا أقرب للموافقة والتأييد، لهذا قدرت أن الأزمة على وشك أن تُحَل، دخل جورو لغرفتي مبتهجًا وكنت لا أزال أمشط شعري:
ما الأمر جورو؟
انظري هيكارو!
قالها وهو يمد يده لي بصحيفة مطوية، تناولتها من يده فرأيت صورتي في الاستعراض وأنا أقف على المنصة مرتدية الميدالية الذهبية ورافعة إياها بيدي
ابتسمت لجورو فبادرني بقوله:
هيكارو.. هل ستقاتلين بسبيزر مجددًا؟
نعم يا جورو، أريد أن أفعل ذلك، وعلي السعي لتحقيقه!
أريد أن أفعل مثلك يا أختي.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يخاطبني فيها جورو بتلك اللهجة، شعرت أن نظرة جورو لي بدت مختلفة كثيرًا عما فات، لقد بدأ جورو يمنحني الاحترام والتقدير أكثر من أي وقت مضى، لهذا مددت يدي أربت على كتفه الصغير قائلة:
عليك أن تفعل ذلك يا جورو، من واجبنا أن ندافع عن هذه الأرض، صحيح؟
نعم.
قالها بحماس وهو يومئ برأسه إيجابًا ثم انصرف، أكملت أنا ارتداء ثيابي ونزلت من غرفتي لأنهي بعض أعمالي اليومية كالمعتاد، حال خروجي من البيت وجدت جورو يركض نحوي هاتفًا:
هيكارو! دايسكي ذاهب إلى مركز الأبحاث على نحو مستعجل.
ماذا؟
اندفعت مسرعة صوب المرآب حيث دراجة دايسكي وأنا أتساءل عما عساه قد حدث بالضبط، وجدت دايسكي بالفعل يهم بركوب دراجته، بدا وجهه صارمًا
وبلا انفعالات تقريبًا، هتفت به بنبرة تجمع بين التساؤل والإقرار:
دايسكي، يوفو في طريقه إلينا؟
ازدادت ملامحه صرامة واتخذ مكانه على مقعد القيادة دون أن يجيبني بشيء، فاقتربت منه محاولة استيقافه، وضعت كفي على كفه الممسكة بمقود دراجته لكنه هتف بي:
دعيني هيكارو أرجركِ..دعيني!
كان عصبيًا وحادًا على غير العادة، هززت رأسي نفيًا أرجوه أن يتراجع عن موقفه، لا يمكن أن تستمر الحال هكذا! لكن دايسكي كان أكثر عنادًا وإصرارًا، أبعد يدي الممسكة بيده، فقلت له بينما كانت يده لا تزال ممسكةً بيدي:
رجاءً خذني معك.. خذني معك!
لم أكن متيقنة من أن دايسكي ذاهب لساحة قتال فعلًا إلا أنني تمنيت أن تزول الأزمة وأن أذهب لمركز الأبحاث معه استعدادًا لمعركة محتملة، تمنيت أن نذهب معًا بموافقته ومباركته لهذا الحلم، لكن دايسكي ظل مصرًا على موقفه وكأن ما عشناه بالأمس كان حلمًا، أفلت يدي وأدار محرك دراجته وهو يقول:
هيكارو، لن تعيشي سوى مرة واحدة، اهتمي بنفسك!
أعرف أن هذا مربط الفرس، وهذه هي نقطة الخلاف الجوهرية بيننا منذ فترة، لهذا استجمعت شجاعتي، وقررت مواجهة مخاوف دايسكي بقوة، أيًا كانت النتيجة لا يهم، علي أن أكون أكثر صراحة معه، استأت في الماضي من كتمان دايسكي للكثير مما يخصه ويعانيه عني، اليوم لن أفعل ذلك، وقفت اعترض طريق دراجته، انحنيت اتشبث بزجاجها الأمامي، قلت له بجدية:
مستعدة أن أضحي بحياتي، لا تهمني حياتي!
كنت صادقة فعلًا، لا تهمني حياتي إن كانت ستقلل من ضحايا الأرض ولو قليلًا كما قال دايسكي قبلًا وهو يرد على مخاوفي كلما خرج للقتال، كان يقول بأنه لا يخاف من الموت، وأنه لن يُقتل رخيصًا، تعلمت منه ذلك واليوم أنا أنطق بما علمني إياها، أجيبه بمبدئه هو، أفكر مثله، أنا اليوم لست الفتاة التي كنت عليها، أنا فتاة أنضجها الحب والحرب وصداقة رجل بظروف دايسكي وماضيه وأخلاقه.
ارتسم الفزع على وجه دايسكي للحظة، لم يكن من الصعب علي أن أقرأ ما دار بخلده من تلك النظرة، امتقاع وجهه، ذلك الرعب الذي أطل علي من عينيه الزرقاوتين، تمتم بكلمة واحدة مشدوهًا: “ماذا؟”
وعلى الرغم من ذلك فقد مد ذراعه يحاول إبعادي عن طريقه مجددًا وهو يقول:
لا، لن أسمعك، ابتعدي عن طريقي!
كانت عصبيته شديدة ولهجته حادة عما اعتده طوال عشرتي له، كان دايسكي قد بلغ قمه إصراره على موقفه، والمشكلة أنني أنا أيضًا كنت قد وصلت لقمة عنادي ورغبتي في تحقيق طموحي وعدم استسلامي، لهذا باءت محاولتنا للنقاش بالفشل للأسف، وانطلق هو عابس الوجه، وعدت أنا للداخل مستاءة ومحبطة للغاية.
التقاني أبي في طريق عودتي للبيت وأصر على أن أتبعه لغرفته، رغم عدم رغبتي إلا أنني كنت مضطرة لأن أجيب طلبه، تبعته فعلًا ويا لا المفاجأة! لقد اشترى لي أبي زيًا خاصًا للقتال، زيًا يجمع اللونين الأبيض والأحمر وحزام ذو حلية ذهبية محفور عليها أول حرف من اسمي، تعجبت! متى وكيف استطاع شراء شيء كهذا؟ لم يمضِ على معرفة أبي بما يحدث سوى بضعة أيام، كيف استطاع فعل ذلك يا ترى؟ أمعقول أن أبي كان سعيدًا بقراري ورغبتي لهذا الحد؟!
عدت أنظر للزي بإعجاب، كان جميلًا فعلًا، قال أبي أن ألوان زيي الجديد ستذكرني دومًا باليابان وعلي أن أحافظ عليها أرضًا خضراء تسطع شمسها كل يوم، قال كذلك أن حلية حزامي ستجعلني أحارب لشرف عائلة ماكيبا، قال أن علي أن أبذل ما بوسعي لمقاومة الغزاة، ورغم سعادتي بهدية أبي إلا أنني أطرقت رأسي محبطة، سألني أبي عما يحزنني فأخبرته بأمر دايسكي، كانت هذه هي المرة الأولى التي يدور فيها حديث كهذا بيننا أبي وأنا، فقد بات أبي اليوم مدركًا للحقيقة كاملة، واليوم صار بإمكاني أن أبوح له بحرية، أخذ أبي يخفف عني، قال أنه سيحاول تدريبي قدر استطاعته، وأنه سينقل لي كل خبرته كراعي بقر، قال أن تدريبي وتفوقي سيدفعان دايسكي لتغيير رأيه لا ريب.
أصر أبي على أن أرتدي الزي الجديد وأن أتبعه للغابات لتبدأ أولى تدريباتنا معًا، لم أكن متحمسة كفاية لكن لم أشأ أن أعارضه، ونزلت عند رغبته.
ذهبنا للغابة فعلًا، وبدأ أبي يتحدث باعتزاز عن تاريخ أجدادنا مجددًا ثم بدأ يستعرض بطولاته في الغرب، فجأة لمحنا بضع صحون طائرة تعبر مسرعة فتبعناها حتى وصلنا لحافة صخرية، اقتربنا ننظر لأسفل، فوجدنا بضع جنود من فيجا ينبطحون أرضًا ناظرين صوب مركز الأبحاث، بدا أنهم يتجسسون، تهامسنا بضرورة الإبلاغ عن هؤلاء وهممت بالنهوض فعلًا والإسراع للمركز، لكن لسوء الحظ انهارت حافة التربة تحت كفي، وانهال القليل من الرمل مع بضع حصوات صغيرة وأصابت أحد الجنود، النتيجة كانت بالطبع التفات الجنود ناحيتنا، أطلقوا أشعتهم صوبنا وانفجرت الحافة التي كنا نقف عليها منذ ثوانٍ معدودة، وبدأ الجنود بمطاردتنا.
جعلنا نركض في الغابة صوب مركز الأبحاث، بدأ أن الأمر صعب على أبي مع تقدمه في العمر، لهذا توقف يلتقط أنفاسه، كنت أعرف أن هذه الثواني قد تعني الكثير وأننا قد ندفع حياتنا ثمنًا لها، ويبدو أنه كان مدركًا لهذا أيضًا.
كنا على مفترق طرق في تلك اللحظة، تفاجأت بأبي يتجلد ويطلب مني أن أتركه هنا وأسرع لإخبار دكتور أمون بما يحدث، قال أنه سيبقى ليضلل رجال فيجا، كنت في موقف لا أُحسد عليه، علي أن اختار بين أبي وبين مصير الجميع، لقد بدأ الاختبار بالفعل وها أنا أقف موقف دايسكي فعلًا كما حدثني من قبل، قال له القائد يارا يومًا: “حياة البشر على الأرض مقابل الجريندايزر” ، وحين مرض تارو قال له دكتور أمون: “هذه الساعة قد تدمر الأرض فماذا ستفعل” و اختار دايسكي إنقاذ ملايين البشر على حساب تارو رغم حبه الشديد له، إذن علي أن أختار وبشجاعة، لهذا نظرت لأبي بقوة وانطلقت.
أخذت أركض بأقصى ما لدي من قوة، لكن ولسوء الحظ فقد لمحت جريندايزر يغادر المركز ومن ثم نبعه سبيزر المزدوج، فعرفت أن الامتحان صار أكبر، حتى لو بلغت مركز الأبحاث فبأي سلاح يمكن أن أحارب؟ لم أكن أعرف بالضبط لكن كنت على يقين من ضرورة إبلاغ دكتور أمون بالأمر مهما حدث، لهذا واصلت العدو، وصلت أخيرًا لمركز الأبحاث ورأيت ثلاثة صحون طائرة تتجه نحوي، ولمحت دراجة دايسكي النارية قرب باب المركز فقررت استخدامها لتعطيل صحون فيجا ريثما يعود دايسكي وكوجي.
حمدًا لله! لقد جاء تدريب دايسكي لي على استخدام دراجته يومًا في محله! علمني دايسكي كيف أقودها وأناور وأقفز بها للظروف الطارئة ولا يوجد ما هو أسوأ مما أواجهه اليوم، أخذت أستعيد تعليمات دايسكي بدقة وشرحه لاستخدام أسلحة الدراجة، كنت قد تعلمت استخدام تلك الأسلحة على نحو نظري وأصبح علي اليوم تجربتها عمليًا في ساحة قتال حقيقية.
جعلت أناور جنود فيجا، أتفادى أشعتهم، أحاول جذبهم بعيدًا عن مركز الأبحاث وتعطيلهم قدر الإمكان، كنت أستدير بحركة مباغتة من وقت لآخر وأحاول التصويب عليهم، أطلقت الصواريخ مرارًا، لم أنجح للأسف، أخطأت التصويب أحيانًا واستطاعت الصحون أن تصوب نحو صاروخي قبل أن يبلغها أحيانًا أخرى، لكني نجحت أخيرًا في إسقاط أحد الصحون بالصحن القاذف وانفجر أمام عيني.
انبعث صوت دكتور أمون من جهاز الاتصال:
هيكارو هذا أقصى ما تستطيعين، لا تتورطي أكثر، عودي الآن إلى مركز الأبحاث!
وعلى الفور نفذت تعليمات دكتور أمون وأسرعت باتجاه المركز، بقيت الصحون تتبعني بشراسة وأصاب أحدها شجرة وأسقطها لتعترض طريقي، لهذا استجمعت شجاعتي وقفزت بالدراجة، نجحت في تخطي الشجرة لكن أطلق صحن آخر أشعته على الدراجة وأصابها، ووجدتني أسقط في الهواء، هذه المرة ساعدتني تدريباتي في الجمباز خاصة في الفترة الأخيرة، فقد تمكنت من الحفاظ على توازني ونزلت على قدمي وواصلت العدو بسرعة صوب بوابة المركز.
فور عبوري من البوابة التقطت إحدى البنادق المعلقة وأمسكتها بتأهب، رأيت باب المركز يقاوم أشعة الليزر التي تطلقها الصحون لتدميره فدب الفزع في عروقي، حاولت السيطرة على أعصابي، كنت أدعو من أعماق قلبي أن يعود دايسكي لانقاذي وتدمير تلك الصحون قبل أن ينهار باب المركز تحت وطأة أشعتها.
وفي اللحظة التي انهار فيها الباب فعلًا تملكني رعب لا يمكنني نسيانه، رأيت فجوة كبيرة في الباب، ورأيت الصحون أمامي مباشرة.
عرفت لحظتها أن علي أن أقاتل مهما كان الثمن، لكن في لحظة تغير كل شيء، رأيت الصحون تغادر مكانها وتنطلق عاليًا ولمحت جريندايزر في السماء، انهارت مقاومتي فجأة وسقطت على ركبتي من شدة الانفعال وأنا أهتف باسم دايسكي بحب وامتنان!
غادرت مكاني وتمكنت من دخول المركز والوصول للدكتور أمون الذي أخبرني بأن جريندايزر يحارب صحون فيجا الآن، وقفت أراقب معه ما يحدث حتى انتصر دايسكي وكوجي وكانا في طريقهما للعودة، وقتها استدار دكتور أمون ووضع كفه على كتفي قائلًا:
شكرًا هيكارو! جاءت مساعدتك في وقتها، فلقد أرسلت قوات فيجا صحنًا لخداعنا وإبعاد دايسكي وكوجي عن المركز، ولولا شجاعتك ومحاربتك منفردة لتدمر مركز الأبحاث!
كنت ممتنة لدكتور أمون، وسعيدة لنجاحي بتقديم المساعدة قدر استطاعتي، لكني كنت قلقة من مواجهة دايسكي مجددًا، أخبرني دكتور أمون أنه سيكرر المحاولة مع دايسكي وأنه واثق من قدرته على إقناعه هذه المرة، تمنيت من أعماق قلبي أن تكلل جهوده بالنجاح.
غادرت غرفة الرصد عائدة للمزرعة، كنت بحاجة للاطمئنان على مصير أبي الذي اضطررت لتركه خلفي في الغابة، “هذه هي الحرب يا هيكارو” قالها لي دايسكي منذ سنوات وها أنا أستوعب عمق جملته كل يوم، بحثت عن أبي واطمأننت على أنه بخير، لقد عاد سالمًا والحمد لله، استطاع أبي أن يخدع جنود فيجا بحيلة بسيطة لكنها ولحسن الحظ قد انطلت عليهم! رويت لأبي ما حدث وأخبرته بأن المعركة قد انتهت بانتصارنا، استبدلت ثيابي بعدها وقررت العودة للمركز، أراد أبي مرافقتي فذهبنا معًا.
هناك وقفنا في الشرفة، التقت عيناي بعيني دايسكي للحظة، لكن هذه المرة لم أتمكن من قراءة ما يدور بعمقه، كل ما رأيته هو بحر متلاطم الأمواج وعواصف كادت أن تسحق عقلي الذي يحاول تجاوزها لما وراءها، اختار دكتور أمون أن يتحدث لدايسكي في حضورنا جميعًا ولا أعرف السبب وراء هذا القرار الغريب، أثنى على دوري بقوله:
لولا جهود هيكارو لتهدم مركز الأبحاث.
التفتَ إليه دايسكي وكأنه قد فهم ما يحاول دكتور أمون قوله، في حين استكمل الأول حديثه على نحو مباشر:
دايسكي، أنا على يقين من أن هجمات العدو ستشتد؛ فهو شرس، من الخير لنا أن نستعين بهيكارو!
هذه المرة أغمض دايسكي عينيه بقوة وهو يستمع لحديث الدكتور أمون، انفطر قلبي عليه في تلك اللحظة، هو الآن وحده في قلب تلك العاصفة العاتية يصارع أمواجًا جبارة، ليت بإمكاني فعل شيء لأجلك دايسكي!
لكن لم يطل صمته ورد على دكتور أمون بعصبية:
كما تريد!
لم أصدق أذني، رأيته يلتفت إلي وهو يكمل:
سأحمي حياتك يا هيكارو!
في تلك اللحظة كانت الأرض باتساعها أضيق من أن تستوعب سعادتي، كنت واثقة من صدق دايسكي ومطمئنة لوجودي إلى جانبه، أعرف أن حياتي تهمه لكني منأكدة من أن حياتي لن تكون في خطر حقيقي في وجوده، هذا ما كنت أحاول أن أشرحه له مرارًا، سمعت كوجي يقول:
هذا هو الحل الأفضل.
وأضاف دكتور أمون مخاطبًا أبي:
أصبح لدينا سرب من النسور الفتية يا دانبي!
هنا وضع أبي يده بيد دكتور أمون وهو يجيبه بسعادة:
ما كنت أسعد مني اليوم يا دكتور أمون! وأخيرًا انضمت هيكارو إلى فريق المجد.
كنت كمن يعيش حلمًا جميلًا، التفت أنظر للشمس التي تغرب وكأنها تخبرني بنهاية الأزمة وتمنيني بغدٍ مشرق، سمعت دايسكي يناديني فالتفت إليه، رأيته ينظر لي ويبتسم، مد يده فشددت قامتي ومددت يدي وجمعنا أيدينا معًا كفريق واحد – دايسكي كوجي وأنا – لم أكن قادرة على تصديق ما يحدث، فقد انتهت الأزمة أخيرًا!
هذه المرة عدنا للمزرعة معًا أبي دايسكي وأنا، ذهب أبي للنوم وبقيت مع دايسكي وحدنا، تساءلت عما يمكن أن نقوله بعد ما حدث، فاجأتني كلمات دايسكي بعد صمت طويل دام لأكثر من نصف ساعة ونحن نسير معًا في ليل المزرعة:
وددت لو كان بإمكاني عدم توريطك في الحرب، لكن إصرارك كان أقوى مني..!
أنا..!
توقفت عن السير والتفت إليه، كنت مرتبكة لا أعرف ما أقول حقًا، نبرة صوت دايسكي تحمل الكثير من الاضطراب والألم، التفت هو أيضًا وصار وجهه مقابلًا لوجهي، رأيت ملامحه المتوترة في ضوء القمر، رأيت دمعة حبيسة بعينيه يحاول كبحها بصعوبة، ضمني إلى صدره فجأة بقوة وهو يستطرد:
سوف أدربك بنفسي كما أردتِ، ستصبحين ماهرة بالقتال.. وسأحميك بحياتي، أعدك بذلك!
دايسكي!
نطقت باسمه محملًا بكل مشاعر الحب والامتنان التي أكنها له، أعرف أن حياتي بأمان بقربه، وأعرف أن حياتي ستكون فداء لحياته إن لزم ذلك، فداني دايسكي بحياته من قبل، وقف مستبسلًا يتلقى فيضان المياه حين حطم بلاكي السد، استبسل لأجل حياتي، منح بلاكي كلمة شرف حقيقية لأجلي وواجه مصيره بشجاعة، منحني دمه في لحظة من أصعب لحظات حياتي، فداني بقلادته الفليدية واعز ما يملك، وأعرف أيضًا أنني جادة بقراري الذي عقدته منذ زمن طويل، إن كانت حياتي مقابل حياة دايسكي فسأضحي بها!
يبدو العمر طويلًا وهو لم يتجاوز العشرين سنة بعد! ماذا تخبئ لنا الأيام في الغد يا ترى؟!
اترك تعليقًا