الحلقة 72 – أقطاب متعاكسة
أنا منهارة! منهارة.. ضائعة وحزينة جدًا، لأول مرة أشعر بهذا الحد من الانهيار والإنهاك، قلبي يؤلمني، نفسي تئن بين ضلوعي، عقلي يكاد أن ينفجر، لم أصدق أني عدتُ أخيرًا لمركز الأبحاث في صباح ذلك اليوم، غادرتُ سلاحي الملاحي مسرعة، لا طاقة لدي للتحدث لأحد، لا أريد أن أسمع شيئًا، أريد فقط أن أكون وحدي، أريد أن آنس بنفسي بعيدًا عن الكل، خرجتُ على قدمي، ليس معي حصان، ولا سيارة، ولا يهمني الأمر، ولا يعنيني إطلاقًا، ولا أذكر بأني فكرتُ به أساسًا، شيء واحد كان يسيطر على عقلي وكياني.. الهرب، علي أن أهرب، أذهب بعيدًا، بعيدًا جدًا، إلى أين؟ لا أدري! سرتُ طويلًا حتى لم أعد أقوَ على الاستمرار، قادتني قدماي إلى حيث مصب الشلال، جلستُ على العشب الأخضر وقد أسندتُ ظهري لإحدى الأشجار، ثنيتُ ساقاي إلى جواري، بدأتُ ألتقط أنفاسي بصعوبة، أحاول أن أسيطر على هذا الفيضان بداخلي، حيرة، اضطراب، حزن، خوف، توجس، ضياع، ألم ومشاعر لا أعرف كيف لي أن أصفها ولو كنتُ فقط سأخطها على أوراقي الخاصة!
كنا في فصل الربيع، الحقول مخضرة والأزهار في كل مكان، السماء صافية وثمة طير يحلق هناك وحيدًا، نظرتُ إليه وتمنيتُ لو أتعلق بجناحه ويحملني بعيدًا، كنتُ أشعر بالغيوم تلبد سماء نفسي، تجثم على صدري وأعجز عن التنفس بحرية، أحاول أن أتنهد فلا أستطيع، أنفاسي حبيسة صدري، حارة وحارقة وموجعة!
في غمرة ألمي وحيرتي تذكرتُ ذلك اليوم حين ألقيتُ بنفسي بين ذراعي دايسكي باكية أرجوه بقولي:”لا أسرار بعد اليوم دايسكي.. أرجوك” تذكرتُ ضمه لي بقوة، سالت الدموع على وجنتي دون استئذان، فاستسلمتُ لها، كنتُ بحاجة لإفراغ عواطفي بحرية، هنا لا يراني أو يشعر بي أحد، تستطيع الأشجار أن تكتم أسراري للأبد، كانت هذه الذكرى بعيدة، بعيدة جدًا، لكن في ذلك الوقت كنتُ أحاول أن أضيء المزيد من المساحات بيننا، كنتُ أعرف وأفهم ما يحدث، وكنتُ بحاجة لأن يعرف هو بأني أعرف أيضًا، لكن ما أعايشه منذ مغرب الأمس مختلف.. مختلف تمامًا! تنهدتُ بعمق، وأخيرًا استطعتُ أن أتنهد وأن أحرر بعضًا من دخان قلبي الذي ملأ صدري فلم يدع متسعًا لغيره!
أشعر بالحيرة! دايسكي يخفي أمرًا جللًا منذ الأمس، يبدو الأمس بعيدًا جدًا، لكن ما يخفيه دايسكي يحمل في طياته الكثير من السوء والألم، وحدته في مغرب الأمس، وجهه المتجهم، صوته الذي غاب عني لساعات طويلة، جموده، تصرفاته غير المبرره، وخروجه عن أوامر دكتور أمون لأول مرة، يتعلق الأمر بماضي دايسكي ولابد، ذكر دايسكي أنه التقى بابنة فيجا ودار بينها وبينه حديث مبهم، لكن هذا الحديث انتهى بسوء فهم على الأغلب وإلا فما السبب الذي يدفعها لكي تبعث إليه برسالة تؤكد فيها حسن نواياها وتطلب رؤيته مجددًا؟ هو أيضًا أراد أن ينهي حديثًا بدأه معها رغم توجس دكتور أمون، ما رأيته اليوم يربك عقلي بشدة، لقد كان دكتور أمون محقًا في توجسه، ولولا شكوك كوجي أيضًا واصطحابه لنا للحاق بدايسكي لكانت العاقبة أسوأ بكثير، صحيح أن الأميرة روبينا قد لقت حتفها منذ ساعات؛ لكن كان من المحتمل أن نخسر دايسكي أيضًا لولا رحمة الله!
لا زال عقلي مضطربًا بشدة، رأيتُ دايسكي أمام عيني ينهار اليوم، لم أستطع السير إليه، لم أعد قادرة على فهم ما يحدث من حولي، كنتُ مستندة لسلاحي الملاحي وهو على بعد أمتار مني، كان يتحدث للأميرة التي تحتضر، ثم سمعتُ هتاف كوجي وصرخة أحدهم، لقد كان الوزير زوريل هنا يصوب سلاحه نحو ظهر دايسكي، لطفك يارب! لكن لم تمضِ لحظات حتى عرفنا جميعًا أن الأميرة قد فارقت الحياة، رأيتُ دايسكي يفلتُ يديها ويهب واقفًا، رأيته ينثر الزهور على جسدها فعرفتُ أن هذا الجسد قد غدا بلا روح تسكنه، تمنيتُ أن ترقد روحها بسلام، شيء واحد لم أقوَ على تحمله هو صرخة دايسكي الملتاعة، سمعتُ هذه الصرخة من قبل ووقفتُ عاجزة أبكي، هذه الصرخة اخترقت قلبي كسيف ثقيل مسموم، هذه المرة انهرتُ تمامًا، سمعتُ صرخته ورأيته ينظر ليديه فزعًا، رأيته يدور حول نفسه، رأيته يركض منهارًا، سمعته على حافة الجبل يصرخ باسم الأميرة التي فارقت الحياة لتوها، يا إلهي! ليت كفي قادران على حجب هذه الصرخة عن عقلي، لا زلت أسمعها، تتكرر بداخلي بلا توقف! رحماك يارب!
أعرف الأميرة روبينا من حديث دايسكي عنها، أعرف أنها كادت أن تُزَف إليه لأجل سلام كوكب فليد، أذكر أن عينيه لم تلتمع لذكر اسمها كما التمعت لذكر نايدا، أذكر كيف شعرتُ بمكانة نايدا عنده فغمرني الفضول لرؤية الفتاة الفليدية التي خلبت لبه سابقًا، لكن ماذا عما حدث اليوم؟ ما الذي دار بين دايسكي وابنة فيجا الكبير لننتهي إلى هذه النهاية المؤلمة؟ سألتُ نفسي مائة مرة طوال الليل عما عساه قد حدث بين الاثنين، صمت دايسكي وتحاشيه النظر إلي، تصرفاته الغريبة، صرخته التي لا تزال عالقة بنفسي، لحاقه بالفتاة رغم حذره الذي عهدته عليه طوال عشرتنا، لقد حرك قدوم روبينا شيئًا في الماء الراكد، تقتلني شكوكي وتساؤلاتي، تلك الفتاة التي لم أفكر أو أتساءل عنها قبلًا أو أحاول تخيل جمالها وملامحها إلا ليلة الأمس – تلك الفتاة أحدثت أثرًا لا يمكنني فهمه أبدًا!
بقيتُ ليلة الأمس ساهرة، أقلب الأمر يمينًا وشمالًا بلا جدوى، أشعر بوخزة في قلبي من حين لآخر، ذكرى من الماضي البعيد تفاجئنا دون استئذان، ذكرى من الماضي فرقت شملنا بلحظة، ذكرى من الماضي سرقت دايسكي ولا يعرف أحدنا إلى أين، رَفَض الحديث لساعات، رَفَض مواجهتنا جميعًا، لم يصغِ لأحد، كان متوترًا وعصبيًا، لم يكن سعيدًا أو مبتهجًا، رأيته حين وصلتنا نايدا من قبل، رأيتُ السعادة بعينيه، ولم يغب دايسكي عني في تلك الأيام، كنتُ أعرف نايدا، وأعرف ما يحل بها، وأعرتها ثيابي، وعرفتُ متى وأين كان يصحبها دايسكي للتنزه، انتظرتُ أن تتحسن أحوالها فيكون بمقدورها مشاركتنا حياتنا، لكن هذا الماضي الذي زارنا بالأمس يختلف! الأميرة روبينا كادت أن تُزف لدايسكي لأجل سلام كوكب فليد، أخبرني أن هذا كان واجبًا عليه، لم يقل بأنه يحمل لها مشاعر حب أو كراهية، قال أن هذا واجب عليه وأن ليس علينا أن نفعل فقط ما نحب، ماذا عساه قد دار بينهما إذن؟ عقلي على وشك الانفجار، أفكر منذ مغرب الأمس ولا أصل لشيء، ومع كل معلومة جديدة تتعقد الأفكار بعقلي أكثر فأكثر.
آه.. أنا مشوشة بشدة لا أذكر كيف عدنا للمركز؟ لا أعرف ماذا حدث بعد انهيار دايسكي؟ لقد انهرتُ أنا أيضًا، غرقتُ ولا زلت أغرق ولا أعرف كيف الخلاص من هذا البئر السحيق الحالك الظلمة كالليل التعيس، كيف عدنا؟ متى؟ من أعطانا الأمر بذلك؟ ماذا حل بجسد الأميرة؟ لا أذكر شيئًا على الإطلاق! هذا يصيبني بالفزع الشديد، ما الذي حل بي يا ترى؟!
لكن أذكر ما حدث منذ فترة، نعم، كان ذلك في أواخر الشتاء، في تلك المرة أنهينا أعمال الدورية وكنا عائدين إلى المركز حين خاطبني دايسكي على قناة اتصال فردية:
اتبعيني هيكارو!
ألن نعود لمركز الأبحاث؟
كلا.. اتبعيني فقط.
حاضر دايسكي.
يومها لم أكن أفهم لماذا طلب مني أن أتبعه، ولماذا عاد كوجي وماريا وحدهما للمركز، لقد طار دايسكي وتبعته بصمت، كنتُ أتبعه كقائد للفريق في تلك اللحظة، وصلنا لمنطقة خالية وبعيدة، لا بحر فيها! لم أفهم سبب وجودنا هناك، هبط بجريندايزر ففعلتُ مثله، غادر كل منا سلاحه، رأيته وقد غادر جريندايزر دون خوذته، توجه نحوي فتقدمتُ صوبه، نظرتُ إليه بتساؤل، فمد يده يرفع خوذتي عن رأسي وهو يقول:
أردتُ أن أخبركِ بأمر هام!
كانت نبراته تجمع بين الفرح والحزن كأنما هو يبكي ويضحك في آنٍ واحد:
ما هو؟
انظري!
قالها وهو يشير إلى موضع جرحه القديم، انتبهتُ لزيه العسكري الذي بدا ممزقًا في تلك اللحظة، لكن ما جعلني أشهق بحق هو اختفاء الجرح تمامًا:
كيف حدث هذا؟
طوق خصري بذراعيه وهو يجيبني:
موروس أعطاني علاجًا بأشعة فيجاترون الناقصة فشفي الجرح كما ترين!
معقول! موروس! أنتَ تعني موروس..
قلتها ودموع الفرح تنهمر من عيني، لم أصدق أن تتحقق أمنيتي فعلًا، صليتُ لأجل معجزة تنهي آلام دايسكي، وها هي تتحقق، حمدًا لله! قاطعني دايسكي بقوله:
نعم هو هيكارو موروس أمير نجم مورو .. هو!
اكتست ملامحه بالحزن وهو يستطرد:
لقد غزا فيجا نجمه وأُخِذ أسيرًا، غسل فيجا دماغه وأوهمه أني من فعلتُ هذا بنجمه ودفعه لقتلي.
شهقتُ من وقع كلماته:
ثانية؟ ألا يكفي ما فعله بنايدا من قبل!
خلال لقائنا رأيتُ نجمة ذهبية تومض على ذراع موروس فتوجست منها، أبعدتها بيدي رغم مقاومته فكان ظني في محله، كانت قنبلة معدة لتفتك بنا معًا.
تمسكتُ بذراعيه دون أن أشعر فأكمل:
غاب كلانا عن الوعي لبرهة ونهض موروس وقد استعاد وعيه وذاكرته أيضًا، لكنه صوب سلاحه نحوي فجأة، ظننتُ أن خطبًا أصابه وأنه لا زال تحت تأثير فيجا، أطلق سلاحه وفقدتُ وعي للمرة الثانية وأيقظني قدوم كوجي.
يا إلهي! وأين موروس الآن؟
عندما استعدتُ وعيي رأيتُ وحشه يطير في السماء ثم.. حدث انفجار هائل و..
دمعت عيناه فعرفتُ ما يعني، أرحتُ ذراعيَّ على صدره وكفيَّ على كتفيه، نظرتُ لعينيه بعمق وأنا أهمس:
أنا آسفة لأجله، أعرف بمَ تشعر!
لقد ترك لي موروس ما أذكره به !
قالها بتأثر ورفع عينيه لي وهو يردف:
منحني عمرًا!
قالها وضمني إلي صدره بقوه وبقينا طويلًا، طويلًا جدًا، كانت فرحتي بشفاء دايسكي لا حدود لها، وكان هو يعاني من الحزن على فراق صديقه العزيز والفرح بشفائه بمعجزة لم يتوقعها أحد.
ابتسمت رغمًا عني لهذه الذكرى التي كنا فيها قادرين على مشاركة مشاعرنا معًا حتى لو كانت صعبة الفهم، منذ الأمس وكلانا غارق في وحدته وآلامه، ماذا علي أن أفعل لمواجهة هذا الموقف، لا أدري!
***
بقيتُ على هذه الحال كثيرًا، قليلًا؟ كثيرًا؟ لم أعد قادرة على التمييز، لكني لم أنهض من مكاني مطلقًا، ولا أذكر أني حركتُ ساكنًا، كنتُ بالكاد أتنفس وهذا يكفي، لكني سمعته يناديني، هذا صوت دايسكي مؤكد، أيعقل أن يكون هو بنفسه أم أنني أتوهم أني سمعته؟ جمدتُ في مكاني ولم أجرؤ على الالتفات، إن كان ما سمعته حقيقة فستثبت حتمًا، وإن كان وهمًا فلن أسمعه ثانية.
“هيكارو”
تكرر النداء، هذه المرة لم أكن بحاجة للالتفات للتثبت منه، فقد رأيته أمام عيني، كان هو، كان دايسكي يقف أمامي، لم أرفع رأسي إليه فجلس على ركبتيه، كان وجهه مواجهًا لوجهي، أمسك كتفي وهو يهزني برفق:
هيكارو! أنتِ بخير؟!
رفعتُ عيني أنظر إلى عينيه ولم أكن أعرف بماذا أجيبه: هل أنا بخير لمرآه حقًا؟ هل أنا بخير من الأساس؟ صمتُ رغمًا عني فاستطرد:
أنا آسف لما حدث بالأمس! كان أبي على حق، حتى لو كنتُ أسعى لإنهاء هذه الحرب فليس هذا قراري وحدي.
لم أعد قادرة على فهم ما يقول، هززتُ رأسي كأنما أحاول استعادة ذاكرتي وقدرتي على الكلام، أخيرًا أجبته بصعوبة:
ماذا تعني؟
سأخبركِ بكل شيء.
وبدأ دايسكي يتحدث، قال كلامًا مقتضيًا لكنه بحاجة لساعات لاستيعابه، عرفتُ الآن لمَ كان مهمومًا حائرًا بالأمس، عرفتُ لمَ كان منهارًا صباح اليوم، عرفتُ دون أن أسأله عن شيء، فقط استمعتُ لما يقول بصمت، أخبرني أنه التقى الأميرة روبينا خلال أعمال الدورية، عرَّفته بنفسها وأخبرته أن لديها أمرًا مهما تريد مناقشته، طارت أمامه وهي تطلب منه أن يتبعها، أثبتت له صدق نواياها حين أمنت غدره، كانت الأميرة تحمل أخبارًا مهمة، أخبارًا عن نجم فليد، منحت دايسكي صورة للنجم البعيد، قالت أن إشعاعات فيجاترون تضعف وأن الكوكب فليد يعود للحياة، أثبتت الصورة صدق روايتها، عرضت على دايسكي حلًا لإنهاء الحرب، قالت أن تحالفهما معًا وعودته معها لنجم فليد ستوقف الحرب، كيف؟ لم يجد دايسكي إجابة، باغتهما هجوم غادر من زوريل فتبددت ثقة دايسكي في كل ما أخبرته به روبينا: صورة فليد، عودته للحياة، مقترح السلام، كل شيء، ثم عادت تثير شكوكه برسالتها، قال أنه قاوم كثيرًا رغبته في الذهاب إليها ومعرفة الحقيقة، قال أنه كان يؤيد شكوك دكتور أمون لكنه لم يكن قادرًا على البقاء في هذه الحالة المربكة طويلًا، حسم أمره وذهب إليها، لقد راهن على ثقته القديمة بها لكنه شعر بأنه قد وقع في الفخ ثانية، لام نفسه بشدة وشعر أنه كان مخطئًا بقراره، لكن الأميرة لقت حتفها وهي تحاول فداءه، وفي لحظات موتها أخبرته بمعلومة غاية في الخطورة، لقد باحت له بمكان قاعدة فيجا، كانت القاعدة وفق روايتها قريبة، قريبة جدًا، الجانب الآخر من القمر، يا إلهي! أ ثم فاضت روح الأميرة.
انتهى دايسكي من روايته فنظرتُ إليه بعينين متسائلتين والألم يعتصر قلبي:
كنتَ تنوي مغادرتنا دايسكي؟
كنتُ مستعدًا لفعل ذلك إن كان المقابل سلام الأرض هيكارو.
كان جوابه قاسيًا على نفسي، وجدتني أجيبه:
هذا ليس عدلًا!
قلتها والدموع تبلل مقلتي، فحاول احتواء كفي بين كفيه لكني سحبتُ كفي ممتنعة، كنتُ أحاول مقاومة مشاعري قدر استطاعتي، رغم نبل فكر دايسكي وتضحيته إلا أنني كنتُ أشعر بالظلم في قراره، استطرد هو بنبرة صادقة:
أنتِ على حق! لا ألومك.
ثم أغمض عينيه بألم وهو يردف:
أبي قال ذلك أيضًا!
لم أعرف بمَ أجيبه فصمتُّ طويلًا، غرقتُ في أفكاري حتى لم أعد أشعر بوجوده بقربي، لم يخطر ببالي أبدًا أن ما يشغل دايسكي منذ الأمس هو قرار بهذه القسوة، لم أتصور أنه كان من الممكن أن ننتهي اليوم كلٌ في نجم بعيد، لم أكن قادرة على تقبل موقف دايسكي أبدًا، كنتُ أرى قراره بالتفكير منفردًا في مقترح بهذه الخطورة أمرًا بشعًا، لم أتخيل أن دايسكي لا يصدق بعد أنه واحد منا، وأنه يعنيني لدرجة يصعب وصفها حتى لو لم يكن أرضيًا، كنتُ مستاءة من تخيله يقف أمامي ويخبرني بقراره بالتضحية بحياته لأجل سلام كوكب الأرض، أي سلام تتحدث عنه دايسكي حتى لو قبلتَ فكرتها ورحلتَ معها لفليد؟ أي سلام ونحن هنا بدونك؟ هل سيتركنا فيجا الكبير وشأننا؟ هي كانت تعلم بأنه قريب جدًا منا؛ فهل كان من الممكن أن نكون بأمان إن أنتَ رحلتَ عنا؟ لم أكن قادرة على تخيل حياتي بدون دايسكي، أو تصور اختفاءه وأنا لا أزال أعيش سعادتي بشفائه، كنتُ ضائعة في نفسي حتى سمعته يحدثني:
هيكارو، لنعد إلى البيت، هيا!
أجبته بهدوء، كنتُ قد بدأتُ أفقد شعوري بكل شيء من حولي:
دعني وحدي دايسكي!
لكنه لم يستجب لرغبتي، رفع رأسي بأنامله فصرتُ مواجهة لعينيه:
هيكارو! ستنتهي الحرب قريبًا و..
قاطعته بانفعال هذه المرة:
لن تنتهي بهذه السهولة دايسكي! وأنتَ تعرف ذلك؟ رغم مخاوف دكتور أمون فقد ذهبتَ وحدك، ما الذي كان سيحدث إن لم نلحق بك؟ ما الذي كان سيحدث إن أصابك الوزير زوريل صباح اليوم؟ ما الذي كان سيحدث إن أنتَ غادرت الأرض وقاعدة فيجا لا يفصلها عنا إلا ساعات؟ أجبني.. قل! هل هذا ما تسميه سلامًا؟ هل هذا هو ما نسعى إليه جميعًا؟ منذ الأمس وأنتَ تتصرف وحدكَ وكأنكَ لم تعد جزءًا من فريقنا دايسكي، أين الوحدة التي كنا نؤمن بها؟ أم أنكَ..
كان يستمع إلي بصمت حتى بلغتُ هذا الحد بحديثي فقاطعني وهو يضع إصبعيه على شفتي يمنعني من الحديث:
هيكارو، يكفي أرجوكِ، لا تفسريها هكذا!
أخبرني أنتَ؟
كل ما أردته كان مزيدًا من المعلومات هيكارو، أنا صادق في كلامي!
أغمضتُ عيني بألم أحاول ابتلاع ألمي وضيقي وانفعالي وأحاول تصديق ما يقوله، فتحتُ عيني على همسته:
هيا!
رأيته ينتصب واقفًا ويمد يده لي بحزم، أومأتُ برأسي ومددتُ له يدي فأنهضني، اقترب مني ورفع ذقني بسبابته وانحنى يقبل جبيني بهدوء وهو يهمس لي:
سامحيني هيكارو!
ثم ضمني إليه بشدة وهو يستطرد:
أنا أفتقدكُ بشدة منذ الأمس! أرجوكِ!
رغم ما يعتريني من ألم واضطراب إلا أنني لم أملك مقاومته في تلك اللحظة، كنتُ أنا أيضًا بحاجة إليه، بحاجة إلى وجودنا معًا، بحاجة لمزيد من الصراحة والوضوح، وبحاجة للأمان، نعم “الأمان” هذا هو سبب ألمي وضياعي منذ البارحة، لهذا استسلمتُ لذراعيه، كنتُ قادرة على سماع دقات قلبه، شملني الارتباك حينها، وشعرتُ بفوضى عاطفية لم أشعر بها من قبل، تراجعتُ للوراء أنظر إلى عينيه وأنا أزدرد لعابي بصعوبة وأحاول رسم الابتسامة على شفتي والتي جاءت رغمًا عني مرهقة كقلبي:
دعنا نعد إلى البيت، أنا بحاجة لبعض القهوة!
رفع حاجبيه باندهاش وهو يهتف:
أشرفت الشمس على الغروب هيكارو!
ماذا؟
يا إلهي! لقد بقيتُ هنا لساعات طويلة دون أن أشعر، دايسكي محق فقد اكتست السماء بحمرة الغروب حقًا، على كل حال فقد عدنا معًا للمزرعة، لم نتبادل حرفًا في طريقنا إليها، حال وصولنا غادرت دراجة دايسكي بصمت في طريقي إلى الداخل فأمسك بمعصمي يستوقفني، أدرتُ وجهي إليه لكنه ظل صامتًا، ورغم صمته العميق فقد رأيتُ بعينيه الكثير، بلحظة تبددتْ مشاعري السيئة، كيف يمكن أن ينسى المرء آلامه فجأة؟! وجدتني أنسى آلامي وأذكر آلامه هو، كانت عيناه تحكي ألف حكاية وحكاية، رأيتُ حبًا جارفًا لوطنه، رأيتُ حنينًا إليه، رأيتُ خوفًا من الرحيل عن هذه الأرض، رأيتُ دموع اعتذار، رأيتُ شوقًا للبسمات، رأيتُ قلقًا، حيرة، توجسًا، ورأيتُ رجاء صادقًا، ولم أرَ شيئًا من ماضي دايسكي ولا طيف الأميرة روبينا الذي أرقني ليلة أمس، لم أرَ إلا دايسكي كما عهدته طوال سنوات، هدأت مشاعري، مددتُ يدي أربتُ على ذراعه بلطف:
سينتهي كل هذا قريبًا! هون عليك.
رفع كفه على كفي وشد عليها لحظة:
ألم أقل لك يومًا بأنه لا شيء يسعدني أكثر من قلبك الحار؟!
احمر وجهي خجلًا، شعرتُ بالدم يتدفق فيه فجأة، ابتسمتُ إليه دون أن أقول شيئًا لكنه أردف:
هيا اذهبي إلى النوم، تبدين متعبة!
أومأتُ برأسي أجيبه:
حسنًا، تصبح على خير.
تصبحين على خير.. إلى الغد!
***
لم أتمكن من النوم، كنتُ مرهقة بشدة، وعلى الرغم من أن السماء قد أظلمت فعلًا إلا أنني نزلتُ إلى المطبخ وأعددتُ كوبًا من القهوة، كنتُ بحاجة لذهن صافٍ، وكنتُ بحاجة أكثر للكتابة.. أكثر من أي وقت مضى.
***
أخيرًا بدأتُ أستعيد صفاء ذهني، أشعر بالهدوء نسبيًا، جعلتُ أسترجع أحداث الأمس كشريط مرئي أمام عيني، لقد خرجنا لاستطلاع ما التقطه الرادار، قال دكتور أمون أن شيئًا قد سقط في البحر، كانت مهمتي مطاردة هذا الشيء والتثبت منه لكن حال وصولنا لنقطة ارتطامه لم نجد شيئًا مطلقًا، غطستُ في الماء ولم أجد ما يثير ارتيابي، أخبرتُ كوجي فأعلم دكتور أمون بدوره وطلب الأخير عودتنا، لكن دايسكي كان قد علق بعيدًا في مكان ما، لذا طلب كوجي منا – ماريا وأنا – العودة للمركز وانطلق هو باحثًا عن دايسكي، لم يمضِ وقت طويل حتى عاد الاثنان فعلًا، لكن دايسكي عاد في حالة غريبة أثارت قلقي وفجرت مخاوفي عليه.
انسحب دايسكي دون أن ينطق بحرف، لم يجب عن تساؤلات دكتور أمون عما حدث له، اتجه للشرفة وظل واقفًا بثبات لمدة طويلة، لم يبدُ أنه يشعر بشيء ولا حتى بالوقت الذي يعدو من حوله، أخبرنا كوجي أنه حال وصوله لمكان دايسكي رآى ما يريب، قال أن جريندايزر كان على الأرض ومركبة غريبة قد حطت بالقرب منه، قال أنه رآى مركبة تشبه مركبة الوزير زوريل تطير في السماء وتصوب أشعتها نحو دايسكي الذي بدا واقفًا ويجواره شخص ما، لم يستطع كوجي تبين هذا الشخص لكنه كان متأكدًا من أنها فتاة، في ذلك الوقت كان دايسكي بحالة أفضل، لقد شكر كوجي على مساعدته وعادا معًا للمركز، لكن رواية كوجي تعني أن ما التقطه الرادار لم يكن نيزكًا فعلًا، شعرتُ بالخجل من فشلي في العثور على هذا اليوفو، اعتذرتُ للدكتور أمون في حضور الجميع، لكن دكتور أمون قد خفف من شعوري بالخجل في تلك اللحظة، قال أن هذه المركبة ربما تسير بسرعات كبيرة تحت الماء، قال أننا ربما وصلنا متأخرين وأن هذا ليس خطئي أو خطأ الفريق، أُحبُّ دكتور أمون كثيرًا ويأسرني بحنانه وأبوته!
بقي دايسكي في الشرفة كثيرًا، بقي صامتًا لا يطرف له جفن، توجه ثلاثتنا إليه، أشار لنا كوجي بالصمت وقرر سؤال دايسكي من جديد عما حدث، طلب من دايسكي أن يخبرنا بما دار بينه وبين العدو، لم نكن نعرف عمن كنا نتحدث؟ هو عدو ولا شيء آخر، لكن دايسكي ظل صامتًا لا ينطق بحرف، لم تتمالك ماريا نفسها واقتربت منه، وقفت إلى جواره تلح عليه بسؤالها، بقيتُ أرقب ماريا وأعرف أني لا أستطيع فعل ما تفعل، ليس من عادتي أن ألح على دايسكي في صمته وعزلته، تعلمتُ من طول عشرتي له أنه إن كان يفكر بعمق وبأمر جلل ولا يرغب بالحديث عنه فليس من السهل انتزاع معلومات منه، أجاب دايسكي ماريا باقتضاب ويبدو أنه ندم على ذلك، كل ما قاله دايسكي هو “ماريا، قابلتُ روبينا” اندهشت ماريا ونظرت إلي بطرف عينها بلحظة خاطفة وهي تهتف: “ابنة فيجا؟” فأومأ لها برأسه إيجابًا، نزل علي الجواب كالصاعقة، ماضي دايسكي يعود من جديد، هذه المرة ليس عاديًا، ليس صديقًا أو قريبًا من الماضي، هذه المرة يعود إلينا الماضي بأعقد صوره، الأميرة روبينا ابنة فيجا الكبير، عدو فليد وعدونا، وعروس دايسكي منذ سنوات التي لم يتم عرسهما، شعرت بالانقباض والذهول، بدا لي صمت دايسكي مرعبًا في ذلك الوقت، أخذتُ أسأله بداخلي كسؤال كوجي: “ماذا تحدثت مع العدو؟” لكن لم تخرج الكلمات من بين شفتي، ثم اشتعل الموقف كله، اندفع كوجي يوبخ دايسكي بعنف: “لماذا لم تمسك بها؟” وهنا أجاب دايسكي باقتضاب وهو يستدير بحدة ليغادر الشرفة “آسف”، قالها واستدار فعلًا وكاد أن يرتطم بي بعنف، استطعتُ أن أرى ملامحه في جزء من الثانية، هو غارق فعلًا حتى أذنيه في الحيرة والألم، ماذا اعتراك دايسكي لتبلغ هذا الحد؟! ما الذي عرفته لتسقط في هذه البئر؟ وأي شر ينتظرنا؟
لحق كوجي بدايسكي يستوقفه، كوجي عنيد لن يرضى بهذا الصمت أبدًا، أمسك كتفي دايسكي وأخذ يهزه بعنف كأنما يحاول استرجاعه من غيبوبة عميقة وهو يردد: “يبدو أن هناك شيئًا خلف ذلك.. أطلعنا على الأمر يا دايسكي!”، كان كوجي كمن يتحدث بلساني، ليته استطاع أن يعرف شيئًا! وليت دايسكي أجابه ولو بالقليل! لكن في تلك اللحظة قطع نداء دكتور أمون ما نحن فيه:
دايسكي تعال حالًا هذه برقية من الوحش فيجا!
ركضنا جميعًا إلى حيث المقراب الإلكتروني، رأينا طائرة وردية على الشاشة وسمعنا صوتها، إنها حقًا فتاة، كانت تهتف: “دوق، لم يكن قصدي أن أوقعك، صدقني! سأنتظر حتى تأتي” وانقطع الاتصال، سمعتُ صوت أنفاس دايسكي بقربي وكأنها ثقيلة على صدره ولا يستطيع حملها، رأيته يغادر الغرفة مندفعًا نحو المزرعة رغم استيقاف دكتور أمون له، بدأتُ أضطرب وأشعر بأن ما يحدث هو نذير شر ولا ريب في ذلك!
بعد العشاء جلسنا جميعًا معًا، حاولتُ أن أبدو هادئة، أنتظر فرصة لفهم ما يحدث، لكن بقي دايسكي صامتًا لا يتكلم بشيء، سأله دكتور أمون عما سيفعله فلم يجب، طلب منه صراحة ألا يذهب لأي مكان، قال أن هذا فخ على الأغلب، لكن دايسكي لم يتفوه بحرف، وتفرقنا إلى غرفنا بعدها ببرهة، أمضيتُ ليلتي في بيت المزرعة كعادتي منذ أن شُفي دايسكي وقلَّت هجمات قوات فيجا.
طلبت ماريا أن تقضي الليلة معي في غرفتي على غير العادة، لم أسألها عن السبب وراء طلبها ولم أكن في مزاج يسمح لي بذلك فاكتفيتُ بالترحيب بها، جلستُ على المقعد شاردة لفترة طويلة، سألتُ نفسي مئات الأسئلة، حاولتُ أن أرسم تصور تلو الآخر لما عساه قد حدث فلم أنجح، شعرتُ بقلبي يؤلمني دون سبب، قطعتْ ماريا أفكاري قائلة:
إنه لا يحبها!
من تعنين؟
دايسكي.
كيف عرفتِ يا ماريا؟
هو أخبرني بذلك، قال بأنها كانت تحبه، وأن أبي هو من أراد زفها إليه كعروس هيكارو.
لم أستطع الرد عليها، ولا أعرف حقيقة ما تتحدث عنه الآن، كل مشاعري وأفكاري مضطربة، كان تحاشي دايسكي لمواجهة أعيننا يثير قلقي وريبتي ويفجر مخاوفي، لم يكن دايسكي قادرًا على النظر لعيني مباشرة منذ عودته من ذلك اللقاء المجهول، لطالما كنا قادرين على فهم أحدنا للآخر بدون كلمات مباشرة، لا زلت أذكر يوم سألتُ دايسكي عن سبب كتمانه لسره عني، كان ذلك منذ سنوات حين سمعت اسم دوق فليد لأول مرة، في ذلك الوقت هو لم يقل شيئًا لكنه استدار ينظر لعيني، وكان هذا كافيًا لأفهم الكثير، ولأسمع ما يريد إخباري به، اليوم يعتري دايسكي أمر غريب، ويبدو أنه أقوى من قدرته على الاحتمال أيضًا! والمؤكد أنه قد يقلب حياتنا رأسًا على عقب.. لطفك يارب!
شكرتُ ماريا على اهتمامها بأمري، طمأنتها لكوني بخير وعدتُ لصمتي الطويل، ورغم أننا لم نكن نتحدث لبعضنا البعض إلا أننا بقينا مستيقظتين ولم تستطع إحدانا النوم، قرب الفجر سمعنا طرقات كوجي على باب غرفتنا، عرفنا أن دايسكي قد ذهب رغم تحذير دكتور أمون فقررنا أن نتبعه، لقد تحققت مخاوفي أو كادت!
2023-12-06
مذكرات هيكارو السرية – أقطاب متعاكسة
مذكرات هيكارو السرية
مذكرات خيالية في دفتر يوميات هيكارو ماكيبا
الحلقة 72 – أقطاب متعاكسة
أنا منهارة! منهارة.. ضائعة وحزينة جدًا، لأول مرة أشعر بهذا الحد من الانهيار والإنهاك، قلبي يؤلمني، نفسي تئن بين ضلوعي، عقلي يكاد أن ينفجر، لم أصدق أني عدتُ أخيرًا لمركز الأبحاث في صباح ذلك اليوم، غادرتُ سلاحي الملاحي مسرعة، لا طاقة لدي للتحدث لأحد، لا أريد أن أسمع شيئًا، أريد فقط أن أكون وحدي، أريد أن آنس بنفسي بعيدًا عن الكل، خرجتُ على قدمي، ليس معي حصان، ولا سيارة، ولا يهمني الأمر، ولا يعنيني إطلاقًا، ولا أذكر بأني فكرتُ به أساسًا، شيء واحد كان يسيطر على عقلي وكياني.. الهرب، علي أن أهرب، أذهب بعيدًا، بعيدًا جدًا، إلى أين؟ لا أدري! سرتُ طويلًا حتى لم أعد أقوَ على الاستمرار، قادتني قدماي إلى حيث مصب الشلال، جلستُ على العشب الأخضر وقد أسندتُ ظهري لإحدى الأشجار، ثنيتُ ساقاي إلى جواري، بدأتُ ألتقط أنفاسي بصعوبة، أحاول أن أسيطر على هذا الفيضان بداخلي، حيرة، اضطراب، حزن، خوف، توجس، ضياع، ألم ومشاعر لا أعرف كيف لي أن أصفها ولو كنتُ فقط سأخطها على أوراقي الخاصة!
كنا في فصل الربيع، الحقول مخضرة والأزهار في كل مكان، السماء صافية وثمة طير يحلق هناك وحيدًا، نظرتُ إليه وتمنيتُ لو أتعلق بجناحه ويحملني بعيدًا، كنتُ أشعر بالغيوم تلبد سماء نفسي، تجثم على صدري وأعجز عن التنفس بحرية، أحاول أن أتنهد فلا أستطيع، أنفاسي حبيسة صدري، حارة وحارقة وموجعة!
في غمرة ألمي وحيرتي تذكرتُ ذلك اليوم حين ألقيتُ بنفسي بين ذراعي دايسكي باكية أرجوه بقولي:”لا أسرار بعد اليوم دايسكي.. أرجوك” تذكرتُ ضمه لي بقوة، سالت الدموع على وجنتي دون استئذان، فاستسلمتُ لها، كنتُ بحاجة لإفراغ عواطفي بحرية، هنا لا يراني أو يشعر بي أحد، تستطيع الأشجار أن تكتم أسراري للأبد، كانت هذه الذكرى بعيدة، بعيدة جدًا، لكن في ذلك الوقت كنتُ أحاول أن أضيء المزيد من المساحات بيننا، كنتُ أعرف وأفهم ما يحدث، وكنتُ بحاجة لأن يعرف هو بأني أعرف أيضًا، لكن ما أعايشه منذ مغرب الأمس مختلف.. مختلف تمامًا! تنهدتُ بعمق، وأخيرًا استطعتُ أن أتنهد وأن أحرر بعضًا من دخان قلبي الذي ملأ صدري فلم يدع متسعًا لغيره!
أشعر بالحيرة! دايسكي يخفي أمرًا جللًا منذ الأمس، يبدو الأمس بعيدًا جدًا، لكن ما يخفيه دايسكي يحمل في طياته الكثير من السوء والألم، وحدته في مغرب الأمس، وجهه المتجهم، صوته الذي غاب عني لساعات طويلة، جموده، تصرفاته الغير مبرره، وخروجه عن أوامر دكتور أمون لأول مرة، يتعلق الأمر بماضي دايسكي ولابد، ذكر دايسكي أنه التقى بابنة فيجا ودار بينها وبينه حديث مبهم، لكن هذا الحديث انتهى بسوء فهم على الأغلب وإلا فما السبب الذي يدفعها لكي تبعث إليه برسالة تؤكد فيها حسن نواياها وتطلب رؤيته مجددًا؟ هو أيضًا أراد أن ينهي حديثًا بدأه معها رغم توجس دكتور أمون، ما رأيته اليوم يربك عقلي بشدة، لقد كان دكتور أمون محقًا في توجسه، ولولا شكوك كوجي أيضًا واصطحابه لنا للحاق بدايسكي لكانت العاقبة أسوأ بكثير، صحيح أن الأميرة روبينا قد لقت حتفها منذ ساعات؛ لكن كان من المحتمل أن نخسر دايسكي أيضًا لولا رحمة الله!
لا زال عقلي مضطربًا بشدة، رأيتُ دايسكي أمام عيني ينهار اليوم، لم أستطع السير إليه، لم أعد قادرة على فهم ما يحدث من حولي، كنتُ مستندة لسلاحي الملاحي وهو على بعد أمتار مني، كان يتحدث للأميرة التي تحتضر، ثم سمعتُ هتاف كوجي وصرخة أحدهم، لقد كان الوزير زوريل هنا يصوب سلاحه نحو ظهر دايسكي، لطفك يارب! لكن لم تمضِ لحظات حتى عرفنا جميعًا أن الأميرة قد فارقت الحياة، رأيتُ دايسكي يفلتُ يديها ويهب واقفًا، رأيته ينثر الزهور على جسدها فعرفتُ أن هذا الجسد قد غدا بلا روح تسكنه، تمنيتُ أن ترقد روحها بسلام، شيء واحد لم أقوَ على تحمله هو صرخة دايسكي الملتاعة، سمعتُ هذه الصرخة من قبل ووقفتُ عاجزة أبكي، هذه الصرخة اخترقت قلبي كسيف ثقيل مسموم، هذه المرة انهرتُ تمامًا، سمعتُ صرخته ورأيته ينظر ليديه فزعًا، رأيته يدور حول نفسه، رأيته يركض منهارًا، سمعته على حافة الجبل يصرخ باسم الأميرة التي فارقت الحياة لتوها، يا إلهي! ليت كفي قادران على حجب هذه الصرخة عن عقلي، لا زلت أسمعها، تتكرر بداخلي بلا توقف! رحماك يارب!
أعرف الأميرة روبينا من حديث دايسكي عنها، أعرف أنها كادت أن تُزَف إليه لأجل سلام كوكب فليد، أذكر أن عينيه لم تلتمع لذكر اسمها كما التمعت لذكر نايدا، أذكر كيف شعرتُ بمكانة نايدا عنده فغمرني الفضول لرؤية الفتاة الفليدية التي خلبت لبه سابقًا، لكن ماذا عما حدث اليوم؟ ما الذي دار بين دايسكي وابنة فيجا الكبير لننتهي إلى هذه النهاية المؤلمة؟ سألتُ نفسي مائة مرة طوال الليل عما عساه قد حدث بين الاثنين، صمت دايسكي وتحاشيه النظر إلي، تصرفاته الغريبة، صرخته التي لا تزال عالقة بنفسي، لحاقه بالفتاة رغم حذره الذي عهدته عليه طوال عشرتنا، لقد حرك قدوم روبينا شيئًا في الماء الراكد، تقتلني شكوكي وتساؤلاتي، تلك الفتاة التي لم أفكر أو أتساءل عنها قبلًا أو أحاول تخيل جمالها وملامحها إلا ليلة الأمس – تلك الفتاة أحدثت أثرًا لا يمكنني فهمه أبدًا!
بقيتُ ليلة الأمس ساهرة، أقلب الأمر يمينًا وشمالًا بلا جدوى، أشعر بوخزة في قلبي من حين لآخر، ذكرى من الماضي البعيد تفاجئنا دون استئذان، ذكرى من الماضي فرقت شملنا بلحظة، ذكرى من الماضي سرقت دايسكي ولا يعرف أحدنا إلى أين، رَفَض الحديث لساعات، رَفَض مواجهتنا جميعًا، لم يصغِ لأحد، كان متوترًا وعصبيًا، لم يكن سعيدًا أو مبتهجًا، رأيته حين وصلتنا نايدا من قبل، رأيتُ السعادة بعينيه، ولم يغب دايسكي عني في تلك الأيام، كنتُ أعرف نايدا، وأعرف ما يحل بها، وأعرتها ثيابي، وعرفتُ متى وأين كان يصحبها دايسكي للتنزه، انتظرتُ أن تتحسن أحوالها فيكون بمقدورها مشاركتنا حياتنا، لكن هذا الماضي الذي زارنا بالأمس يختلف! الأميرة روبينا كادت أن تُزف لدايسكي لأجل سلام كوكب فليد، أخبرني أن هذا كان واجبًا عليه، لم يقل بأنه يحمل لها مشاعر حب أو كراهية، قال أن هذا واجب عليه وأن ليس علينا أن نفعل فقط ما نحب، ماذا عساه قد دار بينهما إذن؟ عقلي على وشك الانفجار، أفكر منذ مغرب الأمس ولا أصل لشيء، ومع كل معلومة جديدة تتعقد الأفكار بعقلي أكثر فأكثر.
آه.. أنا مشوشة بشدة لا أذكر كيف عدنا للمركز؟ لا أعرف ماذا حدث بعد انهيار دايسكي؟ لقد انهرتُ أنا أيضًا، غرقتُ ولا زلت أغرق ولا أعرف كيف الخلاص من هذا البئر السحيق الحالك الظلمة كالليل التعيس، كيف عدنا؟ متى؟ من أعطانا الأمر بذلك؟ ماذا حل بجسد الأميرة؟ لا أذكر شيئًا على الإطلاق! هذا يصيبني بالفزع الشديد، ما الذي حل بي يا ترى؟!
لكن أذكر ما حدث منذ فترة، نعم، كان ذلك في أواخر الشتاء، في تلك المرة أنهينا أعمال الدورية وكنا عائدين إلى المركز حين خاطبني دايسكي على قناة اتصال فردية:
– اتبعيني هيكارو!
– ألن نعود لمركز الأبحاث؟
– كلا.. اتبعيني فقط.
– حاضر دايسكي.
يومها لم أكن أفهم لماذا طلب مني أن أتبعه، ولماذا عاد كوجي وماريا وحدهما للمركز، لقد طار دايسكي وتبعته بصمت، كنتُ أتبعه كقائد للفريق في تلك اللحظة، وصلنا لمنطقة خالية وبعيدة، لا بحر فيها! لم أفهم سبب وجودنا هناك، هبط بجريندايزر ففعلتُ مثله، غادر كل منا سلاحه، رأيته وقد غادر جريندايزر دون خوذته، توجه نحوي فتقدمتُ صوبه، نظرتُ إليه بتساؤل، فمد يده يرفع خوذتي عن رأسي وهو يقول:
– أردتُ أن أخبركِ بأمر هام!
كانت نبراته تجمع بين الفرح والحزن كأنما هو يبكي ويضحك في آنٍ واحد:
– ما هو؟
– انظري!
قالها وهو يشير إلى موضع جرحه القديم، انتبهتُ لزيه العسكري الذي بدا ممزقًا في تلك اللحظة، لكن ما جعلني أشهق بحق هو اختفاء الجرح تمامًا:
– كيف حدث هذا؟
طوق خصري بذراعيه وهو يجيبني:
– موروس أعطاني علاجًا بأشعة فيجاترون الناقصة فشفي الجرح كما ترين!
– معقول! موروس! أنتَ تعني موروس..
قلتها ودموع الفرح تنهمر من عيني، لم أصدق أن تتحقق أمنيتي فعلًا، صليتُ لأجل معجزة تنهي آلام دايسكي، وها هي تتحقق، حمدًا لله! قاطعني دايسكي بقوله:
– نعم هو هيكارو موروس أمير نجم مورو .. هو!
اكتست ملامحه بالحزن وهو يستطرد:
– لقد غزا فيجا نجمه وأُخِذ أسيرًا، غسل فيجا دماغه وأوهمه أني من فعلتُ هذا بنجمه ودفعه لقتلي.
شهقت من وقع كلماته:
– ثانية؟ ألا يكفي ما فعله بنايدا من قبل!
– خلال لقائنا رأيتُ نجمة ذهبية تومض على ذراع موروس فتوجست منها، أبعدتها بيدي رغم مقاومته فكان ظني في محله، كانت قنبلة معدة لتفتك بنا معًا.
تمسكتُ بذراعيه دون أن أشعر فأكمل:
– غاب كلانا عن الوعي لبرهة ونهض موروس وقد استعاد وعيه وذاكرته أيضًا، لكنه صوب سلاحه نحوي فجأة، ظننتُ أن خطبًا أصابه وأنه لا زال تحت تأثير فيجا، أطلق سلاحه وفقدتُ وعي للمرة الثانية وأيقظني قدوم كوجي.
– يا إلهي! وأين موروس الآن؟
– عندما استعدتُ وعيي رأيتُ وحشه يطير في السماء ثم.. حدث انفجار هائل و..
دمعت عيناه فعرفتُ ما يعني، أرحتُ ذراعاي على صدره وكفيَّ على كتفيه، نظرتُ لعينيه بعمق وأنا أهمس:
– أنا آسفة لأجله، أعرف بمَ تشعر!
– لقد ترك لي موروس ما أذكره به !
قالها بتأثر ورفع عينيه لي وهو يردف:
– منحني عمرًا!
قالها وضمني إلي صدره بقوه وبقينا طويلًا، طويلًا جدًا، كانت فرحتي بشفاء دايسكي لا حدود لها، وكان هو يعاني من الحزن على فراق صديقه العزيز والفرح بشفائه بمعجزة لم يتوقعها أحد.
ابتسمت رغمًا عني لهذه الذكرى التي كنا فيها قادرين على مشاركة مشاعرنا معًا حتى لو كانت صعبة الفهم، منذ الأمس وكلانا غارق في وحدته وآلامه، ماذا علي أن أفعل لمواجهة هذا الموقف، لا أدري!
***
بقيتُ على هذه الحال كثيرًا، قليلًا؟ كثيرًا؟ لم أعد قادرة على التمييز، لكني لم أنهض من مكاني مطلقًا، ولا أذكر أني حركتُ ساكنًا، كنتُ بالكاد أتنفس وهذا يكفي، لكني سمعته يناديني، هذا صوت دايسكي مؤكد، أيعقل أن يكون هو بنفسه أم أنني أتوهم أني سمعته؟ جمدتُ في مكاني ولم أجرؤ على الالتفات، إن كان ما سمعته حقيقة فستثبت حتمًا، وإن كان وهمًا فلن أسمعه ثانية.
“هيكارو”
تكرر النداء، هذه المرة لم أكن بحاجة للالتفات للتثبت منه، فقد رأيته أمام عيني، كان هو، كان دايسكي يقف أمامي، لم أرفع رأسي إليه فجلس على ركبتيه، كان وجهه مواجهًا لوجهي، أمسك كتفي وهو يهزني برفق:
– هيكارو! أنتِ بخير؟!
رفعتُ عيني أنظر إلى عينيه ولم أكن أعرف بماذا أجيبه: هل أنا بخير لمرآه حقًا؟ هل أنا بخير من الأساس؟ صمتُ رغمًا عني فاستطرد:
– أنا آسف لما حدث بالأمس! كان أبي على حق، حتى لو كنتُ أسعى لإنهاء هذه الحرب فليس هذا قراري وحدي.
لم أعد قادرة على فهم ما يقول، هززتُ رأسي كأنما أحاول استعادة ذاكرتي وقدرتي على الكلام، أخيرًا أجبته بصعوبة:
– ماذا تعني؟
– سأخبركِ بكل شيء.
وبدأ دايسكي يتحدث، قال كلامًا مقتضيًا لكنه بحاجة لساعات لاستيعابه، عرفتُ الآن لمَ كان مهمومًا حائرًا بالأمس، عرفتُ لمَ كان منهارًا صباح اليوم، عرفتُ دون أن أسأله عن شيء، فقط استمعتُ لما يقول بصمت، أخبرني أنه التقى الأميرة روبينا خلال أعمال الدورية، عرَّفته بنفسها وأخبرته أن لديها أمرًا مهما تريد مناقشته، طارت أمامه وهي تطلب منه أن يتبعها، أثبتت له صدق نواياها حين أمنت غدره، كانت الأميرة تحمل أخبارًا مهمة، أخبارًا عن نجم فليد، منحت دايسكي صورة للنجم البعيد، قالت أن إشعاعات فيجاترون تضعف وأن الكوكب فليد يعود للحياة، أثبتت الصورة صدق روايتها، عرضت على دايسكي حلًا لإنهاء الحرب، قالت أن تحالفهما معًا وعودته معها لنجم فليد ستوقف الحرب، كيف؟ لم يجد دايسكي إجابة، باغتهما هجوم غادر من زوريل فتبددت ثقة دايسكي في كل ما أخبرته به روبينا: صورة فليد، عودته للحياء، مقترح السلام، كل شيء، ثم عادت تثير شكوكه برسالتها، قال أنه قاوم كثيرًا رغبته في الذهاب إليها ومعرفة الحقيقة، قال أنه كان يؤيد شكوك دكتور أمون لكنه لم يكن قادرًا على البقاء في هذه الحالة المربكة طويلًا، حسم أمره وذهب إليها، لقد راهن على ثقته القديمة بها لكنه شعر بأنه قد وقع في الفخ ثانية، لام نفسه بشدة وشعر أنه كان مخطئًا بقراره، لكن الأميرة لقت حتفها وهي تحاول فداءه، وفي لحظات موتها أخبرته بمعلومة غاية في الخطورة، لقد باحت له بمكان قاعدة فيجا، كانت القاعدة وفق روايتها قريبة، قريبة جدًا، الجانب الآخر من القمر، يا إلهي! أ ثم فاضت روح الأميرة.
انتهى دايسكي من روايته فنظرتُ إليه بعينين متسائلتين والألم يعتصر قلبي:
– كنتَ تنوي مغادرتنا دايسكي؟
– كنتُ مستعدًا لفعل ذلك إن كان المقابل سلام الأرض هيكارو.
كان جوابه قاسيًا على نفسي، وجدتني أجيبه:
– هذا ليس عدلًا!
قلتها والدموع تبلل مقلتي، فحاول احتواء كفي بين كفيه لكني سحبتُ كفي ممتنعة، كنتُ أحاول مقاومة مشاعري قدر استطاعتي، رغم نبل فكر دايسكي وتضحيته إلا أنني كنتُ أشعر بالظلم في قراره، استطرد هو بنبرة صادقة:
– أنتِ على حق! لا ألومك.
ثم أغمض عينيه بألم وهو يردف:
– أبي قال ذلك أيضًا!
لم أعرف بمَ أجيبه فصمتُ طويلًا، غرقتُ في أفكاري حتى لم أعد أشعر بوجوده بقربي، لم يخطر ببالي أبدًا أن ما يشغل دايسكي منذ الأمس هو قرار بهذه القسوة، لم أتصور أنه كان من الممكن أن ننتهي اليوم كلٌ في نجم بعيد، لم أكن قادرة على تقبل موقف دايسكي أبدًا، كنتُ أرى قراره بالتفكير منفردًا في مقترح بهذه الخطورة أمرًا بشعًا، لم أتخيل أن دايسكي لا يصدق بعد أنه واحد منا، وأنه يعنيني لدرجة يصعب وصفها حتى لو لم يكن أرضيًا، كنتُ مستاءة من تخيله يقف أمامي ويخبرني بقراره بالتضحية بحياته لأجل سلام كوكب الأرض، أي سلام تتحدث عنه دايسكي حتى لو قبلتَ فكرتها ورحلتَ معها لفليد؟ أي سلام ونحن هنا بدونك؟ هل سيتركنا فيجا الكبير وشأننا؟ هي كانت تعلم بأنه قريب جدًا منا؛ فهل كان من الممكن أن نكون بأمان إن أنتَ رحلتَ عنا؟ لم أكن قادرة على تخيل حياتي بدون دايسكي، أو تصور اختفاءه وأنا لا أزال أعيش سعادتي بشفائه، كنتُ ضائعة في نفسي حتى سمعته يحدثني:
– هيكارو، لنعد إلى البيت، هيا!
أجبته بهدوء، كنتُ قد بدأتُ أفقد شعوري بكل شيء من حولي:
– دعني وحدي دايسكي!
لكنه لم يستجب لرغبتي، رفع رأسي بأنامله فصرتُ مواجهة لعينيه:
– هيكارو! ستنتهي الحرب قريبًا و..
قاطعته بانفعال هذه المرة:
– لن تنتهي بهذه السهولة دايسكي! وأنتَ تعرف ذلك؟ رغم مخاوف دكتور أمون فقد ذهبتَ وحدك، ما الذي كان سيحدث إن لم نلحق بك؟ ما الذي كان سيحدث إن أصابك الوزير زوريل صباح اليوم؟ ما الذي كان سيحدث إن أنتَ غادرت الأرض وقاعدة فيجا لا يفصلها عنا إلا ساعات؟ أجبني.. قل! هل هذا ما تسميه سلامًا؟ هل هذا هو ما نسعى إليه جميعًا؟ منذ الأمس وأنتَ تتصرف وحدكَ وكأنكَ لم تعد جزءًا من فريقنا دايسكي، أين الوحدة التي كنا نؤمن بها؟ أم أنكَ..
كان يستمع إلي بصمت حتى بلغتُ هذا الحد بحديثي فقاطعني وهو يضع إصبعيه على شفتي يمنعني من الحديث:
– هيكارو، يكفي أرجوكِ، لا تفسريها هكذا!
– أخبرني أنتَ؟
– كل ما أردته كان مزيدًا من المعلومات هيكارو، أنا صادق في كلامي!
أغمضتُ عيني بألم أحاول ابتلاع ألمي وضيقي وانفعالي وأحاول تصديق ما يقوله، فتحتُ عيني على همسته:
– هيا!
رأيته ينتصب واقفًا ويمد يده لي بحزم، أومأتُ برأسي ومددتُ له يدي فأنهضني، اقترب مني ورفع ذقني بسبابته وانحنى يقبل جبيني بهدوء وهو يهمس لي:
– سامحيني هيكارو!
ثم ضمني إليه بشدة وهو يستطرد:
– أنا أفتقدكُ بشدة منذ الأمس! أرجوكِ!
رغم ما يعتريني من ألم واضطراب إلا أنني لم أملك مقاومته في تلك اللحظة، كنتُ أنا أيضًا بحاجة إليه، بحاجة إلى وجودنا معًا، بحاجة لمزيد من الصراحة والوضوح، وبحاجة للأمان، نعم “الأمان” هذا هو سبب ألمي وضياعي منذ البارحة، لهذا استسلمتُ لذراعيه، كنتُ قادرة على سماع دقات قلبه، شملني الارتباك حينها، وشعرتُ بفوضى عاطفية لم أشعر بها من قبل، تراجعتُ للوراء أنظر إلى عينيه وأنا أزدرد لعابي بصعوبة وأحاول رسم الابتسامة على شفتي والتي جاءت رغمًا عني مرهقة كقلبي:
– دعنا نعد إلى البيت، أنا بحاجة لبعض القهوة!
رفع حاجبيه باندهاش وهو يهتف:
– أشرفت الشمس على الغروب هيكارو!
– ماذا؟
يا إلهي! لقد بقيتُ هنا لساعات طويلة دون أن أشعر، دايسكي محق فقد اكتست السماء بحمرة الغروب حقًا، على كل حال فقد عدنا معًا للمزرعة، لم نتبادل حرفًا في طريقنا إليها، حال وصولنا غادرت دراجة دايسكي بصمت في طريقي إلى الداخل فأمسك بمعصمي يستوقفني، أدرتُ وجهي إليه لكنه ظل صامتًا، ورغم صمته العميق فقد رأيتُ بعينيه الكثير، بلحظة تبددتْ مشاعري السيئة، كيف يمكن أن ينسى المرء آلامه فجأة؟! وجدتني أنسى آلامي وأذكر آلامه هو، كانت عيناه تحكي ألف حكاية وحكاية، رأيتُ حبًا جارفًا لوطنه، رأيتُ حنينًا إليه، رأيتُ خوفًا من الرحيل عن هذه الأرض، رأيتُ دموع اعتذار، رأيتُ شوقًا للبسمات، رأيتُ قلقًا، حيرة، توجسًا، ورأيتُ رجاء صادقًا، ولم أرَ شيئًا من ماضي دايسكي ولا طيف الأميرة روبينا الذي أرقني ليلة أمس، لم أرَ إلا دايسكي كما عهدته طوال سنوات، هدأت مشاعري، مددتُ يدي أربتُ على ذراعه بلطف:
– سينتهي كل هذا قريبًا! هون عليك.
رفع كفه على كفي وشد عليها لحظة:
– ألم أقل لك يومًا بأنه لا شيء يسعدني أكثر من قلبك الحار؟!
احمر وجهي خجلًا، شعرتُ بالدم يتدفق فيه فجأة، ابتسمتُ إليه دون أن أقول شيئًا لكنه أردف:
– هيا اذهبي إلى النوم، تبدين متعبة!
أومأتُ برأسي أجيبه:
– حسنًا، تصبح على خير.
– تصبحين على خير.. إلى الغد!
***
لم أتمكن من النوم، كنتُ مرهقة بشدة، وعلى الرغم من أن السماء قد أظلمت فعلًا إلا أنني نزلتُ إلى المطبخ وأعددتُ كوبًا من القهوة، كنتُ بحاجة لذهن صافٍ، وكنتُ بحاجة أكثر للكتابة.. أكثر من أي وقت مضى.
***
أخيرًا بدأتُ أستعيد صفاء ذهني، أشعر بالهدوء نسبيًا، جعلتُ أسترجع أحداث الأمس كشريط مرئي أمام عيني، لقد خرجنا لاستطلاع ما التقطه الرادار، قال دكتور أمون أن شيئًا قد سقط في البحر، كانت مهمتي مطاردة هذا الشيء والتثبت منه لكن حال وصولنا لنقطة ارتطامه لم نجد شيئًا مطلقًا، غطستُ في الماء ولم أجد ما يثير ارتيابي، أخبرتُ كوجي فأعلم دكتور أمون بدوره وطلب الأخير عودتنا، لكن دايسكي كان قد علق بعيدًا في مكان ما، لذا طلب كوجي منا – ماريا وأنا – العودة للمركز وانطلق هو باحثًا عن دايسكي، لم يمضِ وقت طويل حتى عاد الاثنان فعلًا، لكن دايسكي عاد في حالة غريبة أثارت قلقي وفجرت مخاوفي عليه.
انسحب دايسكي دون أن ينطق بحرف، لم يجب عن تساؤلات دكتور أمون عما حدث له، اتجه للشرفة وظل واقفًا بثبات لمدة طويلة، لم يبدُ أنه يشعر بشيء ولا حتى بالوقت الذي يعدو من حوله، أخبرنا كوجي أنه حال وصوله لمكان دايسكي رآى ما يريب، قال أن جريندايزر كان على الأرض ومركبة غريبة قد حطت بالقرب منه، قال أنه رآى مركبة تشبه مركبة الوزير زوريل تطير في السماء وتصوب أشعتها نحو دايسكي الذي بدا واقفًا ويجواره شخص ما، لم يستطع كوجي تبين هذا الشخص لكنه كان متأكدًا من أنها فتاة، في ذلك الوقت كان دايسكي بحالة أفضل، لقد شكر كوجي على مساعدته وعادا معًا للمركز، لكن رواية كوجي تعني أن ما التقطه الرادار لم يكن نيزكًا فعلًا، شعرتُ بالخجل من فشلي في العثور على هذا اليوفو، اعتذرتُ للدكتور أمون في حضور الجميع، لكن دكتور أمون قد خفف من شعوري بالخجل في تلك اللحظة، قال أن هذه المركبة ربما تسير بسرعات كبيرة تحت الماء، قال أننا ربما وصلنا متأخرين وأن هذا ليس خطئي أو خطأ الفريق، أُحبُّ دكتور أمون كثيرًا ويأسرني بحنانه وأبوته!
بقي دايسكي في الشرفة كثيرًا، بقي صامتًا لا يطرف له جفن، توجه ثلاثتنا إليه، أشار لنا كوجي بالصمت وقرر سؤال دايسكي من جديد عما حدث، طلب من دايسكي أن يخبرنا بما دار بينه وبين العدو، لم نكن نعرف عمن كنا نتحدث؟ هو عدو ولا شيء آخر، لكن دايسكي ظل صامتًا لا ينطق بحرف، لم تتمالك ماريا نفسها واقتربت منه، وقفت إلى جواره تلح عليه بسؤالها، بقيتُ أرقب ماريا وأعرف أني لا أستطيع فعل ما تفعل، ليس من عادتي أن ألح على دايسكي في صمته وعزلته، تعلمتُ من طول عشرتي له أنه إن كان يفكر بعمق وبأمر جلل ولا يرغب بالحديث عنه فليس من السهل انتزاع معلومات منه، أجاب دايسكي ماريا باقتضاب ويبدو أنه ندم على ذلك، كل ما قاله دايسكي هو “ماريا، قابلتُ روبينا” اندهشت ماريا ونظرت إلي بطرف عينها بلحظة خاطفة وهي تهتف: “ابنة فيجا؟” فأومأ لها برأسه إيجابًا، نزل علي الجواب كالصاعقة، ماضي دايسكي يعود من جديد، هذه المرة ليس عاديًا، ليس صديقًا أو قريبًا من الماضي، هذه المرة يعود إلينا الماضي بأعقد صوره، الأميرة روبينا ابنة فيجا الكبير، عدو فليد وعدونا، وعروس دايسكي منذ سنوات التي لم يتم عرسهما، شعرت بالانقباض والذهول، بدا لي صمت دايسكي مرعبًا في ذلك الوقت، أخذتُ أسأله بداخلي كسؤال كوجي: “ماذا تحدثت مع العدو؟” لكن لم تخرج الكلمات من بين شفتي، ثم اشتعل الموقف كله، اندفع كوجي يوبخ دايسكي بعنف: “لماذا لم تمسك بها؟” وهنا أجاب دايسكي باقتضاب وهو يستدير بحدة ليغادر الشرفة “آسف”، قالها واستدار فعلًا وكاد أن يرتطم بي بعنف، استطعتُ أن أرى ملامحه في جزء من الثانية، هو غارق فعلًا حتى أذنيه في الحيرة والألم، ماذا اعتراك دايسكي لتبلغ هذا الحد؟! ما الذي عرفته لتسقط في هذه البئر؟ وأي شر ينتظرنا؟
لحق كوجي بدايسكي يستوقفه، كوجي عنيد لن يرضى بهذا الصمت أبدًا، أمسك كتفي دايسكي وأخذ يهزه بعنف كأنما يحاول استرجاعه من غيبوبة عميقة وهو يردد: “يبدو أن هناك شيئًا خلف ذلك.. أطلعنا على الأمر يا دايسكي!”، كان كوجي كمن يتحدث بلساني، ليته استطاع أن يعرف شيئًا! وليت دايسكي أجابه ولو بالقليل! لكن في تلك اللحظة قطع نداء دكتور أمون ما نحن فيه:
– دايسكي تعال حالًا هذه برقية من الوحش فيجا!
ركضنا جميعًا إلى حيث المقراب الإلكتروني، رأينا طائرة وردية على الشاشة وسمعنا صوتها، إنها حقًا فتاة، كانت تهتف: “دوق، لم يكن قصدي أن أوقعك، صدقني! سأنتظر حتى تأتي” وانقطع الاتصال، سمعتُ صوت أنفاس دايسكي بقربي وكأنها ثقيلة على صدره ولا يستطيع حملها، رأيته يغادر الغرفة مندفعًا نحو المزرعة رغم استيقاف دكتور أمون له، بدأتُ أضطرب وأشعر بأن ما يحدث هو نذير شر ولا ريب في ذلك!
بعد العشاء جلسنا جميعًا معًا، حاولتُ أن أبدو هادئة، أنتظر فرصة لفهم ما يحدث، لكن بقي دايسكي صامتًا لا يتكلم بشيء، سأله دكتور أمون عما سيفعله فلم يجب، طلب منه صراحة ألا يذهب لأي مكان، قال أن هذا فخ على الأغلب، لكن دايسكي لم يتفوه بحرف، وتفرقنا إلى غرفنا بعدها ببرهة، أمضيتُ ليلتي في بيت المزرعة كعادتي منذ أن شُفي دايسكي وقلَّت هجمات قوات فيجا.
طلبت ماريا أن تقضي الليلة معي في غرفتي على غير العادة، لم أسألها عن السبب وراء طلبها ولم أكن في مزاج يسمح لي بذلك فاكتفيتُ بالترحيب بها، جلستُ على المقعد شاردة لفترة طويلة، سألتُ نفسي مئات الأسئلة، حاولتُ أن أرسم تصور تلو الآخر لما عساه قد حدث فلم أنجح، شعرتُ بقلبي يؤلمني دون سبب، قطعتْ ماريا أفكاري قائلة:
– إنه لا يحبها!
– من تعنين؟
– دايسكي.
– كيف عرفتِ يا ماريا؟
– هو أخبرني بذلك، قال بأنها كانت تحبه، وأن أبي هو من أراد زفها إليه كعروس هيكارو.
لم أستطع الرد عليها، ولا أعرف حقيقة ما تتحدث عنه الآن، كل مشاعري وأفكاري مضطربة، كان تحاشي دايسكي لمواجهة أعيننا يثير قلقي وريبتي ويفجر مخاوفي، لم يكن دايسكي قادرًا على النظر لعيني مباشرة منذ عودته من ذلك اللقاء المجهول، لطالما كنا قادرين على فهم أحدنا للآخر بدون كلمات مباشرة، لا زلت أذكر يوم سألتُ دايسكي عن سبب كتمانه لسره عني، كان ذلك منذ سنوات حين سمعت اسم دوق فليد لأول مرة، في ذلك الوقت هو لم يقل شيئًا لكنه استدار ينظر لعيني، وكان هذا كافيًا لأفهم الكثير، ولأسمع ما يريد إخباري به، اليوم يعتري دايسكي أمر غريب، ويبدو أنه أقوى من قدرته على الاحتمال أيضًا! والمؤكد أنه قد يقلب حياتنا رأسًا على عقب.. لطفك يارب!
شكرتُ ماريا على اهتمامها بأمري، طمأنتها لكوني بخير وعدتُ لصمتي الطويل، ورغم أننا لم نكن نتحدث لبعضنا البعض إلا أننا بقينا مستيقظتين ولم تستطع إحدانا النوم، قرب الفجر سمعنا طرقات كوجي على باب غرفتنا، عرفنا أن دايسكي قد ذهب رغم تحذير دكتور أمون فقررنا أن نتبعه، لقد تحققت مخاوفي أو كادت!
انطلقنا خلفه وكان ما كان، وصلنا فإذ بجريندايزر يمسك بالطائرة الوردية التي رأيناها من قبل، وكان الشعاع ينطلق منها صوب مركبة الوزير زوريل، جميعنا يعرف هذه المركبة جيدًا، وبتعبير أدق جميعنا يعرف مقدمتها جيدًا، فقد غادرت أمام أعيننا منذ فترة ليست ببعيدة، أنزل جريندايزر الطائرة على الأرض بأمان وقضى على مركبة الوزير زوريل بنفسه، وركض نحو الطائرة الوردية وخرج منها يحمل جسد امرأة تحتضر، إنها هي!
أرقد الأميرة أرضًا وجلس جوارها، رأيتها ترفع يديها إليه فتناولهما، كانا يتحدثان ولا نسمع حديثمها، لكن الدنيا أخذت تدور بي وقتها، اعتصر قلبي من الألم فجأة وشعرتُ أننا على مشارف الهاوية، هذا الانفعال الجارف، شبح الموت من حولنا، صمتُ دايسكي الطويل، حيرته، تودد الأميرة إليه ومشاعرها التي باتت واضحة كالشمس، لم يكن صعبًا على فتاة مثلي أن تلحظ حب امرأة تحتضر لرجل، كانت تمد يديها إليها وكأنها تتعلق به في لحظاتها الأخيرة لترافقها ذكراه للأبد!
ثم حدث ما حدث، ظهر الوزير زوريل فجأة، أرداه كوجي قتيلًا، فاضت روح الأميرة.. آه.. لا أريد أن أذكر هذه اللحظة مجددًا! صرخة دايسكي وانهياره لا زالا يمزقان روحي، لا أحتمل الكتابة عن هذا أكثر من ذلك، لكني تذكرتُ أخيرًا ماذا حدث بعدها.
كنتُ في قمرة السلاح الملاحي احتمي به، كنتُ كمن تطارده أشباح الدنيا كلها، وضعتُ كفي على أذني وتركتُ رأسي يسقط على لوحة القيادة، لا أحتمل هذا! مر بعض الوقت وتفاجأتُ بالصمت من حولي، رفعتُ رأسي أنظر ما حل بالآخرين، كانت الشمس قد أشرقت، رأيتُ دايسكي وكوجي يحفران الأرض لمواراة جسد الأميرة التراب، رأيتُ ماريا جالسة بقرب جسدها الذي فارقته الروح، خرجتُ من سلاحي واقتربتُ منهم، لم يكن أحد يتفوه بكلمة، جلستُ على ركبتي جوار ماريا، تأملتُ ملامح الأميرة روبينا لأول مرة، كانت جميلة كما وصفها دايسكي، جميلة حتى بعد موتها، جميلة رغم عينيها المغمضتين ووجهها الشاحب، سالت الدموع من عيني للحظات، نهضتُ أجمع الزهور لنضعها على قبر الأميرة إكرامًا لها، كنتُ أسير كالمشدوهة وكأنني في حلم أتمنى أن أفيق منه، للموت رهبة لا تعادلها رهبة، ثمة فرق كبير بين مركبة تنفجر أمام عينيك وجسد مسجى أمامك لا يقدر على شيء!
أخيرًا انتهى دايسكي وكوجي من مهمتهما، حمل دايسكي جسد الأميرة برفق وأنزله في مثواه الأخير، انهال التراب على الوجه الجميل، وضعتُ باقة الزهور على قبر الأميرة، صليتُ لأجل أن ترقد روحها بسلام، ثم عدنا جميعًا إلى أسلحتنا دون أن نتبادل حرفًا، أقلع دايسكي بجريندايزر فتبعناه بصمت مهيب.
لقد كان الأمس حافلًا ومرهقًا ومؤلمًا جدًا، ترى هل لنا أن نأمل بغد مشرق؟! “الغد” هذا الغد بات يؤرقني بشدة، في طريق عودتنا للمزرعة كنتُ أرقب كتف دايسكي وأذكر جملته: “لقد عاد كوكب فليد للحياة هيكارو، رأيتُ صورته، إشعاعات فيجاترون التي أحاطت بالكوكب قد زالت”، رغم كل ما حدث كان دايسكي سعيدًا بعودة كوكبه للحياه، سعيدًا بوطنه الذي بُعث من جديد، هو مُحق في شعوره، لا ألومه عليه مطلقًا، لكن من الصعب علي أن أفكر بما يمكن أن يحدث؟ لقد كان حدسي صائبًا، جاءت الأميرة روبينا من الماضي البعيد لتقلب الدنيا فوق رؤوسنا!
اترك تعليقًا