الحلقة الثانية والثلاثون
تحطم صحن كوجي التجريبي وعاد ثانية لمرحلة البحث والتصميم والسعي لإنتاج سلاح جديد، لكن هذه المرة لم يكن كوجي يعمل منفردًا، وأصر دكتور أمون على أن يكون كوجي عضوًا في فريق خاص لإنتاج سلاح جديد ضمن مشروع تنمية الفضاء، وقد بدأ كوجي البحث والدراسة لتطوير أسلحة طائرته الجديدة.
حدثنا كوجي عن سلاح جديد باسم “بندقية الإعصار”، قال أنه سيبتكر سلاحًا فتاكًا وبدا متحمسًا جدًا للفكرة، أعتقد أن بإمكان كوجي تحقيق شيئًا مبهرًا فعلًا، فعلى الرغم من تهور كوجي واندفاعه إلا أنه يملك إرادة قوية، كما أنه شديد الاعتداد بنفسه كما أرى!
لم نتعرض لهجمات كثيرة في الأسابيع الماضية، فبعد ذلك اليوم المشؤوم هدأت الحرب لأسبوعين تنفست فيهما الصعداء، ورأيت أنها فرصة مناسبة حتى يشفى جرح دايسكي ولو قليلًا، كما أن عدم خروج دايسكي لمعارك جديدة كان يحميه من الخطر وهذا ما كنت أتمناه، قبل ذلك اليوم كنت أصلي لانتهاء الحرب ولأمان وطني وأسرتي ولسلامة دايسكي، لكن الآن أنا أصلي لشفاء دايسكي أيضًا، بتُّ أخشى من خروجه لمعركة جديدة، رأيته يتألم في ذلك اليوم كما لم أره من قبل! ماذا سيحدث إن أصيب بشيء مماثل في المعركة؟! إن مجرد التفكير في هذا الأمر يصيبني بالرعب، لهذا هدأت مع توقف الحرب لفترة.
أسبوعان لكنهما بالنسبة لي عمرًا كاملًا، أيام قضيناها معًا في سلام، كنت أرقب دايسكي بهدوء وأحاول التخفيف عنه، قمت بالكثير من أعمال المزرعة نيابة عنه دون أن أحاول لفت انتباهه للأمر، وكنت أصلي لأجله كل ليلة.
منذ شهر زارنا بوس بوروت، إنه أحد أصدقاء كوجي الثلاثة المقربين له، هم قريبون جدًا من قلب كوجي رغم اختلاف شخصياتهم عنه كثيرًا، زارنا الثلاثة من قبل في احتفالات رأس السنة، هذه المرة جاء بوروت منفردًا، كان كوجي يشعر بالملل بعد فقده التيفو وسلاحه التجريبي، وقد أرسل دعوة لأصدقائه ليشاركوننا في عطلة الأعياد.
لا أميل لأصدقاء كوجي كثيرًا ويذكرونني ببانتا، لهذا لا أندهش من احتفاء بانتا بقدومهم، في ذلك اليوم قررت قضاء الوقت بمفردي، أعددت مائدة شهية لضيفنا ثم توجهت لغرفتي أطالع بعض الكتب، لقد حاول بوروت مغازلتي من قبل بأسلوب غير لائق وأنا لا أميل لهذا النوع من الرجال.
استغرقت في القراءة لفترة أنستني صديق كوجي وذلك الإنسان الآلي الذي أتى به للمرة الثانية، كان إنسانًا آليًا غريب المظهر والأطوار أيضًا، لقد جعله يطير بطريقة مضحكة، عندما رآه أبي اليوم ظنه اليوفو وأخذ يطلق عليه النار، ولكنه تنبه أخيرًا للرسالة والزينة التي يحملها ذلك الإنسان الآلي.
على كل حال قطع رنين الهاتف تركيزي فتوجهت إليه، لقد كان دكتور أمون يطلب دايسكي في مركز الأبحاث على نحو عاجل، انتابني القلق وذهبت أخبر دايسكي فورًا.
كان دايسكي يشارك أبي وكوجي وبوروت وبانتا المائدة، لهذا ذهبت إلى حيث الجميع وناديت دايسكي الذي كان قريبًا من باب الغرفة، أخبرته باستدعاء دكتور أمون له، نهض سريعًا وخرج من الغرفة، ذهبنا سويًا إلى حيث دراجته، سألته عما يمكن أن يكون قد حدث، فقال أنه من المؤكد التقاط الرادار لما يشبه اليوفو، بدا القلق على ملامحي رغمًا عني وتعكر صفو يومي، لهذا أوصيت دايسكي بالاعتناء بنفسه، لكنه حاول طمأنتي – كالعادة – بأنه لا داعي للقلق، تمنيت من قلبي أن يكون على صواب!
ذهب دايسكي ولم يمضِ وقت قصير حتى هاجمتنا الميني فو فعلًا وحاول كوجي وأصدقاؤه استخدام الإنسان الآلي غريب الشكل للتصدي لهم، كما انضم جورو لأبي في هجومه الناري من أعلى البرج، استطاع أبي أن يسقط إحدى صحون الميني فو بطلقاته النارية في ضربة حظ غير متوقعة، غمره الفرح الشديد وكذلك جورو، لكن انتهى الأمر بأن فقد الاثنان وعيهما أعلى البرج عندما اندفعت بقية وحدات الميني فو صوبهما، لم يصب الاثنان بسوء الحمد لله وتمكنت من إنزالهما من هناك بسلام.
بانتا كذلك شارك كوجي وبوروت قيادة الإنسان الآلي، وابتعد الجميع عن المزرعة، بدا الأمر غريبًا هذه المرة وكأننا في مسرحية هزلية لا في معركة حقيقية، على كل حال لم يطل الأمر وعاد دايسكي سالمًا عند غروب الشمس، تدمر الإنسان الآلي الذي صنعه أصدقاء كوجي إلى حد ما لكن بوروت وعد بإصلاحه وودعنا في نهاية اليوم وانصرف.
ليلة أمس كانت المراقبة الليلية من نصيب دايسكي وقضى ليلته في مركز الأبحاث، لهذا سهرت مع جورو بعد العشاء وأخذنا نتحدث عن أمي، لقد توفيت أمي وهي شابه، كانت ذات جمال متوسط وأعتقد أني ورثت جمالها، شعري وعيني يشبهان لون شعرها وعينيها، إلا أن شعر أمي يختلف في مظهره عن شعري كثيرًا، ولربما كانت هي أكثر هدوءًا مني والمؤكد أنها كانت أكثر دفئًا وحنانًا.
أفتقد أمي كثيرًا! في تلك الليلة التي عرفت فيها بحقيقة جرح دايسكي بكيت كثيرًا جدًا، وتمنيت لو أن بإمكاني الاختباء بين ذراعي أمي، تمنيت أن أصارحها بعذابي وألمي، أن أشكو لها لوعتي على من أحببت وبات فراقه قريبًا! ليس من السهل أن يتقبل المرء رؤية من يحب يتألم ويجد نفسه عاجزًا أمامه! ليس من اليسير على القلب أن يقبل هذا الوضع وأن يعيش تحت وطأته ونيره! ليت بإمكاني أن أشكو لأمي كل هذا العبء الذي لا أقوى على حمله! لكن أمي لم تعد هنا! ولا أمل في استرجاعها! لهذا بكيت في تلك الليلة المشؤومة وحدي على وسادتي، أما جورو فأنا لا أحتمل أن يبكي وحيدًا مثلي!
ليلة أمس طلب مني جورو أن أرسم له صورة لأمي، نحن لا نملك صورًا لها في المنزل وجورو بالكاد يتذكر ملامحها، حاولت أن أرسم أمي قدر استطاعتي، وصفتها له واجتهدت لرسمها فأنا لست بارعة في الرسم، انا متفوقة في الجمباز لا في الرسم، وأنا راضية بذلك.
تفاجأت بأن معلمة جورو طلبت منه رسم أحد والديه ولكنه اختار رسم أمي رغم صعوبة الأمر، مسكين جورو يحمل بداخله شوقًا وحنينًا لأمي! ليتني أستطيع منحه ما يحتاج إليه أو على الأقل ما يروي ظمأ روحه!
تركت جورو وخلدت للنوم، في الصباح شب الشجار في منزلنا بين أبي وجورو، فبينما كنت أعد أنا الإفطار أطلع جورو أبي على صورة أمي التي حاول رسمها بنفسه قبل أن ينام، واحتج أبي على قرار جورو برسم أمي بدلًا منه، لأبي تصرفات صبيانية نوعًا ما، ويتشاجر كثيرًا مع جورو كما لو أنهما من العمر نفسه، ركض جورو خارج المنزل ولحق به أبي وأخذت أركض خلف الاثنين والصورة بيدي، كنت أحاول فض الشجار بينهما إذ أصر أبي على تأديب جورو، أنا لا أعرف السبب فعلًا وراء ما يفعله أبي في الكثير من الأحيان، لقد وصف تصرف جورو بالمائع وأصر على جعله يتراجع عنه.
لحسن الحظ وصل دايسكي في تلك اللحظة، كان جورو يركض نحو بوابة المزرعة ويتذرع بالذهاب لمدرسته للفرار من أبي، تفاجأ دايسكي بجورو الذي بركض نحوه فشد كابح دراجته بسرعة ليوقفها لكن جورو أخذ يحتمي به، في تلك اللحظة وصلنا – أبي ثم أنا – إليهما، أخذ أبي يكرر تهديداته لجورو ودايسكي يتساءل عما يحدث، وصلت فشرحت لدايسكي الأمر، عندها شعر جورو بالاطمئنان وقالها بقوة في حضور دايسكي: “مُدَرِّسَتِي طلبت مني رسم أمي أو أبي وأقدمها لها الآن”.
كان جورو يحتمي بدايسكي ويتحدى غضب أبي الذي ثار عليه وهو يصرخ: “كان عليك أن ترسمني. لا أرى سببًا لترسم صورة أمك بالذات” هنا تدخلنا – دايسكي وأنا – لإنهاء الموقف، فقد حاولت أنا إدخال أبي للمنزل، والتقط دايسكي الورقة من يدي وتولى مهمة العناية بجورو، تمنيت كثيرًا أن أشهد هذا اليوم وأن أرى دايسكي وجورو قريبين لهذا الحد، دايسكي يحب جورو كما لو كان أخاه الأصغر فعلًا، وأعتقد أنه يبحث فيه عن حبه الضائع للصغيرة ماريا التي تركها رغمًا عنه منذ سنوات، جورو أيضًا يحب دايسكي وبات يجد فيه المثل الذي يصبو نحوه وهو ما أثلج صدري، ليت جورو يكتسب جمال شخصية دايسكي ودفء قلبه وقوة إيمانه و .حنانه!
أخذت أحدث أبي وأحاول تهدئة أعصابه وتكللت جهودي بالنجاح أخيرًا، وعندما خرجت من المنزل لم أجد دايسكي فقدرت أنه صعد لغرفته للنوم فهو لم ينم منذ البارحة، لهذا لم أحاول إزعاجه وقررت إنهاء أعمالي في المزرعة ثم الذهاب لمركز الأبحاث لحضور درس الفضاء كالعادة.
اقترب موعد الظهيرة وأعددت نفسي للذهاب للمركز لكني تفاجأت حال وصولي، فقد كانت دراجة دايسكي في ساحة المركز، متى حضر إلى هنا؟ أتمنى ألا بكون مكروه قد حدث!
دخلت المركز وحاولت البحث عن دايسكي، وصلت لغرفة المراقبة فلم أجده فيها وكذلك دكتور أمون، لكن عند خروجي من الغرفة اصطدمت بكوجي، ابتسم لرؤيتي فألقيت عليه التحية وسألته عن دايسكي ، أخبرني كوجي أن دايسكي خرج لملاقاة اليوفو وأنه أصيب في المعركة فامتقع وجهي وشحبت ملامحي، حاول كوجي طمأنتي بأنه بخير وأنه في المركز الطبي مع الدكتور أمون فقررت الذهاب إليه.
وصلت إلى حيث دايسكي والدكتور أمون، طرقت الباب بهدوء وقلبي ينبض بعنف ويكاد يقفز من بين ضلوعي، سمعت دكتور أمون يدعوني للدخول فدخلت، وجدت دايسكي جالسًا على طرف فراشه، كان يقبض بكفه اليسرى على ذراعه اليمنى، لم يبدُ الألم على ملامحه لكني فهمت ما الذي حدث، هممت بالتوجه نحو دايسكي وأنا أتساءل بقلق وأبتلع اضطرابي بصعوبة:
أنت بخير دايسكي؟ ها!
2023-01-10
مذكرات هيكارو السرية – أمي..!
مذكرات هيكارو السرية
مذكرات خيالية في دفتر يوميات هيكارو ماكيبا
الحلقة الثانية والثلاثون – أمي..!
تحطم صحن كوجي التجريبي وعاد ثانية لمرحلة البحث والتصميم والسعي لإنتاج سلاح جديد، لكن هذه المرة لم يكن كوجي يعمل منفردًا، وأصر دكتور أمون على أن يكون كوجي عضوًا في فريق خاص لإنتاج سلاح جديد ضمن مشروع تنمية الفضاء، وقد بدأ كوجي البحث والدراسة لتطوير أسلحة طائرته الجديدة.
حدثنا كوجي عن سلاح جديد باسم “بندقية الإعصار”، قال أنه سيبتكر سلاحًا فتاكًا وبدا متحمسًا جدًا للفكرة، أعتقد أن بإمكان كوجي تحقيق شيئًا مبهرًا فعلًا، فعلى الرغم من تهور كوجي واندفاعه إلا أنه يملك إرادة قوية، كما أنه شديد الاعتداد بنفسه كما أرى!
لم نتعرض لهجمات كثيرة في الأسابيع الماضية، فبعد ذلك اليوم المشؤوم هدأت الحرب لأسبوعين تنفست فيهما الصعداء، ورأيت أنها فرصة مناسبة حتى يشفى جرح دايسكي ولو قليلًا، كما أن عدم خروج دايسكي لمعارك جديدة كان يحميه من الخطر وهذا ما كنت أتمناه، قبل ذلك اليوم كنت أصلي لانتهاء الحرب ولأمان وطني وأسرتي ولسلامة دايسكي، لكن الآن أنا أصلي لشفاء دايسكي أيضًا، بت أخشى من خروج دايسكي لمعركة جديدة، رأيته يتألم في ذلك اليوم كما لم أره من قبل! ماذا سيحدث إن أصيب بشيء مماثل في المعركة؟! إن مجرد التفكير في هذا الأمر يصيبني بالرعب، لهذا هدأت مع توقف الحرب لفترة.
أسبوعان لكنهما بالنسبة لي عمرًا كاملًا، أيام قضيناها معًا في سلام، كنت أرقب دايسكي بهدوء وأحاول التخفيف عنه، قمت بالكثير من أعمال المزرعة نيابة عنه دون أن أحاول لفت انتباهه للأمر، وكنت أصلي لأجله كل ليلة.
منذ شهر زارنا بوس بوروت، إنه أحد أصدقاء كوجي الثلاثة المقربين له، هم قريبون جدًا من قلب كوجي رغم اختلاف شخصياتهم عنه كثيرًا، زارنا الثلاثة من قبل في احتفالات رأس السنة، هذه المرة جاء بوروت منفردًا، كان كوجي يشعر بالملل بعد فقده التيفو وسلاحه التجريبي، وقد أرسل دعوة لأصدقائه ليشاركوننا في عطلة الأعياد.
لا أميل لأصدقاء كوجي كثيرًا ويذكرونني ببانتا، لهذا لا أندهش من احتفاء بانتا بقدومهم، في ذلك اليوم قررت قضاء الوقت بمفردي، أعددت مائدة شهية لضيفنا ثم توجهت لغرفتي أطالع بعض الكتب، لقد حاول بوروت مغازلتي من قبل بأسلوب غير لائق وأنا لا أميل لهذا النوع من الرجال.
استغرقت في القراءة لفترة أنستني صديق كوجي وذلك الإنسان الآلي الذي أتى به للمرة الثانية، كان إنسانًا آليًا غريب المظهر والأطوار أيضًا، لقد جعله يطير بطريقة مضحكة، عندما رآه أبي اليوم ظنه اليوفو وأخذ يطلق عليه النار، ولكنه تنبه أخيرًا للرسالة والزينة التي يحملها ذلك الإنسان الآلي.
على كل حال قطع رنين الهاتف تركيزي فتوجهت إليه، لقد كان دكتور أمون يطلب دايسكي في مركز الأبحاث على نحو عاجل، انتابني القلق وذهبت أخبر دايسكي فورًا.
كان دايسكي يشارك أبي وكوجي وبوروت وبانتا المائدة، لهذا ذهبت إلى حيث الجميع وناديت دايسكي الذي كان قريبًا من باب الغرفة، أخبرته باستدعاء دكتور أمون له، نهض سريعًا وخرج من الغرفة، ذهبنا سويًا إلى حيث دراجة دايسكي، سألته عما يمكن أن يكون قد حدث، فقال أنه من المؤكد التقاط الرادار لما يشبه اليوفو، بدا القلق على ملامحي رغمًا عني وتعكر صفو يومي، لهذا أوصيت دايسكي بالاعتناء بنفسه، لكنه حاول طمأنتي – كالعادة – بأنه لا داعي للقلق، تمنيت من قلبي أن يكون على صواب!
ذهب دايسكي ولم يمضِ وقت قصير حتى هاجمتنا الميني فو فعلًا وحاول كوجي وأصدقاؤه استخدام الإنسان الآلي غريب الشكل للتصدي لهم، كما انضم جورو لأبي في هجومه الناري من أعلى البرج، استطاع أبي أن يسقط إحدى صحون الميني فو بطلقاته النارية في ضربة حظ غير متوقعة، غمره الفرح الشديد وكذلك جورو، لكن انتهى الأمر بأن فقد الاثنان وعيهما أعلى البرج عندما اندفعت بقية وحدات الميني فو صوبهما، لم يصب الاثنان بسوء الحمد لله وتمكنت من إنزالهما من هناك بسلام.
بانتا كذلك شارك كوجي وبوروت قيادة الإنسان الآلي وابتعد الجميع عن المزرعة، بدا الأمر غريبًا هذه المرة وكأننا في مسرحية هزلية لا في معركة حقيقية، على كل حال لم يطل الأمر وعاد دايسكي سالمًا عند غروب الشمس، تدمر الإنسان الآلي الذي صنعه أصدقاء كوجي إلى حد ما لكن بوروت وعد بإصلاحه وودعنا في نهاية اليوم وانصرف.
***
ليلة أمس كانت المراقبة الليلية من نصيب دايسكي وقضى ليلته في مركز الأبحاث، لهذا سهرت مع جورو بعد العشاء وأخذنا نتحدث عن أمي، لقد توفيت أمي وهي شابه، كانت ذات جمال متوسط وأعتقد أني ورثت جمالها، شعري وعيني يشبهان لون شعرها وعينيها، إلا أن شعر أمي يختلف في مظهره عن شعري كثيرًا، ولربما كانت هي أكثر هدوءً مني والمؤكد أنها كانت أكثر دفئًا وحنانًا.
أفتقد أمي كثيرًا! في تلك الليلة التي عرفت فيها بحقيقة جرح دايسكي بكيت كثيرًا جدًا، وتمنيت لو أن بإمكاني الاختباء بين ذراعي أمي، تمنيت أن أصارحها بعذابي وألمي، أن أشكو لها لوعتي على من أحببت وبات فراقه قريبًا! ليس من السهل أن يتقبل المرء رؤية من يحب يتألم ويجد نفسه عاجزًا أمامه! ليس من اليسير على القلب أن يقبل هذا الوضع وأن يعيش تحت وطأته ونيره! ليت بإمكاني أن أشكو لأمي كل هذا العبء الذي لا أقوى على حمله! لكن أمي لم تعد هنا! ولا أمل في استرجاعها! لهذا بكيت في تلك الليلة المشؤومة وحدي على وسادتي، أما جورو فأنا لا أحتمل أن يبكي وحيدًا مثلي!
ليلة أمس طلب مني جورو أن أرسم له صورة لأمي، نحن لا نملك صورًا لها في المنزل وجورو بالكاد يتذكر ملامحها، حاولت أن أرسم أمي قدر استطاعتي، وصفتها له واجتهدت لرسمها فأنا لست بارعة في الرسم، انا متفوقة في الجمباز لا في الرسم، وأنا راضية بذلك.
تفاجأت بأن معلمة جورو طلبت منه رسم أحد والديه ولكنه اختار رسم أمي رغم صعوبة الأمر، مسكين جورو يحمل بداخله شوقًا وحنينًا لأمي! ليتني أستطيع منحه ما يحتاج إليه أو على الأقل ما يروي ظمأ روحه!
تركت جورو وخلدت للنوم، في الصباح شب الشجار في منزلنا بين أبي وجورو، فبينما كنت أعد أنا الإفطار أطلع جورو أبي على صورة أمي التي حاول رسمها بنفسه قبل أن ينام، واحتج أبي على قرار جورو برسم أمي بدلًا منه، لأبي تصرفات صبيانية نوعًا ما ويتشاجر كثيرًا مع جورو كما لو أنهما من العمر نفسه، ركض جورو خارج المنزل ولحق به أبي وأخذت أركض خلف الاثنين والصورة بيدي، كنت أحاول فض الشجار بينهما إذ أصر أبي على تأديب جورو، أنا لا أعرف السبب فعلًا وراء ما يفعله أبي في الكثير من الأحيان، لقد وصف تصرف جورو بالمائع وأصر على جعله يتراجع عنه.
لحسن الحظ وصل دايسكي في تلك اللحظة، كان جورو يركض نحو بوابة المزرعة ويتذرع بالذهاب لمدرسته للفرار من أبي، تفاجأ دايسكي بجورو الذي بركض نحوه فشد كابح دراجته بسرعة ليوقفها لكن جورو أخذ يحتمي به، في تلك اللحظة وصلنا – أبي ثم أنا – إليهما، أخذ أبي يكرر تهديداته لجورو ودايسكي يتساءل عما يحدث، وصلت فشرحت لدايسكي الأمر، عندها شعر جورو بالاطمئنان وقالها بقوة في حضور دايسكي: “مدرستي طلبت مني رسم أمي أو أبي وأقدمها لها الآن”
كان جورو يحتمي بدايسكي ويتحدى غضب أبي الذي ثار عليه وهو يصرخ: “كان عليك أن ترسمني.. لا أرى سببًا لترسم صورة أمك بالذات” هنا تدخلنا – دايسكي وأنا – لإنهاء الموقف، فقد حاولت أنا إدخال أبي للمنزل، والتقط دايسكي الورقة من يدي وتولى مهمة العناية بجورو، تمنيت كثيرًا أن أشهد هذا اليوم وأن أرى دايسكي وجورو قريبين لهذا الحد، دايسكي يحب جورو كما لو كان أخاه الأصغر فعلًا، وأعتقد أنه يبحث فيه عن حبه الضائع للصغيرة ماريا التي تركها رغمًا عنه منذ سنوات، جورو أيضًا يحب دايسكي وبات يجد فيه المثل الذي يصبو نحوه وهو ما أثلج صدري، ليت جورو يكتسب جمال شخصية دايسكي ودفء قلبه وقوة إيمانه و ..حنانه!
***
أخذت أحدث أبي وأحاول تهدئة أعصابه وتكللت جهودي بالنجاح أخيرًا، وعندما خرجت من المنزل لم أجد دايسكي فقدرت أنه صعد لغرفته للنوم فهو لم ينم منذ البارحة، لهذا لم أحاول إزعاجه وقررت إنهاء أعمالي في المزرعة ثم الذهاب لمركز الأبحاث لحضور درس الفضاء كالعادة.
اقترب موعد الظهيرة وأعددت نفسي للذهاب للمركز لكني تفاجأت حال وصولي، فقد كانت دراجة دايسكي في ساحة المركز، متى حضر إلى هنا؟ أتمنى ألا بكون مكروه قد حدث!
دخلت المركز وحاولت البحث عن دايسكي، وصلت لغرفة المراقبة فلم أجده فيها وكذلك دكتور أمون، لكن عند خروجي من الغرفة اصطدمت بكوجي، ابتسم لرؤيتي فألقيت عليه التحية وسألته عن دايسكي ، أخبرني كوجي أن دايسكي خرج لملاقاة اليوفو وأنه أصيب في المعركة فامتقع وجهي وشحبت ملامحي، حاول كوجي طمأنتي بأنه بخير وأنه في المركز الطبي مع الدكتور أمون فقررت الذهاب إليه.
وصلت إلى حيث دايسكي والدكتور أمون، طرقت الباب بهدوء وقلبي ينبض بعنف ويكاد يقفز من بين ضلوعي، سمعت دكتور أمون يدعوني للدخول فدخلت، وجدت دايسكي جالسًا على طرف فراشه، كان يقبض بكفه اليسرى على ذراعه اليمنى، لم يبدُ الألم على ملامحه لكني فهمت ما الذي حدث، هممت بالتوجه نحو دايسكي وأنا أتساءل بقلق وأبتلع اضطرابي بصعوبة:
– أنت بخير دايسكي؟ ها!
قبل أن يجيبني سمعتُ دكتور أمون يقول:
أتيت في الوقت المناسب هيكارو، هل لك بتضميد جرح دايسكي نيابة عني؟!
قالها وهو يمد يده بحقيبة الإسعافات، فأومأت له برأسي إيجابًا ومددت يدي أتناول الحقيبة من يده، جلست على طرف الفراش جوار دايسكي، فتحت الحقيبة في صمت وأخذت أخرج الأدوات منها، ثم مددت يدي وأبعدت كفه الممسكة بذراعه برفق وبدأت يتضميد الجرح بهدوء وصمت، كنت أحاول السيطرة على دموعي ويبدو أني نجحت فعلًا، كنا وحيدبن بالغرفة وقد غادرنا دكتور أمون، قطعت الصمت بيننا بسؤالي:
كيف تشعر؟!
القليل من الألم، أنا بخير. اطمئني!
قالها بصدق وبنبرة هادئة فابتسمت له، تمنيت لو أن بإمكاني جعل الكون كله يبتسم له ولو للحظة! أجبته:
تسعدني سلامتك! ما الذي حدث؟
كان الأمر غريبًا هذه المرة!
قالها وهو يشرد ببصره ثم عاود النظر إلي واستطرد باهتمام:
لقد استخدم العدو اليوم سلاحًا مدهشًا هيكارو، مولد للسراب قادر على تكوين صورًا وهميةً خادعة، لقد كان الوحش يظهر وبختفي وكأنه يتحرك بسرعة فائقة . بلدة فليد كانت هناك أيضًا!
تجمدت يداي فجأة واتسعت عيناي بدهشة وأنا أهتف:
ماذا؟!
أومأ برأسه وهو يستطرد:
رأيت بلدة فليد على الأرض هيكارو، كانت أمي تقف وسطها وتناديني!
صمتُّ لبرهة ولم أعرف بماذا أجيبه فأكمل وكأنه يحدث نفسه:
لم تكن أمي في الحقيقة. كانت صورة وهمية حول إحدى مقاتلات فيجا، تلك الفتاة. كانت شرسة للغاية، لولا وصول كوجي لربما نالت مني!
هنا سقط قلبي بين قدمي، تجلدت وعدت أستكمل تضميد جرحه وأنا أهمس بصوت مختنق نوعًا:
حمدًا لله، لقد نجوت!
ثم سألته:
كيف استطاع كوجي مساعدتك دون سلاح؟
لقد أنهى بندقية الإعصار وقام بتجربتها اليوم.
هذا رائع! لقد نجح سلاحه على ما يبدو.
أومأ دايسكي برأسه موافقًا وهو يبتسم بهدوء، وكنت أنا قد انتهيت من تضميد الجرح، لهذا ابتسمت له مشجعة وأنا أقول:
انتهينا!
بدأت ألملم الأدوات وأعيدها لحقيبة الإسعافات فوجدته قد وضع كفه على كتفي وهو يهمس بدفء:
شكرًا هيكارو!
كانت لهجته حانية ومفعمة بالكثير من المشاعر، شعرت بالارتباك فجأة، لو كان بإمكاني تخفيف آلامك دايسكي بأكثر من ذلك لفعلت! ليتني أملك القدرة على إنهاء هذه المأساة التي بدأت لتوها! ليتني أكون أكثر نفعًا ودعمًا لك! كل ما أستطيعه هو تضميد جروحك والصلاة لأجلك، ترى هل هذا كافٍ وحده؟! أسبلت جفوني أخفي ما يجول بصدري من مشاعر وما تحمله عيناي من كلمات وأجبته:
لا داعي للشكر ستكون على ما يرام!
ثم استدركت بلهجة متحمسة قدر استطاعتي لأخفف من الموقف:
تعرف. سمعت في الأخبار منذ عدة أيام أن قائد طائرة ركاب قد أبلغ عن ظاهرة غريبة!
يبدو أن جملتي أثارت انتباه دايسكي فسألني مندهشًا:
ما هي تلك الظاهرة؟
قال أنه رآى ما يشبه الجزر والأشجار في السماء، وأنه رآى أسماكًا طائرة، ثم اختفى كل شيء فجأة.
لربما كانت إحدى تجاربهم، ومن المرجح أن تكون لمولد السراب الذي رأيته اليوم.
أظن ذلك فعلًا رغم أن أبي يعتقد جازمًا أن قائد الطائرة كان مخمورًا.
ضحك دايسكي ضحكة صافية فابتهجت وضحكت أنا أيضًا، لكن هذه الضحكات لم تدم طويلًا، فقد فاجأني بسؤاله:
هيكارو، كيف ماتت والدتك؟
عرفت من سؤاله أن ما رآه اليوم قد أثار شجونه، أنا أيضًا سأصاب بمثل ذلك لو كنت مكانه، سؤال دايسكي ألهب مشاعري في تلك اللحظة فأجبته مباشرة:
توفيت أمي وجورو لا يزال طفلًا دايسكي، كانت شابه ولا تشكو من أي مرض، استيقظنا ذات يوم فوجدناها قد لفظت أنفاسها في المطبخ وهي تعد لنا الإفطار، المسكينة ماتت وحيدة ونحن نائمون، لم يتحمل أبي وفاتها وأصيب بحزن شديد وكذلك أنا!
أطرقت برأسي رغمًا عني فشعرت بذراع دايسكي تطوقني ورفع ذقتي بطرف سبابته وهو يهمس لي:
أنا آسف!
أومأت برأسي نفيًا وأنا أجيبه بصوت مختنق وعبرات مكتومة:
لا يتوجب عليك الاعتذار، أنا أفتقدها. أفتقدها كثيرًا جدًا!
قلتها بانفعال حقيقي، انفجرت الدموع من عيني ولم استطع كبحها، واستجبت إليه وهو بجذبني ويضمني إلى صدره، لقد كنت بحاجة حقيقية للبقاء بين ذراعيه ملتصقة بقلبه، أنصت لدقاته والدموع تسيل على وجنتي كالفيضان، لا أحتمل فقدك دايسكي! أحتاج إليك بأكثر مما تتصور، وأسعد بقربك، لا أحتمل فكرة فقدك! لا أحتملها أبدًا!
كنا في حالة عميقة من الحزن والشجن إلا أننا حاولنا التغلب على أحزاننا ونجحنا أخيرًا، قررنا العودة للمزرعة فدايسكي بحاجة للنوم والراحة.
عند خروجنا من بوابة المركز تفاجأنا بجورو يركض نحونا، كان متحمسًا بشدة وكان يهتف باسم دايسكي بسعادة، وقف أمامنا وأسدل الورقة التي بيده فظهرت صورة أمي وقد أتمها جورو وباتت جميلة فعلًا وتشبه أمي كثيرًا، وظهر توقيع معلمة جورو وثناؤها على الصورة، كان جورو يقول:
مدرستي هنأتني وأعجبت برسمي جدًا!
أخذنا دايسكي وأنا نهنئ جورو بدورنا ونشجعه، أكدت لجورو أن الصورة تشبه أمنا كثيرًا وأن أبي سيحبها، ثم ذهب جورو ليطلع أبي على الصورة ولحقنا به – دايسكي وأنا – بعدها بقليل.
تناولنا عشاءنا وصعد دايسكي هذه المرة لغرفته فعلًا، وبقيت أنا مستيقظة أنهي أعمالي كالعادة، وبقي بالي منشغلًا أيضًا كعادتي منذ عرفت دايسكي وأتي لمزرعتنا.
مساء شُغِلْتُ بأبي، يستطيع أبي أن يتغلب على كل أحزانه بالضحك عدا حزنه لفراق أمي، لهذا لا يتحدث عنها أبدًا، يخشى أبي الحديث عنها لأنه لا يتحمل تبعاته، ربما لهذا السبب استاء من رسم جورو لها صباحًا، ولهذا لا يعلق لها صورًا في منزلنا، أنا واثقة أنه يملك صورًا لها بين مقتنياته الخاصة لكنه يخشى رؤيتها، هل من الممكن أن أواجه مصيرًا كمصير أبي ذات يوم؟! كيف يمكنني التغلب على ما أعانيه اليوم؟ علي أن أتحلى بالشجاعة وأن أتمالك نفسي، علي أن أكون قوية وأن أسعد بوجود دايسكي بحياتي مهما كانت الظروف، هو أيضًا بحاجة لمن يمنحه شيئًا من السعادة، وهذا أقل ما يمكنني منحه إياه!
لهذا قررت أن أكون أكثر نضجًا وتماسكًا، علي أن أواجه مصيري. وبشجاعة! فليساعدني الله!
اترك تعليقًا