مذكرات هيكارو السرية – الحرب

مذكرات هيكارو السرية – الحرب

الحلقة السابعة والعشرون – الحرب..!

مذكرات هيكارو السرية – الحرب

مرت الأيام ثقيلة بعد انتحار نايدا أمام أعيننا، وزادها ثقلًا اضطراري لإخفاء مشاعري عن أبي وجورو اللذين لا يعلمان شيئًا عما حدث، هما لم يسمعا بقدوم نايدا من الأساس،  لقد كانت تلك الحادثة مؤلمة جدًا، وقد أعادت دايسكي لسابق عهده حين قدم لمزرعة البتول الأبيض منذ سنوات، الفارق الوحيد هو أنني أشاطره اليوم الألم  والحزن فعلًا، وقد ساعدني صدق شعوري على مساعدته للخروج من الأزمة، كما بدا هو أيضًا مرحبًا بذلك عكس ما كان سابقًا.

امتنع دايسكي عن الذهاب لمركز الأبحاث لأكثر من أسبوع، عاد لعمله السابق في المزرعة، كان أحيانًا يعمل بنشاط جم كأنه ينفس عن غضبه وألمه، وأحيانًا ينتابه الفتور لدرجة الانعزال عن الكل، كنت أراه أحيانًا جالسًا وحده في ظل إحدى الأشجار ممسكًا بقيثارته يشاطرها أحزان روحه، ومساءً كنا نجلس معًا صامتين كثيرًا نصغي لدقات قلوبنا فقط، وكان دكتور أمون يزورنا نهارًا من وقت لآخر على غير العادة، أعرف السبب وراء تلك الزيارات بالطبع، فعلى الرغم من أن دايسكي ليس ابن الدكتور أمون حقيقة إلا أنه يحبه بصدق ويعامله بحنان جم، كنت أراه كثيرًا يحاول احتواء قلق دايسكي وتوتراته، وكان يقرأ انفعالات دايسكي ولو لم تظهر جلية على وجهه.

عندما اتصل بي دكتور أمون بعد منتصف الليل في ذلك اليوم الأليم اكتشفت كم هو قريب من قلب دايسكي! عرفت أنه بعرف أو يشعر بما أكنه له بقلبي، وخجلت حين تبينت معرفته بما يكنه دايسكي لي، أعترفُ أنني سعدت رغم الأزمة! سعدت لثوان حين عرفت كم أنا قريبة لقلب دايسكي وأنه ربما حدَّث دكتور أمون عني، سعدت كفراشة تطير بين الحقول وتتراقص طربًا بين زهرة وأخرى، لكن سرعان ما غمرني القلق والتوتر وغرقت في النهاية في سيل جارف من الحزن والألم.

في تلك الليلة عرفت أن دكتور أمون يعرف الكثير عني وبأكثر مما كنت أتصور، كان يعرف بعمق صداقتي لدايسكي وبحقيقة مشاعري نحوه، كان يعرف بأني على علم بشخصية دايسكي الحقيقية وبوجود جريندايزر وبمعرفتي بمكانه أيضًا، كان واثقًا من معرفتي بنايدا ولم يُعرِّفني عليها أو يذكر شيئًا عنها في تلك الليلة، شعرت وقتها أني أنتمي إلى هناك، نعم، أنتمي لفريق العاملين في مركز الأبحاث وأني واحدة منهم بحق!

منذ شهر مضى، خرجنا دايسكي وأنا لتدريب الجياد كالمعتاد، كان هو في مزاج سيء في ذلك اليوم واقترحت عليه أن نخرج بالجياد لتسليته، خرجنا وحدنا ولم يصحبنا كوجي في ذلك اليوم، غاب كوجي عن المزرعة كثيرًا وقلما كنا نراه، خلال التدريب أخذنا نتجاذب أطراف الحديث وأخبرني دايسكي أنه قرر الذهاب للمركز ابتداء من الغد، شعرت بانفراجة حقيقية وتفاءلت كثيرًا بقراره، أخبرني عن مشروع الدكتور أمون الجديد وأنه سيعود لعمله لدعم هذا المشروع خصيصًا، كان بتحدث عن مشروع باسم “تنمية الفضاء” سألته عما بعنيه فأخذ يشرح لي فكرة المشروع، قال أن الدكتور أمون يتطلع للبحث عن موارد جديدة للطاقة والغذاء في الفضاء الخارجي، وأنه يعتقد بوجود كواكب ذات موارد لا تنفذ مقارنة بالأرض، شرح لي دايسكي الأسباب التي لأجلها تشتعل الحروب بين الشعوب والكواكب، وقال أن أكثر الأسباب شيوعًا هو نقص الموارد، وهو الأمر الذي يجعل الصراع قائمًا لأجل البقاء بالمقام الأول، سألته عن حربنا مع قوات فيجا وهل هي حرب قائمة على السبب نفسه، فأجابني بالنفي، قال لي أن هذا قد يكون سببًا من بين أسباب عديدة أهمها أطماع فيجا الاستعمارية البشعة والتي في سبيلها قد يُدمر الطبيعة ويبيد السكان دون رحمة، كم هو فظيع أسلوب فيجا الكبير!

عرفت أن مشروع تنمية الفضاء سيستغرق سنينًا، وأن الخطوة الأولى فيه هي بناء محطة صغيرة في الفضاء الخارجي لإجراء التجارب وجمع المعلومات، لهذا تساءلت عن كيفية بناء شيء كهذا، وعرفت أن الأمر يتم عن طريق صعود فريق متخصص على متن مكوك فضائي، ويتولى هذا الفريق تركيب أجزاء المحطة، ثم يُدار كل شيء عن بعد من داخل مركز الأبحاث، لا زلت أندهش بومًا بعد بوم وأزداد شغفًا ورغبة في المعرفة، سألته من سيصعد على متن المكوك؟ فقال لي أن الأمر لم يُحسم بعد وأن الحديث عنه لا زال مبكرًا.

في تلك الليلة سهرنا معًا، ورأيت دايسكي يبتسم لأول مرة منذ تلك الحادثة المروعة، كان ينظر لي نظرة امتنان لم أفهم سببها، ويبتسم ابتسامة مضيئة، هكذا رأيتها في ضوء القمر، أحببت ابتسامته في تلك الليلة وأنعشت قلبي الذي أثقله القلق والحزن خلال الأسابيع الماضية، لم يقل دايسكي شيئًا ولم يشرح لي معنى تلك النظرة لكن إن كان دايسكي ممتنًا لشيء ما فإنني سعيدة لشعوره ولقدرتي على مساعدته ودعمه ولو بالقليل.

عدت أعمل في المزرعة وحدي تقريبًا، وعاد دايسكي لعمله كالسابق في مركز الأبحاث، وحاولت تخفيف العبء عنه قدر استطاعتي، حاولت إشراك جورو في العمل وأوكلت إليه بعضًا من مهام دايسكي كإطعام الخيول والأبقار، جورو يثق بدايسكي كثيرًا ويحبه وكاد أن يسيء فهمي بالأمس حين طلبت منه ألا يعتمد على دايسكي، ظن جورو أني ربما على خلاف مع دايسكي بشكل أو بآخر، فسألني مندهشًا ومنزعجًا: “كيف هذا؟!” أُقَدِّرُ شعور جورو كثيرًا وأسعد به، لطالما تمنيت أن يكبر جورو ليكون شبيهًا بدايسكي في شخصيته وتصرفاته، لهذا شرحت له مقصدي ببساطة، قلت له أن عليه أن يكون قادرًا على فعل تلك المهام بنفسه وأن لا علاقة لدايسكي بالأمر أبدًا، وأعتقد أنه تقبل كلامي ونصيحتي بصدر رحب، المشكلة الحقيقية أني كنت أعاني من تعكر المزاج صباح أمس، كنت أعلم بأنه يوم مهم وأن المكوك الذي يحمل محطة التجارب سينطلق اليوم لكن شيئًا ما جعلني أشعر بالانزعاج والقلق.

صباحًا حدث اهتزاز مفاجئ وكان أبي على البرج كعادته يرقب السماء ثم أخذ يهتف بأن هناك أمر غريب يحدث، قدرت أنها استعدادات الاطلاق لكن حافظت على صمتي كالمعتاد، أسمع تفاصيل كثيرة من دايسكي ولا أتحدث عنها مطلقًا، هكذا تعلمت من صداقتي لأمير مثل دايسكي يحمل ماضيًا مؤلمًا، ويواجه مصيرًا مهددًا، ويملك سلاحًا خطيرًا، ويعمل في مركز أبحاث ينطوي معظمها على السرية.

نزل أبي من برجه وذهبنا جميعًا لنرى ما يحدث وانضم إلينا بانتا كذلك، وجدنا حفرة واسعة في الأرض ومكوكًا فضائيًا يخرج منها بشكل عمودي، ثم وصلت سيارة المركز وهبط منها رجلان بأزياء فضائية، كان كوجي أحدهما، خلع خوذته وحيَّانا، وبالطبع كان أبي يشعر بإثارة ولذة لا حدود لها، هذه الأجواء قادرة على تفجير كل هرمونات السعادة والمرح داخل عروقه، يحلم أبي بالفضاء الخارجي ويتمنى مصادقة سكان الكواكب الأخرى، ولا يعرف المسكين أن دايسكي الذي يتعامل معه يوميًا هو من كوكب آخر!

هبط دكتور أمون ودايسكي من السيارة وتولى دايسكي مهمة توضيح ما يحدث للجميع، قال بأن كوجي وهياشي سينطلقان في المكوك وسيذهبان للفضاء الخارجي، وأكمل كوجي أنه سيقوم ببعض التجارب هناك، لكن دكتور أمون استعجل الجميع نظرًا لضيق الوقت، وصعد كوجي وهياشي للمكوك وذهبنا جميعًا في سيارة المركز عائدين إليه، وسمح لنا دكتور أمون بمشاهدة مرحلة الإقلاع، وقفنا جميعًا أمام الشاشة نراقبها ونستمع للعد التنازلي بصوت دكتور أمون.

كنت أشعر بالتوتر فهذه هي المرة الأولى التي أحضر فيها حدثًا كهذا، في حين بدا دايسكي هادئًا جدًا وكذلك دكتور أمون، وأخذ العد يستمر: أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، صفر، انطلق، وانطلق المكوك فعلًا، أخذ يصعد لأعلى بسرعة كبيرة وما إن خرج من الغلاف الجوي حتى بدا يتفكك شيئًا فشيئًا، خلال ذلك أخذ دكتور أمون يشرح لنا مشروعه باستفاضة وكان أبي معجبًا بتفكير الدكتور أمون كثيرًا.

نظرت لدايسكي وقتها دون أن أقول شيئًا فوجدته ينظر إلي في نفس اللحظة، دار حديث طويل بيننا دون أن نقول شيئًا، لقد كنت سعيدة لرؤية دايسكي من جديد في مركز الأبحاث، وكنت قلقة حول المشروع، وخائفة من هجوم جديد قد تشنه قوات فيجا، وكنت أتمنى البقاء في المركز طويلًا، رأيت بعيني دايسكي رسائل كثيرةً، بعضها امتنان، وبعضها تطمين، وبعضها قلق، وبعضها. قطع أبي هذا الحديث الصامت وهو يطلب منا الانصراف معه، لهذا التفت للدكتور أمون وتمنيت له ألا بحدث أي خطأ في مشروعه وكنت أعني دايسكي بحديثي في الحقيقة، قلتها بلساني لدكتور أمون، أما قلبي فكان يقول شيئًا آخر: “دايسكي ابقَ سالمًا أرجوك”!

عدنا جميعًا للمزرعة وأخذت أكمل عملي، أتممت حلب الأبقار، وأشرفت على إطعام الحيوانات، تفقدت الخيول ولكن وبينما أنا منهمكة في العمل سمعت أبي يصرخ بأعلى صوته: “اليوفو” كان هذا نذير شؤم بالنسبة لي، فإن كان الصاروخ الذي يحمل كوجي وهياشي قد انطلق منذ وقت قصير فلابد وأن ظهور اليوفو الآن لن يأتي بخير أبدًا، وربما قُتل كوجي وهياشي كذلك! يا إلهي! هذا فظيع! لكن لم يحدث شيء في البداية، فقط شاهد أبي بضع صحون صغيرة تتجه نحو مركز الأبحاث، فقط تتجه في صمت ودون هجوم، تلا ذلك بقليل اهتزاز أرضي مماثل لما حدث صباحًا ، وانطلق صاروخ ثانٍ، بدأت أشعر بالتوتر والتشاؤم، ما يحدث هو نذير شر لا ريب في ذلك!

لكن لم يكن لدي متسع من الوقت للخوف أو التفكير، فقد ظهر وحش فضائي هائل الحجم في السماء فجاة، وأخذت الضربات تنهال علينا بشراسة، سقط أبي على الأرض وحاولت إبعاده عن الخطر، وساعدني جورو في ذلك، بدأ جورو يكبر فعلًا! عظيم! بدأنا نطلق الحيوانات ونساعدها على الهرب، فتحنا باب الإسطبل وأطلقنا الخبول والأبقار، وكذلك حررنا الأرانب من أقفاصها، لكن أحد الأرانب أخذ يركض بالاتجاه الخاطئ وكان على وشك أن يموت، صرخ جورو فانتبهت لما يحدث، حاولت إبعاد جورو وحمايته وقفزت من فوق السياج وبالكاد أمسكت الأرنب، احتضنته وغمرني شعور غريب وقتها، غريب لأبعد مدى، لقد ذكرت دايسكي في تلك اللحظة، حين أنقذت الأرنب تذكرت ذراعيه وهما تمسكان بي وأنا أهوي من أعلى الجبل، ذكرته وهو ينقذني بقلادته من رجل فيجا الذي جاءنا متنكرًا في هيئة عالم فضاء مرموق من وكالة ناسا، تذكرته وهو ينهضني من على الأرض بحب وبقلق، ذكرت أنه قد يكون في مأزق الآن، تمنيت لو كان بامكاني الاطمئنان عليه ومساعدته، لهذا احتضنت الأرنب بحب ولم أنتبه لما بحدث إلا في اللحظة الأخيرة وبعد فوات الأوان! فقط شعرت أن شيئًا سيئًا يحدث وأظلمت الدنيا وفقدت أنا وعيي.

كم مر من الوقت قبل أن أستعيد وعيي؟ لا أعرف! ماذا حدث خلال ذلك؟ أيضًا لا أعرف! لقد استعدت وعيي لأجد نفسي ممدة على فراش دافئ في مركز الأبحاث، كنت أشعر بالإرهاق الشديد وبالكاد فتحت عيني، رأيتُ الكل حولي، أبي كان واقفًا على يسار فراشي وقد مال بجذعه القصير نحوي ليقترب أكثر من وجهي، كان يبدو سعيدًا جدًا، على يميني كان يقف طبيب عجوز نوعًا لا أذكر أني رأيته من قبل، وأمامي مباشرة رأبت دايسكي وكوجي، كان كوجي معصوب الرأس وإلى جواره من جهة أبي كان يقف دكتور أمون، حاولت أن أنادي على أبي فرد علي بحب وأخبرني أنني كدت أن أفقد الحياة لولا دم دايسكي، ماذا؟ رفعت عيني يمينًا فرأيت زجاجة مملوءة بالدم الأحمر متصلة بجسدي بأنبوب رفيع، أبي يقول أن هذا دم دايسكي، يا إلهي! دايسكي ألم يكفي أن تنقذ حياتي لأربع مرات سابقة؛ اليوم تمنحني دمك أيضًا! منذ ذلك اليوم سأحمل بجسدي شيئًا منك دايسكي، ألا يكفي الحب الذي بقلبي لك؟! أنت تضيف إليه دمك ليكون حبًا أبديًا، عبرت عما يجول بخاطري دون أن أشعر، وجدتني أقولها بعاطفة جياشة: “دايسكي دمه؟!”

سمعت دايسكي يجيبني وفي عينيه نظرة لن أنساها مهما تواترت السنين: “حضرت قبل فوات الأوان هيكارو” شعرت بامتنان حقيقي فمددت له يدي لأمسك بيده، ففهم مقصدي، كالعادة نحن لا نحتاج للكثير من الكلام بيننا! تشابكت أيدينا فضممتهما لصدري بحب ومنحت دايسكي نظرة شكر وامتنان تحمل كل مشاعري بصدق وهمست له: “شكرًا!”، فأومأ لي برأسه كأنه يفهمني ويقرأ ما تحمله عيناني وما يمتزج بأنفاسي من رسائل خفية.

لكن هذه اللحظات الناعمة كالحرير لم تدم طويلًا للأسف، لقد سمعنا فجأة نداء تحذير من مكبرات الصوت داخل المركز: “زمرة جيش فيجا قادمون.. يا إلهي الصحن المتوحش مع الكثير من اليوفو”

انقلبت سحنة الجميع وساد الخوف المكان، اندفع أبي نحو الباب وهو يتوعد رجال الفضاء، لحق به دايسكي وحاول إيقافه، قاوم أبي ذراعي دايسكي لكن دكتور أمون تدخل وعزز موقف دايسكي وطلب من أبي الاستماع لنصحه، لا زلت لا أفهم حقيقة ما يحدث، لقد طلب دكتور أمون من دايسكي أن يذهب من هنا، أخبره دايسكي أن بإمكانه البقاء لكن كوحي أيد فكرة ذهابه وقال أنهما سيحضران له ما بحتاج إليه، أعطى دكتور أمون دايسكي أمرًا صريحًا بالانصراف فنظر لي دايسكي نظرة طويلة وانصرف.

غادر الدكتور أمون وكوجي الغرفة وطلبا من أبي البقاء والتزام الهدوء، في تلك اللحظة تنبهت لغياب جورو فسألت أبي عنه، فطمأنني أنه بخير وأنه موجود في القبو الآمن حفاظا على سلامته، وأنه يقبع هناك مع بانتا ووالدته، عرفت أن جورو كان قلقًا جدًا لما أصابني، عرفت من أبي سبب إصابة كوجي وأن المسكين تعرض للهجوم حين ذهب للمدينة لإحضار الدم لي، يا إلهي كوجي أنا آسفة لأجلك! عرفت أن دايسكي كان غائبًا وقت إصابتي لكنه فور عودته أصر على منحي دمه لإنقاذي، تحدث أبي عن دايسكي على نحو مختلف هذه المرة، كان ممتنًا له بشدة، ممتنًا على غير العادة!

مر بعض الوقت ولم يطق أبي الانتظار أكثر، أسرع بالخروج من الغرفة، ناديته فأجابني بأنه سيستطلع الأمر، طلبت منه أن يكون حذرًا، لكن أبي لم يعد! زاد قلقي وتوتري وكنت على وشك مغادرة فراشي واللحاق به، لكن الطبيب الذي لم يزل مرافقًا لي أصر على ألا أذهب وغفوت فجأة دون أن أشعر، ربما هو حقنني بمنوم دون أن أدري، لا أعرف! لكني أفقت بعدها بساعات، كان المركز هادئًا جدًا، وكنت أشعر بالتشاط لهذا نهضت من فراشي رغم معارضة الطبيب، أبدلت ثيابي وخرجت للبحث عن دايسكي وكوجي والآخرين.

كان جنود فيجا منتشرين في أروقة المركز، ورأيت غرفة محاطة بحراسة فقدرت أن مقصدي هناك، حاولت خداع أقرب الجنود إلي، لهذا نزعت حلية قبعتي ورميتها أرضًا، تحرك الجندي من مكانه وانحنى يلتقطها فهاجمته من الخلف، شكرًا لله! تدريبات الجمباز جاءت لصالحي دون أن أدري، استطعت إسقاط الجندي وكان عامل المفاجأة لصالحي.

اقتربت بحذر من الغرفة وجلست على ركبتي وهمست من وراء الباب، عرفت أن كوجي بالداخل، أخبرني أنهما محتجزان هو والدكتور أمون، وأنهما يتعرضان للتعذيب بين وقت وآخر، وأنهما منهكان جدًا، قلت لكوجي أن علينا إخبار دوق فليد بالأمر فدهش وسألني باستنكار: “هل كنت تعرفين أن دايسكي ودوق فليد هما شخص واحد؟!” لم أنتبه حينها لغرابة سؤاله وأجبته بأن دمه يجري في جسدي، وأن علي أن أذهب إليه، كان دكتور أمون قلقًا بشأن وضعي الصحي فأكدت له أنني بخير، أخيرًا أخبرني دكتور أمون بمكان دايسكي ودفع لي بورقة من أسفل الباب وطلب مني أن أسلمه إياها.

وضعت الورقة في جيبي وبدأت أفكر في طريقة للخروج من المركز، لقد كان الجنود منتشرين في كل مكان، وكان اثنان منهم يقفان على البوابة، اتخذت قراري وتقدمت منهما بهدوء  فاستوقفني أحدهما كما توقعت، تمالكت أعصابي وأخبرت الجندي أن ضابطهم طلب مني تسليمه شيئًا، أخرجت الورقة من جببي وناولته إياها فحاول فتحها، وانحنى زميله ينظر إلى الورقة فاغتنمت الفرصة وهاجمت الاثنين، لا زلت أعتمد على عنصر المباغتة! سقط الاثنان أرضًا وانحنيت أنا ألتقط الورقة وأسرعت بالفرار.

سمعت صراخهما خلفي ورأيت الجدار بتحطم بضربات الأشعة لكني تمكنت من الفرار، أسرعت نحو المزرعة وأصبت بالذهول من الخراب الذي حل بها، بحثت عن حصان حتى وجدته، امتطيته وأسرعت نحو المكان الذي وصفه لي دكتور أمون، لقد كان بعيدًا، عرفت أن جريندايزر قد أصيب في المعركة وأن رعد الفصاء – وهو من أهم أسلحته – قد تعطل، كما أخبرني دكتور أمون أن البوابات السرية البعيدة قد أصيبت أثناء القصف لهذا لم يتمكن دايسكي من الرجوع بجريندايزر إلى مركز الأبحاث ولجأ لتخبئته في كهف بعيد، أخذت أركض بالحصان بعزيمة وإصرار، وشعرت بالمسؤولية كما لم أشعر بها من قبل، وكانت مشاركتي في تلك المرة تدفع الدم في عروقي دفعًا، أخذت أسترجع بدقة وتركيز كلمات الدكتور أمون التي أرشدني بها للكهف، كانت كلمات قليلة ومركزة حفظتها عن ظهر قلب لكنها كانت كافية كذلك لأتمكن من الوصول إليه، كان الكهف واقعًا في ممر جبلي، كهف عملاق إذا قورن بأجسامنا البشرية، لكنه مناسب لتخبئة سلاح بحجم جريندايزر.

وصلت إليه أخيرًا، دخلته على حصاني، ناديت على دايسكي حتى يعلم بشخصية القادم، ما إن رآني حتى اندفع نحوي يهتف باسمي ويسألني إن كنت بخير، ترجلت من على حصاني واقتربت منه، مد ذراعيه بحنان وضمني إليه لثوانٍ، كرر سؤاله لي فأكدت له أني بخير فعلًا وأنني قد أتيت إليه لأمر عاجل جدًا، أخرجت الورقة من حيبي وسلمته إياها كما طلب دكتور أمون، لم أكن أعرف حقيقة ما كتب دكتور أمون فيها، ناولته الورقة وامتطيت حصاني ولذت بالصمت تمامًا.

راقبته وهو يقرأ الرسالة، كان منزعجًا، أغلق عينيه وعقد ساعديه وهو يفكر، أخبرني بما كتبه له دكتور أمون، قال أن رجال بلاكي قد احتلوا المركز وأن عليه أن يفكر بطريقة لإخراجهم لنقل آلة ضغط الهواء التي يحتاجها لإصلاح جريندايزر وأن هذه العملية تستغرق ثلاثين دقيقة.

أخذ دايسكي يقرأ الرسالة مرارًا، ثم لاذ بالصمت وهو يفكر، واحترمت أنا صمته وحافظت على هدوئي، ثم فتح عينيه وقال أن عليه أن يغير هيئته كأول خطوة، فأجبته بأن دكتور أمون في خطر، وأنه يتعرض للتعذيب، وأن علينا أن نتحرك بسرعة فدهش وأخبرني أنه لم يكن يعرف ذلك، دكتور أمون لم يذكر شيئًا في رسالته عنه أو عن كوجي، بدأت أتعلم أشياء جديدة لم تخطر ببالي قبلًا! قلت لدايسكي أنه بإمكاني مساعدته، وأنني قادرة على إخراج رجال بلاكي من المركز ليتمكن هو من نقل الة ضغط الهواء وإنقاذ الدكتور أمون، تبدلت ملامحه واندهش من كلامي فأكدت له أني جادة فيما أقول وأنني أستطيع فعل ذلك، كنت فعلًا واثقة من قدرتي على ذلك، وكنت أعرف أن نجاحي سيعني حياة دكتور أمون والآخرين، وكنت متحمسة للمشاركة هذه المرة وتحمل المسؤولية والدفاع عمن أحبهم وعن مزرعتنا وعن وطني بأكمله.

انفعل دايسكي وهو يقول لي: “إن فشلتِ ستموتين هل تعلمين ذلك؟!” أقدر شعور دايسكي كثيرًا وأعايشه يوميًا، ففي كل مرة يخرج هو فيها للقتال أعرف أنه قد لا يعود أبدًا، لهذا أعرف جيدًا هذا الشعور المضطرب باحتمالية الفقد للأبد، لكني وعلى الرغم من ذلك أومأت له بالإيجاب ورددت عليه بحسم: “لا يوجد حل آخر حاليًا” وطلبت منه أن يمتطي الحصان لنذهب به معًا من هنا، أغمض هو عينيه وأومأ برأسه وقفز على الحصان أمامي، تركت له اللجام وتمسكت به جيدًا وانطلقنا بأقصى سرعة.

وصلنا لنقطة قريبة من المركز لكنها بعيدة عن أعين رجال فيجا الذين وقفوا على بوابته يراقبون بانتباه، ترجلنا من على الحصان وأخذنا نراجع معًا تفاصيل الخطة، كان علي أن أتقدم وحدي من بوابة المركز وأتمكن من محادثة أحد الجنديين المكلفين بحراسته وأن أطلب منه مقابلة الضابط لإخباره بمكان دوق فليد، وعلي أن أصر على ذلك، ثم تأتي الخطوة التالية حين أذهب لبلاكي علي أن أتماسك وأن أبدو صادقة، والأهم أن أقنعه بالذهاب معي إلى حيث مكان دوق فليد بحجة عجزي عن وصفه، هنا سيتمكن دايسكي من دخول المركز وإحضار آلة ضغط الهواء وكذلك تحرير دكتور أمون وكوجي، وسينطلق ثلاثتهم بدراجة دايسكي صوب الكهف لإصلاح جريندايزر، أما أنا فعلي إلهاء بلاكي بشتى الطرق لمدة ثلاثين دقيقة على الأقل، وأخيرًا علي أن أقتاده لقمة الجبل الذي يقبع جريندايزر في كهف بباطنه، والبقية لدوق فليد.

أمسك دايسكي بكتفي بعد أن راجعنا الخطة بدقة، سألني بقلق إن كنت جادة فعلًا بتنفيذها فأكدت له ذلك، فنظر لعيني بعمق ووعدني بأنه سيكون حاضرًا لمساعدتي وأنه لن يتخلى عني أبدًا، كنتُ واثقة جدًا مما قال دايسكي ولو لم يقله؛ لكني شعرت بالأمان يغمر قلبي عند سماعي لكلماته، وددت أن ألقي بنفسي بين ذراعيه باكية لكني تجلدت وصممت على النجاح، ودعته بعيني واستدرت نحو المركز أعدو بأقصى سرعة.

سارت الخطة كما رسمناها بالضبط، وبالفعل أصبحت مع القائد بلاكي في مركبته الصغيرة، أخذت أرشده لطريق ثم أدعي أني فقدت الاتجاه، أطلب منه أن نرتفع أكثر أو أن نهبط قليلًا، حاولت تمضية الوقت قدر الإمكان وكان قلبي يخفق بقوة، كنت مرتعبة من وجودي معه في مركبة واحدة، مرتعبة من ملامحه وصوته، مرتعبة من ردود أفعاله غير المتوقعة، لقد بدا لي بلاكي وحشيًا جدًا، ولم أنسَ يوم أمسك بي بالقرب من السد وكدت أفقد حياتي لولا بسالة دايسكي وتضحيته لأجلي.

مع كل هذا الرعب شعرت بثقل الدقائق، ثلاثون دقيقة بدت كدهر كامل، كنت خائفة وقلقه بشأن باقي الخطة، وكنت بانتظار ظهور دايسكي في كل لحظة، أخيرًا وصلنا للجبل المنشود، نزلنا من المركبة وأخذ بلاكي يسألني بعنف ونفاذ صبر عن مكان دوق فليد وهو يدق الأرض بحذائه بعصبية شديدة، لم أكن أملك جوابًا في ذلك الوقت.

أوشكت حيلي أن تنفذ أو أنها نفذت فعلًا، وفي لحظة اقتربت منا مركبة صغيرة أخرى كان بداخلها رجل ذو بشرة زرقاء مخيفة، يرتدي حرملة بنفسجية اللون معقودة على إحدى كتفيه، سمعته يخاطب بلاكي وينعته بالمغفل، أخبره أنني خدعته وأنه زار مركز الأبحاث ووجده خاليًا، قال أنه من المؤكد أن جريندايزر قد أُصْلِح الآن، احتقن وجه بلاكي ولكن وعلى الرغم مني ابتسمت وتنفست الصعداء ولم أكن أتوقع ما حدث بعدها، لقد صفعني بلاكي بعنف وشراسة، سقطت أرضًا لكنه أنهضني بعنف وكان يهم بإلقائي من فوق الجبل، لهذا حاولت أن أتشبث بالأرض لكن زلت قدمي وسقطت من أعلى الجبل.

مرة أخرى أنا ممتنة لدايسكي، لقد كنت أهوي من الجبل وانطلقت مني صرخة رعب لم أستطع كبحها، وفي لحظة وجدتني على كف جريندايزر، هذه هي المرة الأولى التي أعايش فيها جريندايزر عن قرب في ميدان قتال، كان كفه باردًا وصلبًا لكني شعرت بدفء قلب دايسكي ورقة عاطفته فلم أعد أبالي بهذا البرد أو أشعر بتلك القسوة، أغلق دايسكي كفي جريندايزر علي فلم أعد أرى شيئًا من حولي، كنت كمن وضع في غرفة مظلمة تمامًا، أخذ كفي جريندايزر يرتجان بشدة، وكنت أسمع دوي معركة عنيفة من حولي، لكن دقات قلبي كانت أعلى بكثير، كان بداخلي ضجيج من الأفكار والمشاعر، وشعرت بطول الوقت ولم أعد قادرة على تحديد كم بقيت هناك.

أخيرًا فتح دايسكي كفي جريندايزر فتفاجأت أن دايزر قد انفصل عن طائرته وأنا بين كفيه، كنت مشتاقة لرؤية دايسكي لدرجة لا توصف، كل رعبي وتوتري وقلقي امتزجوا معًا في تلك اللحظة، هتفت باسمه فسمعته يحدثني بلطف، شكرني على ما فعلت وأثنى على أدائي وأخبرني أنه سيتولى البقية، انزلني دايسكي برفق في دراجته التي كان يقودها كوجي، وما إن انطلق الأخير بالدراجة حتى هوى أحد وحوش فيجا بما يشبه رأس الفأس على الأرض مكاننا بالضبط، أخذت أراقب المعركة قدر الإمكان ولاحظت أن دايسكي بخوض حربًا شرسة جدًا، استمر الفتال طويلًا حتى حدثت سلسلة من الانفجارات ساد بعدها الهدوء تمامًا.

أخيرًا عاد جريندايزر لقاعدته السرية داخل مركز الأبحاث، فبعد رحيل قوات فيجا أصبح من الممكن استخدام المدخل الرئيسي بأمان، لكن كلًا من المركز والمزرعة كان في حالة سيئة جدًا، عم الخراب والدمار كل شيء، وعرفنا أن لدينا جميعًا أسابيع من العمل الشاق لنعيد بناء وإصلاح ما أفسدته قوات فيجا، وبالرغم من ذلك احتفلنا في المساء، لقد كان القضاء على العربة الأم سببًا كافيًا للاحتفال، كما أننا جميعًا قد نجونا والحمد لله، أبي، جورو، كوجي، دكتور أمون، دايسكي، وأنا وكافة العاملين بالمركز، بعض الإصابات والجروح والانهاك لكننا جميعًا لا زلنا على قيد الحياة وهذا يكفي.

ورغم التعب والإجهاد الجسدي والنفسي، ورغم الخراب حولنا-بالرغم من ذلك كله اجتمعنا ليلًا في مزرعة البتول الأبيض، أشعلنا نارًا، تولى دايسكي وكوجي شواء أسياخ اللحم، وتوليت أنا إعداد المائدة وساعدني جورو في ذلك، وجلس أبي يسامر الدكتور أمون، تناولنا عشاءنا وأخذنا نرقص على أنغام الموسيقى، كنا منهكين لدرجة يصعب وصفها لكن بداخلنا الكثير من السعادة لزوال خطر كبير كاد أن يفقدنا بعضنا وحياتنا أيضًا، أخيرًا خلدنا للنوم، لم أستطع الكتابة ليلة أمس، ولم أستطع التفكير بتاتًا لقد كنت متعبة لدرجة لا حدود لها، وكانت الآلام منتشرة بجسدي، لهذا نمت في ثوان.

أما عن صباح اليوم فقد كان مختلفًا، استيقظت متأخرةً ولا زلت في الفراش بعد، سأنتهي من هذه الأوراق وأبدل ثيابي وأخرج للمزرعة، لدي الكثير جدًا لأفعله ليس البوم فقط ولكن لأسابيع قادمة، لكني أتساءل: هل استيقظ دايسكي منهكًا

  • مذكرات هيكارو السرية – الحرب

    الحلقة السابعة والعشرون – الحرب..! مرت الأيام ثقيلة بعد انتحار نايدا أمام أعيننا، وزادها ثقلًا اضطراري لإخفاء مشاعري عن أبي وجورو اللذين لا يعلمان شيئًا عما حدث، هما لم يسمعا بقدوم نايدا من الأساس،  لقد كانت تلك الحادثة مؤلمة جدًا، وقد أعادت دايسكي لسابق عهده حين قدم لمزرعة البتول الأبيض منذ سنوات، الفارق الوحيد هو…

اترك تعليقًا

هيكارو ماكيبا

موضوع هذه المدونة هو الأنمي الياباني الشهير UFO Robot Grendizer والذي أنتج بين عام 1975 و 1977 ودبلج للعربية في مطلع الثمانينات باسم “مغامرات الفضاء جريندايزر” ، كما دبلج لغيرها من اللغات مثل الفرنسية والإيطالية والإنجليزية.

Translate »