مرت أشهر طويلة منذ أن غادر دايسكي الأرض إلى كوكب فليد، أشهر طويله هجرتُ فيها الكتابة، لم أجد مبررًا للكتابة عن أيام متشابهة لدرجة الملل والاختناق، لم أجد الكتابة حلًا لما عانيته في تلك الأيام، كان طيف دايسكي يلاحقني في كل مكان، أراه في كل نواحي المزرعة وفي غرف مركز الأبحاث وزواياه، هنا كنا نعمل معًا، هذا الحصان كان الأثير لدينا، هنا اتفقنا على تدريب الخيول في اليوم إياه، وهذه الشجرة كانت محل سهراتنا، هنا أقمنا شجرة عيد الميلاد يوم أتتنا ميرانا، وفي تلك الغرفة رقصنا معًا، وعلى تلك الطاولة لعبنا الورق، وهنا تخاصمنا وهناك تعانقنا وبكينا، من هنا كنا نرقب القمر معًا، ومن تلك الشرفة كنتُ أسمع قيثارة دايسكي، وهذا مكانه على طاولة العشاء، أتناول كعك الأرز فأذكر أنه يحبه، أعد قهوتي فتخطئ يدي وتعد فنجانين لا فنجانًا واحدًا، أذهب لمركز الأبحاث فتذكرني كل خطوة بمشوارنا معًا، عند بوابة المركز أرى الشرفة فأراه يقفز منها إلي ورجل فيجا يطاردني، أدخل غرفة المراقبة فأجد دكتور أمون وحده فأشعر أن دايسكي قد غاب طويلًا، أنظر للأجهزة التي تملأ الغرفة فيعاودني صوته وهو يشرح لي كيف تعمل تلك الأجهزة، أسير في ممرات المركز فأراه في الاستراحة واففًا جوار النافذة بصمت وشرود، أمر جوار غرفته فأسمعه يدندن، تقودني قدماي للمركز الطبي فأذكر ألمنا المشترك وتسيل دموعي، أهرب إلى المكتبة فأجده بانتظاري يشرح لي المزيد من التكتيكات العسكرية والخطط والمناورات.
كانت أيامي مثقلة بدايسكي، مثقلة بذكرياتي معه وحنيني إليه ورجائي لأن يهبه الله حياة سعيدة، وفيما عدا ذلك بدا كل شيء رماديًا، أصحو من نومي، أعد الإفطار لأسرتي، أنشغل لساعة أو اثنتين في المزرعة، ثم أذهب لمركز الأبحاث حيث أقضي نهاري كله، لقد عشقتُ مركز أبحاث الدكتور أمون ولم تنقطع زياراتي له وعملي به حتى بعد انتهاء الحرب، لقد أصبحتُ أشد رغبة في التعلم والعمل ولن يثنيني عن ذلك شيء.
منذ يومين قرر دكتور أمون أن علي السفر لطوكيو والالتقاء بعدد من العلماء والأساتذة وتعريفهم بما استُجِّدَ بشأن مشروع تنمية الفضاء، كانت القائمة طويلة نوعًا لهذا كان علي البقاء في طوكيو ليومين كاملين، رفعت هذه المهمة من روحي المعنوية كثيرًا وجددت حياتي الراكدة، كما أن ثقة دكتور أمون بي لأداء هذه المهمة أشعرتني بالسعادة والثقة، وبالفعل سافرتُ لطوكيو وحدي، قدتُ الجيب بنفسي إلى هناك، أديتُ المهمة على النحو المطلوب وكان علي العودة صباح اليوم؛ لكني لم أحتمل البقاء في طوكيو طويلًا، وعلى عكس توقعاتي فقد أعادت إلي طوكيو الكثير من الذكريات المؤلمة، لهذا شعرتُ برغبة ملحة في الرجوع للبيت، قدتُ السيارة عائدة صوب مركز الأبحاث قرابة الثالثة صباحًا، توجهتُ إلى غرفتي حيث تركت دفتر مذكراتي آخر مرة، أنعشت تلك الرحلة ذاكرتي ووجدت بداخلي الرغبة في الكتابة، لهذا قررتُ إحضار الدفتر سريعًا من المركز ثم العودة لبيت المزرعة، فالوقت لا يزال مبكرًا ولا بد أن دكتور أمون لم يستيقظ بعد، بإمكاني العودة إلى هنا ظهرًا وإطلاعه على ما استجد معي في طوكيو.
دخلتُ المركز بهدوء وقصدتُ غرفتي مباشرة، فتحتُ الباب وشملني الذهول لدرجة يصعب وصفها، تجمدتُ على عتبة الباب كتمثال من الرخام، رفعتُ يدي أفرك عيني مرارًا دون جدوى، ما أراه ليس حلمًا بالتأكيد، لقد كان هنا، نعم، دايسكي هنا يجلس على مقعدي وقد التفت برأسه إلي، هذا غير ممكن أبدًا، لم أندفع نحوه ولم أستطع أن أتقدم خطوة، وجدته يدفع الكرسي بسرعة وقد سقط القلم من يده، اندفع نحوي وضمني إليه بقوة، كنتُ لا أزال مشدوهة ومشوشة، مرت دقائق حتى بدأت أفهم ما يحدث، دفنتُ رأسي في صدره وقد انفجرت دموعي الحبيسة طوال الأشهر الماضية، لم نتحدث كثيرًا وقتها، كنا عاجزين عن النطق تمامًا، فقط نذرف الدموع الساخنة بحرارة مشاعرنا وأشواقنا.
عدنا معًا لبيت المزرعة، كنتُ لا أزال أشعر وكأني في حلم جميل تفزعني فكرة الإفاقة منه، لذا أبقيتُ عيني مفتوحتين قدر الإمكان ولم أخلد للنوم طوال النهار، قضينا النهار بطوله معًا، وعادت بنا الأيام سنينًا للماضي البعيد، غير أن ماريا تشاركنا يومنا الآن، وانقضت ساعات النهار بسرعة غير معهودة تحدثنا خلالها قليلًا وصمتنا كثيرًا، لم أجرؤ على سؤال دايسكي عن شيء، ولا حتى سبب عودته، ولا أعرف إن كان قد عاد على نحو مؤقت أم لا، كنتُ أخشى سماع أي شيء، وأخشى أن أفقد ولو ثانية واحدة من نهاري معه، اكتفيتُ بتأمل ملامحه التي اشتقتُ لها كثيرًا، كنتُ أنظر لعينيه فأسمع حديثهما العذب، لم يبدُ لي دايسكي متألمًا أو منزعجًا، كانت عيناه تفيضان بالسعادة، وقد لفت انتباهي غياب هذا الطيف منهما، أعرف طيف فليد في عيني دايسكي، أراه في انطفاء عينيه، في رموشه التي تنسدل من وقت لآخر فتحجب حنينه ومعاناته، اليوم بدت عينا دايسكي أجمل من أي وقت مضى، ينظر بكل ما أوتي من طاقة للحياة من حوله، عيناه تلمعان وتنبضان بالحيوية، ورغم قلة حديثه فقد كنت راضية، راضية جدًا!
سهرنا معًا في ذلك اليوم، وكان القمر قد اختار صحبتنا كعادته، فبدا بدرًا جميلًا فضيًا وبراقًا، وعلى عكس القمر الذي صحبنا في طوكيو منذ قرابة السنتين فقد بدا هذا أجمل وأكثر ابتهاجًا، همست قيثارة دايسكي بعد أشهر من الصمت، وتحدث هو قليلًا عن كوكب فليد، أخبرني أن إشعاعات فيجاترون كانت قد زالت فعلًا، قال أنه وجد حطام مدينة فليد، وأنه تمكن من الوصول للقصر حيث نشأ، أخبرني بأن كوكب فيجا قد فنى تقريبًا وتحول لجحيم مشتعل، أخبرني أن ماريا لم تكن سعيدة بوجودهما في فليد، أخبرني بأنه عاد لأن هذا ما كان يجب أن يكون.
حين عدت لغرفتي قرب منتصف الليل وهممت بفتح دفتري تفاجأت بصفحات قد كُتبت بخط دايسكي، كتب فيها: …
دايسكي
“ماريا أستطيع أن أرى فليد!” قلتُ هذه الجملة لماريا غير مُصدق أنني قادر على رؤية نجم فليد بعيني، كان هناك في الفضاء يلمع ويضيء قلبي، كان كالشمس التي تشرق بنفسي، دمعتْ عيناي حنينًا وفرحًا وسعادة به، سمعتُ ماريا تجيبني: “نعم يا أخي نجمنا فليد”، دفعتُ بجريندايزر لأقصى سرعة ممكنة لديه، كنتُ أتوق لبلوغ فليد، أريد أن أتنفس هواءه، أمسك رمله بيدي، أشعر بحرارة شمسه، نسيتُ كل شيء مررتُ به خلال السنوات الماضية، شعرتُ بأني قد فقدتُ ذاكرتي مؤقتًا أو أنني عدتُ لنقطة أبعد بكثير، كان جريندايزر يقترب وفليد يملأ المشهد أمامي شيئًا فشيئًا، تذكرتُ خضرته، جمال طبيعته، أزهاره، مدنه وشوارعه، تذكرتُ القصر الذي نشأتُ فيه، تذكرتُ أبي وأمي وخُيل إلي بلحظة أنهما هناك يلوحان لي، هل أنا مصاب بخطب ما؟! يبدو ذلك صحيحًا على الأغلب، أدركتُ بأنني في حالة حنين وهذيان غير منطقية حين بدأتْ معالم فليد بالظهور، صفعني الواقع فأفقتُ فجأة، كان الحطام يغطي كل شيء، وبدا الكوكب موحشًا، لا زلنا في السماء بعد لكن بإمكاني أن أرى أثار الدمار هنا وهناك، انقبض قلبي، انقبض بعد تلك السعادة الغامرة والحنين الذي جرفني بعيدًا، كانت انقباضته عنيفة، كسيارة مسرعة تتوقف فجأة فتوشك على التحطم!
ظلت ماريا صامتة تمامًا، لا أعرف إن كانت تشاركني حنيني أو صدمتي، لا أعرف ما كان يدور بخاطرها، هل تذكر ماريا فليد بخضرته وسلامه وجمال طبيعته؟ هل تذكر أبي وأمي حقًا؟ هل تحن لذكريات عاشتها على أرض فليد؟ هل تشعر بالوحشة كما أشعر بها الآن؟
اقتربنا أكثر فأكثر، جعلتُ أبحث عن مكان يمكنني فيه الهبوط بجريندايزر وسط هذا الركام، لم يكن صعبًا علي الوصول لعاصمة فليد، جريندايزر مزود بخرائط دقيقة ونظام ملاحة ذاتي يُمكِّنه من مسح الكوكب ومعرفة في أي نقطة نحن، وجدتُ منطقة مناسبة أخيرًا على أطراف المدينة، خرجنا من جريندايزر، حين رفعتُ خوذتي أحاول استنشاق الهواء اهتز كياني بحق، منيتُ نفسي بشعور ناعم يخفف عني ما أنا فيه، لكن الهواء كان يحمل رائحة الموت والدم، تنهدتُ بألم وأمسكتُ بيد ماريا ندخل المدينة، كنا نتفادى الحطام في طريقنا، بدت مدينة فليد مدينة أشباح، خربة وموحشة ولا يسكنها أي كائن حي عدانا نحن وتلك الحشائش الخضراء الغريبة التي نمت هنا وهناك في عشوائية مقبضة، سمعتُ ماريا تنتحب، التفتُ إليها فوجدتُ الدموع تغطي وجهها، قالت لي من وسط دموعها:
هل هذا هو وطننا دايسكي؟
حين خاطبتني ماريا بدايسكي عصفت نفسي بحق، هل أنا فعلًا دايسكي الذي كنتُ عليه طوال السنوات الماضية؟ ذِكْرُ دايسكي جعلني أستعيد ذاكرتي المفقودة، ووسط وحشة فليد تجلت صورة الأرض بخضرتها وروعتها وسلامها، وسط الوحشة ذكرتُ شعوري بالأمان مع دكتور أمون، ذكرتُ أنسي بهيكارو، ذكرتُ كيف كنتُ أشعر بوجود قلب يسمع لي دون أن أتحدث، كيف كان الأمان يغمرني في وجودها، تذكرتُ أني كنت أحميها وأحافظ على حياتها لأن حياتها كانت تعني حياتي فعلًا، هي الآن بخير لكن هل أنا حقًا بخير؟! سألت نفسي إن كانت هنا فهل سيغدو فليد موحشًا كما هو الآن؟ لم أجد جوابًا لسؤالي فعدتُ أنظر لماريا الباكية وأجيبها:
كان فليد مكانًا جميلًا في السابق يا ماريا، علينا أن نعيد بناءه ليعود كما كان.
هذا مستحيل!
قالتها بيأس، المصيبة أن ماريا كانت تنطق بلساني الذي كان عاجزًا عن البوح بالحقيقة، بناء كوكب فليد الذي عاد توًا من الموت مهمة شبه مستحيلة، نحن فقط هنا، وليس معنا سوى الجريندايزر، ماذا عسانا أن نفعل في هذا الموقف؟ عدتُ أجيبها أحاول تشجيعها وتقوية عزيمتي:
علينا أن نحاول يا ماريا، على الأقل نحن بحاجة لبضعة أسابيع حتى يستعيد جريندايزر كامل قدرته على السفر مجددًا، علينا أن نحاول!
عدتُ أمسك بيدها أشجعها على المضي، تعثرنا بشيء ما فأخفضتُ بصري أنظر ما هذا الشيء، وليتني لم أفعل! كانت عظام أحدهم، لا ليس أحدهم فالمكان مليء فعلًا ببقايا الهياكل العظمية المشوهة، يالا البشاعة!
***
بعد بحث طويل تمكننا من الوصول لقصرنا حيث كنا نعيش في السابق، كان القصر قد تهدم نصفه، دخلنا وبالكاد تعرفتُ إليه، كان مهجورًا ومحطمًا من الداخل، تدفقت ذكريات الحرب بعقلي دفعة واحدة كأنها عاصفة عاتية تهب عليه، رفعتُ كفي أمسك صدغي بقوة، هذه الذكريات بشعة لدرجة يصعب تحملها، ماذا فعلتُ بنفسي بحق السماء؟ ماذا؟
كنا مضطرين فعلًا للبقاء على فليد رغم كل شيء كما أخبرتُ ماريا، رحلتنا طويلة، وقد استهلكت طاقة جريندايز، وكان علي الانتظار ريثما تهدأ الآلة تمامًا، وتعمل مولدات الطاقة من جديد، ويرتفع مخزون الطاقة لحده الأقصى، اضطررنا للعودة مجددًا لجريندايزر حيث استخدمنا دايزر لرفع الركام وتمهيد الأرض وصولًا للقصر، وبالطبع كان جريندايزر مصدرنا الوحيد للطاقة، كان الجو باردًا فزاد من وحشتنا ومعاناتنا، لم أنم تلك الليلة، كان علي حماية ماريا أولًا، كذلك التفكير بجدية فيما يتوجب علي فعله، إعادة فليد للحياة مهمة شاقة وسوف تستهلك طاقتنا وقد تؤدي لخسارتنا لجريندايزر أيضًا، كانت هناك مشكلة تأمين الغذاء لكلينا، ومشكلة الطاقة والأمن وغيرها الكثير، وكنا بحاجة لقوة بشرية للعمل فعلًا، في تلك اللحظة تساءلت عن الفليديين الناجين، كيف يمكن العثور عليهم؟ وهل هم موجودون بالأساس؟ علينا بمسح الكوكب كاملًا، سأذهب لكل بقعة منه إن أمكن، سأبحث عن أحياء رغم أن هذا يبدو ضربًا من الخيال، لكن علي أن أحاول، وعلي أن أتعرف على الأخطار التي قد تهدد أمننا هنا، كان فليد قريبًا من كوكب فيجا، لهذا قررتُ أن أتعرف كذلك على ما يحيط بنا من أخطار خارجية، وكان لا يزال وجود فيجا الكبير بشخصه في قاعدة القمر يثير شكوكي، لذا كان علي السفر والتحري حول مصير كوكب فيجا، بالطبع علي اصطحاب ماريا في تلك الرحلة فلا يمكنني تركها هنا وحيدة في كوكب موحش كهذا، هنا تراجعتُ مشدوهًا، “كوكب موحش” أنا اليوم أصف فليد بالكوكب الموحش!
بدأتُ أشعر بالحنين يغمرني من جديد، هذه المرة للأرض، لوطني الذي احتضنني في أصعب أوقات حياتي، شعرتُ بالحنين لمزرعة البتول الأبيض، لخضرتها وزهورها وهوائها النقي، وجدتُ وجه هيكارو يطاردني وشعرتُ بأني بحاجة إليها، بحاجة للجلوس معها صامتًا ولو لدقائق، بحاجة لخوفها وقلقها ورعايتها، كنتُ بحاجة لسماع كلمة منها تخبرني بأن الأمور ستكون على ما يرام، لكن هيكارو ليست هنا، وهذه الجملة حلم لا أستطيع بلوغه، تذكرتُ أبي أمون، أنا بحاجة لسؤالك أبي حقًا: “هل ما أخطط له هو الصواب؟” أنا بحاجة لاسترشادي بك، بحاجة لعلمك وحكمتك، ذكرتُ كوجي وإخلاصه وشجاعته، لو كان كوجي هنا لقال لي: “سننجح معًا”، حين ذكرتُ كوجي عادت إلي كلماته عن العلاقة الإنسانية وأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش وحده، قال أننا بحاجة لبعضنا البعض إن كنا نريد تحقيق إنجازات أفضل، يومها قال لي: “دايسكي أنتَ ذو قوة خارقة؛ ولكنكَ لا تزال من سكان الأرض، أم أنكَ تعتبر نفسك من سكان كوكب فليد؟ أنتَ واحد منا يا دايسكي، تأكد”، اليوم أشعر أن كوجي قد صدق بكلامه فعلًا، أنا لم أعد من سكان كوكب فليد، أنا على فليد اليوم أفكر بالأرض وأحن لأيامي فيها وأشعر بالضعف بعيدًا عن أهلي وأصدقائي، لقد فقدتُ أهلي على فليد منذ زمن، واليوم أنا أتخذ قراري بفقدان أهلي من جديد، اخترتُ بنفسي العودة للوراء، تصورتُ أنني سأكون سعيدًا إن فعلت، والنتيجة..
مددتُ يدي ألتقط قيثارتي فتذكرتُ أنها ليست هنا، إنها هناك على الأرض، كانت القيثارة طلب هيكارو الوحيد قبل الرحيل، طلبتْ مني أن أترك لها قيثارتي، يومها لم أفهم ما تعني بذلك، ماذا ستفعل القيثارة في غيابي يا عزيزتي؟ أغمضتُ عيني بقوة وأنا أتأمل حاجتي لقيثارتي اليوم، كم كانتْ تلك الآلة قريبة من نفسي، وكم كانت هيكارو أقرب لتصل لهذه الحقيقة قبلي، أنا بحاجة لقيثارتي وهي ليست معي، وبحاجة لقلب دافئ يشعر بي وكلاهما في مكان واحد بعيدًا عني!
وداعًا فليد العزيز!
بعد تسعة أشهر من العمل المضني والتفكير العميق اتخذتُ قراري، لقد رفعتُ الحطام ومهدتُ الأرض قدر استطاعتي، استخدمتُ الرزة المفردة لتفجير المياه الجوفية لتعود الحياة لفليد ولتمطر سماؤه من جديد، لقد كان نقص المياه كارثيًا بحق، القليل منها هو المتاح على سطح الكوكب، والحشائش المتناثرة تصل لما تحتاج إليه من مياه عبر جذورها الطويلة جدًا والتي تضرب في الأرض بحثًا عن المياه الجوفية البعيدة، ولكن سماء فليد قد أمطرت أخيرًا منذ أيام! ولأول مرة منذ وصولنا، رأيتُ السحاب بعيني وهطلت الأمطار، كانت كالمعجزة حينها، غسل الماء هواء الكوكب وأرضه وأطلاله وما تبقى من أبنيته، وغسل روحينا ماريا وأنا، كانت تلك علامة مبشرة، الآن بإمكان الحياة أن تعود من جديد، يسقط المطر فتنمو النباتات من البذور التي تناثرت وغاصت في الأرض منذ سنوات، سينمو الصالح منها، وستموت حشائش وتمتزج ببقايا الفليديين وعظامهم وتكون بداية لحياة جديدة، وربما عاد فليد يومًا كوكبًا غنيًا بالخضرة ومنعمًا بالسلام، لكن على الرغم من ذلك فقد بدت الحياة هنا مستحيلة بالنسبة لنا في ذلك الوقت، لا أحياء هنا سوى تلك النباتات الصغيرة ونحن، ولا يوجد ما يضمن بأن الغذاء سيكون كافيًا أو حتى آمنًا لنا بعد الإشعاعات التي غطت فليد لسنوات، ولا توجد حيوانات أو حتى حشرات لتبدأ سلاسل غذائية جديدة بالتواجد، لهذا نثرتُ بذور الأزهار التي أعطاني جورو إياها يوم بدأتُ رحلتي للعودة، نثرتها مرسلًا سلام الأرض لفليد العزيز، واتخذتُ قراري.
وما إن أصبح جريندايزر جاهزًا لخوض رحلة طويلة بطول المسافة بين وطن وُلدتُ فيه ووطن بُعثتُ بين أهله حتى انطلقتُ عائدًا للأرض، في رحلتي الطويلة إليها عدتُ أستعيد ذكريات الماضي الذي رغم قربه بدا بعيدًا جدًا، وَعَدتُ هيكارو بأني سأعود يومًا، لم أكن متيقنًا من صدقي يومها، ولا أعرف حقيقة تصديقها لما قُلتُ، كان عقلي ممتلئًا بالحنين، كانت روحي ترف لفليد وتشتاق إليه، لكني اليوم أدرك أن عودتي كانت مؤكدة، ليتني كنتُ أكثر صدقًا وقتها، أكثر إيمانًا ويقينيًا بأنني سأعود، ربما لو فعلتُ لكانت هي أكثر قدرة على تصديق ما أقول، تساءلتُ في رحلتي الطويلة عما عساه يجول بقلبها البريء، هل كانت هيكارو تشعر حقًا بهذا الحنين الذي يملأ نفسي؟ هل كانت ترى فليد بين عيني وكل ما يقع عليه بصري؟ لكن هل تعلم هي اليوم بأني أعود إلى الأرض ممتنًا ومشتاقًا ونادمًا؟ أشعر بالندم وأجد نفسي محملًا بالكثير من الاعتذارات لوطن فتح لي ذراعيه وقت كنتُ ضائعًا في الكون الفسيح، وطن منحني كل ما أردت وقتها ثم رميته خلف ظهري في لحظة حنين! كان علي واجب أؤديه لفليد، نعم، هذا صحيح، كان ذهابي إليه ضروريًا وقد أحسنتُ القيام بواجبي على ما أظن، لكن كان علي أن أكون أكثر امتنانًا لكوكب آخر تنفستُ هواءه ونعمتُ بسلامه ودافعتُ عنه بإخلاص كما لو كان وطني، كنتُ أرى في الأرض صورة لفليد الذي دُمِّر، ولولا أني رأيتُ فليد يعود للحياة لما تجرأ قلبي على مغادرته!
خلال الأشهر الماضية عرفتُ الكثير من الحقائق، بعضها آلمني، وبعضها دعمني وساعدني على اتخاذ قراري بالرحيل من جديد، انطلقتُ مصطحبًا ماريا صوب كوكب فيجا كما خططتُ، وصدمتُ بمرآى الكوكب المشتعل كالجحيم! لقد فنت الحياة على كوكب فيجا تمامًا، وخسر فيجا الكبير وطنه وربما للأبد، لقد تحققت عدالة السماء رغم الصورة المؤلمة التي رأيتها، بدا واضحًا لي السبب الذي دفع بفيجا الكبير للتواجد بنفسه في قاعدة القمر، انغرست تلك الحقيقة بصدري كنصل سكين قاتل، تذكرتُ نظرة هيكارو الخاوية وهي تلومني بقولها: “كنتَ تنوي مغادرتنا دايسكي؟!” تذكرتُ انفعالها ولهجتها التي كانت تفيض بالألم والانزعاج تلومني قائلة: “عن أي سلام تتحدث؟!”، كانت هيكارو محقة، وكان لومهما لي – أبي وهي – في محله، رأيتُ بمخيلتي عودتي بجريندايزر لكوكب فليد ممنيًا نفسي بما قالته روبينا في ذلك الوقت، ورأيتُ فيجا يشن هجومه الأشد ضراوة على الأرض، ويجعل منها وطنًا له، تذكرتُ حديثي لأبي يوم قايضنا جاندال على الجريندايزر مقابل حياة اثني عشر مليون شخص في طوكيو، في ذلك الوقت دافعتُ عن طوكيو كما لو كنتُ أدافع عن فليد العزيز وأجنبه هذا المصير الأسود، قلتُ له بأن الأرض هي الكوكب حيث يعيش الناس بسلام وليست الكوكب الذي يعيش فيه الشياطين، كدتُ أن أتسبب برحيلي يومها – مدفوعًا بحنين لا أستطيع كبحه – في جعل الأرض وطنًا لشياطين فيجا، يا لهول ما كان سيحدث! كان مجرد التفكير بهذا السيناريو يفزعني ويؤلم قلبي، تمنيتُ أن يختصر جريندايزر تلك المسافة الطويلة بين فليد والأرض في ثانية لأرى خضرتها بعيني، وأتأكد بأنها لا زالت بخير، أما فليد فقد كان لزامًا علي وداعه للأبد، أرسلتُ مئات الرسائل من جريندايزر للكواكب الأخرى أعلمهم بأن فليد يعود للحياة، لكن متى يصبح فليد جاهزًا فعلًا ونابضًا؟ هذا ما لا أستطيع حسمه الآن، على الأقل أنا بحاجة لعالم أثق به وبعلمه كأبي، ربما أزور فليد مرات عديدة فيما بعد، لكن المؤكد أنني سأقضي ما بقي لي من عمر على أرضي الخضراء.
***
اقتربنا من الأرض أخيرًا، بدت مزرعة البتول الأبيض واضحة أمام عيني رغم أن بيني وبين الأرض الكثير، كانت الأرض كالكرة الصغيرة في الفضاء الواسع ولكن تلك البقعة المضيئة فيها بدت أكبر بكثير، رأيتها بقلبي وملأت نفسي وتغلغلت فيها، رأيتُ الكل من حولي، أبي، هيكارو، كوجي، سيد دانبي وجورو الصغير، وحتى بانتا، ذكرتُ وجوه الجميع هناك حتى المعاونين في مركز الأبحاث سيد هياشي، سيد أوي، سيد سائيكي وسيد ياماذا، مرت بخاطري صور كثيرة لأناس التقيتهم هناك وتركوا داخلي أثرًا، ذكرتُ مانكيتشي، ميرانا، ميدوري، شينشي، ميناو، كيركا، جوس، القائد يارا، ذكرتُ نايدا وموروس فدمعت عيناي رغمًا عني، كان جريندايزر يقترب من الأرض وروحي تقترب من جسدي شيئًا فشيئًا حتى دخلتُ الغلاف الجوي، تنفستُ الصعداء، كانت الساعة هي الثانية صباحًا بتوقيت اليابان، حاولتُ الاتصال بأبي مرارًا، كررتُ نداءاتي كثيرًا دون جدوى، لستُ متأكدًا من أن قاعدة جريندايزر كما هي، أو أن بإمكاني فتح البوابة عن بعد، أخيرًا جاءني الرد، سمعتُ صوت أبي أمون فعدتُ لدايسكي الذي كنتُ عليه منذ تسعة أشهر مضت، كان متفاجئًا بعودتي لكن نبرته كانت دافئة وبها لمسة من السعادة لم تخفها رصانته، أخبرني أن المدخل كما هو، وأن لا شيء قد تغير، كم كنتُ بحاجة لكلماتك الأخيرة تلك يا أبي!
وجدته في محطة جريندايزر، لم ينتظر أبي وصولي إليه، عانقته بشوق حقيقي، كنتُ أشعر بوحدة عميقة في الأشهر الماضية، لذا عانقته بحرارة، صافحته ماريا بحب واحترام، صحبنا أبي لاستراحة المركز، هو محق، كل شيء على حاله ولم يتغير شيء، كانت عيناي تجول هنا وهناك، رأيتُ طيفًا رقيقًا في كل ما حولي، تلك النافذة حيث كنا نقف ونحتسي القهوة صامتين نتأمل مزرعة البتول الأبيض عن بعد، كم كانت تلك اللحظات غنية رغم صمتنا وقلة كلامنا، قطع أبي شرودي:
إنها ليست هنا.
كانت جملته صادمة، هو يعرف يقينًا ويعني ما فهمته فسألته:
أين؟
في طوكيو.
ابتلعتُ ريقي بصعوبة أرطب حلقي الجاف، تساءلتُ في أعماقي عن السبب وأصابتني الحيرة، هل من الممكن أن تهجر هيكارو هذا المكان يومًا؟ هل من المعقول أن تفعل بهذه السرعة؟ ثم لماذا؟
إنها في مهمة تابعة للمركز دايسكي، ستعود غدًا صباحًا.
ارتسمت الابتسامة على شفتي دون أن أشعر، قررتُ أن أذهب لطوكيو بدراجتي إن كانت لا تزال هنا أو بالجيب لكن أبي عاد يستدرك حديثه:
لا داعي للذهاب إلى هناك، ستصل بعد ساعات.
أغمضتُ عيني بعدم اقتناع وتوجهتُ إلى غرفتي، لكني لم أصل إليها، قادتني قدماي إلى غرفة هيكارو، فتحتُ الباب بهدوء، أعلم أنها ليست هنا، وأدرك يقبنًا أن ما أفعله ليس مهذبًا مطلقًا لكني بحاجة حقيقية لنور يلهمني، كان أبي محقًا في كلامه، حتى لو قدتُ الدراجة لطوكيو فلن أصل في الوقت المناسب، وستكون هي في طريقها للعودة، وليس من المقبول الذهاب بجريندايزر بعد انتهاء الحرب فتكون علامة سيئة تثير فزع السكان في هذه الساعة المتأخرة من الليل، كان عقلي يوافق على كلامه ويصادق عليه ولقلبي رأي آخر.
جالت عيناي في قطع الأثاث البسيطة في الغرفة، وجدتُ قيثارتي موضوعة بعناية جوار الفراش فنزلتُ على ركبتي جوارها ومددتُ يدي أتحسسها برفق، أغمضتُ عيني وكأنني أغرق في حلم جميل أحاول الاحتفاظ به، توجهتُ نحو المكتب الصغير بالغرفة، كان عليه دفتر متوسط الحجم وقد وُضِعَ قلم حبر بجانبه، دفعني الفضول لمعرفة ما يكون هذا، مددتُ يدي وفتحتُ غلافه، وجدتُ كلامًا كثيرًا بخط هيكارو، أعرف هذه الأحرف بتلك اللمسة المتمردة في الكتابة، طالعتُ الأسطر الأولى فانتبهتُ لكونها قصة أو يوميات، ولفتَ انتباهي ذكر اسمي في الصفحة الأولى، قررتُ ألا أولصل القراءة؛ لكن شيئًا لم أتبينه جعلني أنتقل من صفحة لأخرى حتى طلعت الشمس.
مرت أحداث السنوات الماضية أمام عيني كفيلم سينمائي، كنتُ أرى نفسي فيه وكأنني شخص غيري، وجدتني حاضرًا في يوميات هيكارو، وتفاجأت بما كانت تكتبه عني، كانت تعرف عني بأكثر مما أعرف أنا عن نفسي، هزتني مشاعرها المدونة بخط يدها وشعرتُ بأنه كان بإمكاني أن أكون أسعد شاب في الكون لو أني صدقتُ بأن هناك قلبًا ينبض لأجلي بهذا القدر وهو في جسد غيري، كتبت عني قائلة: “دايسكي قليل الكلام، ويجد صعوبة في البوح بما يشعر به”، كم كان هذا صائبًا! أنا الآن يا عزيزتي أجد صعوبة فعلًا في الكتابة، ولا أستطيع مضاهاتك، لكني قد وضعتُ خطًا هنا وهناك في كل موضع أردتُ أن أقول لك شيئًا يخصه، فاكتبي نيابة عني رجاءً!
وبالرغم من تعثري وعدم قدرتي على مجاراتها وجدتُ نفسي أمسك بالقلم الموضوع على المكتب، وأكتب به ورقتين كاملتين دون إمضاء، وكما كتبتْ هي: “سأجلس على ذات مقعده، وسأقبض بيدي على موضع أصابعه، وسأرى الطريق كما يراها! سأكون مغمورة بهالة دايسكي التي طالما أحببتها “، إذن سأجلس على ذات مقعدك هيكارو، أمسك بقلمك، أضع أصابعي موضع أصابعك، وسأكون مغمورًا بك يا عزيزتي، هذا ما أحتاجه بحق!
لقد عدتُ هيكارو! كنتِ أنبل مني، تمنيتِ عودتي وتمنيتِ أن أجد ما أبحث عنه، ورضيتِ بأيهما، ها قد عدتُ أنا، وقد عرفتُ بأن ما أبحث عنه كان دومًا هنا وليس هناك، كنتُ صادقًا حين قلتها لك يومًا: “لا شيء يسعدني أكثر من قلبك الحار” ولقد عدتُ إليه!
تمت بحمد الله
اترك تعليقًا