الحلقة الخامسة – الصديق الذي لم أكن أعرفه!
بعد هجوم الصحون الطائرة على مزرعة البتول الأبيض وإفسادهم حفل عيد المزرعة السابع – بدأت أعاني من الكوابيس، حلمت بهم كثيرًا، رأيت صحونهم تطير فوق أرض المزرعة ومبانيها، ورأيت أشعتهم الزرقاء تضرب هنا وهناك، وكنت أحاول إنقاذ أبي وجورو في كل مرة وكثيرًا ما كنت أفشل، لهذا كنت أصحو من نومي منهارة باكية، تكررت كوابيسي كثيرًا وكنت أحاول إخفاء توتري وخوفي عن الجميع، وفي تلك الفترة أُعلن عن مسابقة للطيران الشراعي، سارع كوجي بالتسجيل في المسابقة وقرر الاشتراك فيها، و أخذ يتدرب يوميًا في الساحة المعدة لذلك في سوسكيكاهارا، كوجي شاب حيوي واجتماعي وسريعًا ما اندمج في الأنشطة والمسابقات المحلية، كما استطاع أن يكسب محبة أبي وجورو سريعًا، وكذلك بانتا.
بانتا هو جار لنا في مثل عمري، يشاركني الدراسة منذ الصغر، وقد تعرفت أسرتنا إلى أسرة بانتا منذ زمن، ليس لبانتا أشقاء أو شقيقات، وقد توفي والده في صغره ويعيش وحيدًا مع أمه، لهذا اعتدنا على أن نعامل بانتا كأخ لنا، وعلى الرغم من ذلك كان أبي يتشاجر معه كثيرًا لتصرفاته الغريبة، ويبدو أنه شجار للمرح لا أكثر، تنتهي مشاجراتهم دائمًا بالضحك، رغم اختلاف طبائعهما إلا أن كلاهما مرح ولهذا يمكنهما تدبر الأمر فيما بينهما بسهولة.
أما أنا، فلم أكن أميل لبانتا رغم محاولاته الدائمة للتودد إلي وزيادة الأنشطة المشتركة فيما بيننا، بانتا عصبي ومتهور ويسعى لحل المشكلات بقبضة يديه دائمًا، لا يهتم بدراسته أو عمله كما ينبغي، مزرعة أسرة بانتا المجاورة لنا مدمرة تقريبًا، كثيرًا ما أشفق على أحصنة بانتا التي تبدو بحالة صحية سيئة، وكثيرًا ما تبدو جائعة بشدة، هو أيضًا فتى يفتقر للهدوء والرومانسية وهو ما أتمناه أنا في فارس أحلامي.
حياتي مليئة بالمسؤوليات والمشاغل والأعباء، وأنا بحاجة دائمة للتظاهر بالقوة والتماسك وإخفاء همومي وتوتراتي بعيدًا، في نهاية كل يوم أشعر بأنني بحاجة لصديق حنون وهادئ، بحاجة لبضع دقائق تنسيني هموم اليوم ومتاعبه.
على كل حال، اشترك كوجي في المسابقة، وفي اليوم المقرر لإجرائها قررنا الذهاب لتشجيعه، ذهبنا – جورو وأنا – مع بانتا في عربته الخاصة، ولم يشاركنا دايسكي لأنه كان منشغلًا مع دكتور أمون تلك الأيام في مركز الأبحاث، انطلقنا صباحًا وكان المرح يملأ نفوسنا، شعرت وقتها بالانفراج، وصلنا لساحة السباق والتقينا بكوجي وكاد أن يشتبك مع بانتا – يحدث هذا كثيرًا فكوجي أيضًا عصبي وسريع الاستثارة – لكن استطعنا السيطرة على الموقف وغلَّبنا روح المحبة والمرح.
بدأت المسابقة، وكان أداء كوجي رائعًا، كان يتحكم بطائرته ببراعة، أعجبني أداء كوجي كثيرًا، وبينما نحن ننظر إليه مشدوهين ببراعته ومراوغته لبانتا من وقت لآخر، حيث كان يهبط بالطائرة بسرعة باتجاه بانتا الذي يخفض رأسه وهو يهتف: “أريد حياة أطول” ثم يرتفع في اللحظة الأخيرة – وبينما نحن كذلك حدث شيء مزعج للغاية، هاجمتنا الصحون الطائرة وأصابت طائرة كوجي واشتعلت بها النيران، أُنقذ كوجي والحمد لله ولكن الصحون الطائرة هبطت حولنا من كل الاتجاهات، وخرج منها جنود لم أتبين ملامحهم فقد كانوا يرتدون أزياء عسكرية تغطي كامل أجسامهم، صوبوا أسلحتهم قبالنا، وتبدل مرحنا إلى رعب!
حاولنا الاحتماء بكوجي الذي بدا متماسكًا كأنه قد عايش الخطر مرات ومرات من قبل، وكان يقول لنا بأن علينا أن ننتظر فرصة للهرب، في تلك الأثناء ظهر صحن طائر جديد ذو شكل مختلف عن البقية وأقلعت الصحون المحيطة بنا لقتاله، لا أعرف لماذا تتحارب الصحون الطائرة مع بعضها البعض؟! المفترض أنهم يحاربوننا نحن فلماذا يتقاتلون مع بعضهم البعض؟! وفي لحظة تمكن كوجي من إلهاء أقرب الجنود إلينا وأسقطه واستولى على سلاحه وتمكنا من الفرار.
عشنا لحظات من السعادة والحميمية عند عودتنا، فقد كان أبي شديد القلق علينا وكذلك والدة بانتا، أخذ أبي يعانقنا ويقبلنا بفرح، وعدنا إلى بيتنا أخيرًا، لكني في تلك الليلة لم أستطع النوم، كنت أشعر بخوف حقيقي، فهذه هي المرة الأولى التي يقترب فيها الخطر من حياتي إلى هذا الحد، كان جورو الصغير بالقرب مني أيضًا ولم أكن واثقة من قدرتي على حمايته، شعرت بالقلق والتوتر، وبدأ الرعب يسري في عروقي، فارتديت ثيابي وقررت الخروج والتجول قليلًا في فضاء المزرعة وليلها وهدوئها علَّني أجد راحتي هناك.
أخذت أسير وسط الأشجار الطويلة بهدوء ووقفت بجوار إحداها، أسندت كتفي إلى جذع الشجرة وجعلت أتامل القمر الذي بدا بدرًا جميلًا في تلك الليلة، نزلت دموعي دون أن أدري، وشردت بأفكاري، شردت كثيرًا ولا أعرف كم بقيت من الوقت على هذه الحالة، حتى سمعت خطوات أقدام تقترب مني، التفت للخلف فوجدت دايسكي أمامي:
هيكارو! ماذا تفعلين هنا؟
دايسكي!
ما الأمر؟
لم أستطع إجابة سؤاله في ذلك الوقت، لم أعتد على مشاركة أحد مخاوفي من قبل، فأنا الابنة الكبرى لأخ صغير فقد أمه في صغره، لهذا نشأت على أن أكون امراة قوية متماسكة تخفي قلقها وتوترها ومخاوفها وتسعى دومًا لتطمين الآخرين والعناية بهم، لكن على الرغم مني كانت دموعي تسيل بصمت وبلا توقف أيضًا.
أنتِ تبكين؟!
قالها دايسكي وهو ينظر إلى عيني بعمق فأومات برأسي إيجابًا، فمد ذراعيه وضمني إلى صدره بهدوء، كانت هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا، وبينما كنت مندهشة فقد غمرني شعور بالأمان في تلك اللحظة، للمرة الأولى شعرت بالحنان داخل دايسكي، سمعته يسألني مجددًا:
لماذا تبكين؟
خِفت كثيرًا هذا اليوم!
هذه هي الحرب يا هيكارو. عليكِ أن تكوني شجاعة!
صحيح. لقد اختصر دايسكي معاناتي في تلك الكلمة “الحرب”، أنا لم أخبر الحرب من قبل ويبدو أنني مضطرة لذلك الآن، شيء واحد قد تغير بحياتي في تلك الليلة هو وجود صديق حنون قد عرفته أخيرًا، صديق بإمكاني البوح له بمخاوفي، صديق قادر على فهم دواخلي، لقد كانت تلك هدية من الله في أشد أوقات حياتي صعوبة!
اترك تعليقًا