الحلقة الرابعة والثلاثون
مرت أيام عصيبة، كان تحسن حالة دايسكي الصحية في الآونة الأخيرة أجمل ما فيها، وبالرغم من كل ما عايشناه فقد كان لصراحتنا معًا – دايسكي وأنا – دورًا في تحسين معنوياتنا وأوضاعنا النفسية، عادت الأحاديث العذبة بيننا وعدنا أكثر انفتاحًا عن ذي قبل، رأيت البسمة الصافية على شفتي دايسكي، وكنت أرى بريق عينيه ونظراته المشرقة فتغمرني بالأمل، تنزهنا كثيرًا هذه الأيام، وكنت أشاركه تدريب الحصان إياه، يخرج كلًا منا بحصانه ونركض معًا وسط الأشجار، علمني دايسكي أن أقفز بالحصان لمسافات أطول مما كنت أجيده، شيئًا فشيئًا استعدت حيويتي والكثير من ثقتي بنفسي.
صباح أحد الأيام كنت في المطبخ أُعِد الإفطار فرأيتُ الجريدة وقد نسيها أبي على الطاولة، تصفحتها بسرعة ووقعت عيناي على خبر أثار اهتمامي، كنتُ أقرأ تفاصيل الخبر منهمكة حين قطع صوت دايسكي تركيزي فجأة:
ما الذي يشغلك لهذا الحد؟
رفعت بصري إليه متفاجئة بقدومه وشهقت دون إرادة مني، فقال :
آسف لإزعاجك!
ضحكت بارتباك وأنا أجيبه:
لا بأس، كنت منهمكة بالقراءة لا أكثر.. تلزمك مساعدة؟
ما الذي يشغلك؟
قالها وهو يجلس على الطاولة الخشبية مواجهًا لي، فمددت يدي إليه بالجريدة وأنا أجيبه:
انظر!
رفع حاجبيه باندهاش وهو يقول:
بطولة الجمباز!
نعم، تقام هذه البطولة كل أربع سنوات دايسكي، ويُسمح لطلاب الثانوية بالاشتراك فيها.
شردتُ ببصري وأنا أستطرد:
لطالما تمنيت الاشتراك في هذه البطولة!
لستِ الآن بالثانوية هيكارو.. آسف لفوات هذه الفرصة!
لم تفت بعد!
ماذا تقولين هيكارو؟
أفكر بالاشتراك في تلك البطولة وسأجد حلًا لذلك!
ماذا؟!
أنا جادة وسترى.
لا أعتقد بأن هذا ممكن.
بل ممكن!
كان دايسكي مندهشًا من حديثي، وكنتُ أنا أيضًا متعجبة من إصراري، دايسكي مُحق، فالأمر يبدو مستحيلًا لكن لدي خطة مبدئية وآمل أن تُكلل بالنجاح، نهضتُ أنهي مناقشتنا التي لم تبدأ بعد وأنا أقول:
علي أن أنتهي من إعداد الإفطار فلدي عمل كثير اليوم!
حسنًا!
كان من الواضح أنه غير مقتنع بما أقول لكنه آثر عدم مجادلتي، التفتُ للموقد وبدأتُ أعد الطعام بالفعل، سمعته يضحك ضحكة قصيرة بود وانصرف.
انهيتُ أعمالي اليومية في المزرعة ولحقتُ بدايسكي في مركز الأبحاث لحضور درس الفضاء كالمعتاد، وقت رجوعنا أخبرته بأني ذاهبة في الغد للمدينة لشراء بعض الأشياء فتساءل عما أعنيه:
علي أن أتدرب يوميًا دايسكي، انقطعت عن تدريبات الجمباز منذ أشهر، هذا سيقلل فرصي في الفوز.
وما علاقة ذلك بمشترياتك؟
أنا بحاجة لشراء حذاء للتمرين وبعض الملابس المريحة أيضًا.
تبدين جادة باشتراكك!
صحيح.
وماذا عن سنتك الدراسية؟
سأتدبر الأمر مع مدرستي.
كنتُ قد بدأتُ أدرس خطتي بالفعل، بقيتُ أفكر طيلة النهار في الأمر حتى أنني لم أعد أذكر شيئًا من درس الفضاء اليوم، هذا الاستعراض كان حلمي منذ صغري ولم تتح لي الفرصة للمشاركة فيه سابقًا، لن أفوت هذه الفرصة أبدًا، لكني فضلت الاحتفاظ بتفاصيل خطتي سرًا حتى أتحقق من قدرتي على تنفيذها، لهذا أمسكت عن تفاصيلها بحزم، وعلى الرغم من ذلك أجابني دايسكي باسمًا:
تبدين متحمسة كثيرًا.. إذن سأصحبك للمدينة غدًا، موافقة؟
موافقة!
كنتُ ممتنة لمساعدة دايسكي ودعمه لي رغم عدم اقتناعه بما أفكر به، وكنت أخطط للذهاب للمدينة بمفردي، الآن سيرافقني صديق عزيز على قلبي.. أليس هذا رائعًا؟!
ذهبنا للمدينة في اليوم التالي، أخذتُ أتنقل بين متجر وآخر، اخترتُ حذاءً وثيابًا رياضية جديدة للتمرين، كذلك حرصتُ على اقتناء ثوب وحذاء خاص للاستعراض: ثوب أحمر، حذاء أبيض وحلية شعر مناسبة، اقتنيتُ بضعة أثواب أخرى لا علاقة لها بالتدريب، فلقد سئمتُ من مظهري المعتاد وقررت أن أغير من هيئتي، هذه الثياب يلزمها تغييرات أخرى في مظهر شعري وطريقة تصفيفه، سأرى هذا لاحقًا، وبما أن الذهاب للمدينة لا يتيسر لي كثيرًا، لهذا قررت شراء ما أريده دفعة واحدة.
بدأتُ تمارين الجمباز منذ اليوم التالي مباشرة، كنت أنهي أعمالي في المزرعة ثم درس الفضاء وأخرج للتدريب، أنطلق بالحصان لمكان مناسب، بساط أخضر، بضع أشجار قوية هنا وهناك، أستبدل حذائي الطويل بآخر رياضي، أخلع قبعتي وأبدأ التمارين، علي أن أركض سريعًا ولمسافات طويلة، الكثير من تمارين التوازن على ساق واحدة، الركض سريعًا ثم رفع الساقين لأعلى والاستناد لشجرة ويدي على الأرض لأطول فترة ممكنة، الدوران المتكرر كالمروحة على البساط الأخضر، العدو بسرعة ثم دفع الأرض بقدمي بقوة والقفز عاليًا، علي أن أتعلق بهذا الغصن ثم ذاك، أقبض على الغصن بقوة وأدور حوله، أقفز لغيره وأسير عليه بوضع مقلوب، رأسي جهة الغصن، كفاي يقبضان عليه بقوة وقدماي لأعلى، لم تكن التدريبات سهلة واستغرقت مني بضعة أسابيع.
صحبني دايسكي في بعض تدريباتي، قال أنه يريد مشاركتي حلمي، تحاشيت النظر لعينيه وأنا أؤدي حركاتي الاستعراضية حتى لا أرتبك أو يغمرني الخجل، أثنى دايسكي على حركاتي وقال أني قادرة على الفوز لكن المشكلة الأكبر في قبول مشاركتي، أنا أيضًا يساورني الشك من وقت لآخر، لم يحن الوقت بعد لتنفيذ خطتي للمشاركة لهذا كانت أفكاري تعبث بي يمينًا وشمالًا!
لكن حدث أمر مزعج منذ أسبوعين وبالكاد استطعت العودة لتماريني من جديد، بعد ظهر أحد الأيام وبينما أنا أعمل في المزرعة كالعادة وأحاول الانتهاء من عملي سريعًا لاستكمال تدريباتي – في ذلك الوقت طلبت من أبي مساعدتي لكنه بدا رافضًا تمامًا، قال أنه يسعى لإيجاد يوفو وإسقاطه، بعد أن استطاع أبي إسقاط إحدى وحدات الميني فو بضربة حظ أصبح أكثر حماسًا لتكرار التجربة، لكنه في ذلك اليوم كان عصبي المزاج كثيرًا، لذا تناول البندقية فجأة وأخذ يطلق النار تحت أقدامنا – جورو وأنا – مما أثار عجبي!
عاود أبي النظر من خلال منظاره البسيط بعدها وكأن شيئًا لم يكن، ثم هتف يخبرنا بقدوم رجل مسلح إلى مزرعتنا.
لم أكن مرتاحة لقدوم هذا الغريب لكني أسرعت لبوابة المزرعة أرى ما يحدث، كان فارسًا يرتدي قبعة كرعاة البقر وحرملة سوداء وحذاءً طويلًا من الجلد، قال أنه بحاجة لسقيا حصانه فأرشدته للمكان، ترجل عن حصانه وقفز جالسًا على السياج، أخرج من جيبه آلة موسيقية صغيرة وأخذ ينفخ فيها، لم تشعرني نغماته بالارتياح على الرغم من حلاوتها، قاطعه أبي بسؤاله عما إذا كان مسافرًا، فأجابه:
أنا أطارد العدو.
تريد أن تثأر! ما اسم العدو؟
دوق فليد!
كان حديثهما سريعًا وجواب هذا الغريب مرعبًا فاتسعت عيناي بفزع، كان ينظر لي بطرف عينه فحاولت أن أتمالك نفسي وأبتسم كي لا أثير شكوكه، رأيت بعينيه جحيمًا يشتعل، هذا الغريب جاء ليثير المشاكل ويريق الدماء، لطفك يارب!
استجمعت شجاعتي وحاولت محادثة هذا الغريب لبعض الوقت بعيدًا عن أبي وجورو، كان يردد كلامًا غريبًا، سألته من أين أتى فأجابني بأنه ذئب أتي من نجم بعيد، لو لم أكن على علم بقصة دايسكي وحقيقته لما صدقت حرفًا مما يقوله هذا الغريب، أنا الآن أفهم أنه عدو جاء من كوكب بعيد يطلق على نفسه وصف الذئب ولا أعرف السبب، صحيح أن في تصرفاته شرًا مرعبًا يذكرني بالذئاب لكن لا أعتقد أن هذا هو السبب، على الأغلب أنا أتوهم هذا الشبه بعد ما قال.
عرفت أن علي أن أسرع لأخبر دايسكي بما يحدث، فقد ذهب هو إلى مركز الأبحاث منذ الصباح ولن يعود الآن، لهذا ما إن حضر أبي حتى تذرعت بضرورة قضاء عمل مهم وانسحبت، لم أشأ امتطاء حصان حتى لا ينتبه أحد لذهابي وتسللت من باب المزرعة وركضتُ مسرعة صوب المركز.
وصلت لمركز الأبحاث ووجدت دايسكي منهمكًا بالتفكير في غرفة الرصد، أخبرته بما حدث فانزعج، كان كوجي يستمع لحديثنا، قال كوجي بانزعاج: “هراء! سوف أقضي عليه حالًا” واندفع مغادرًا فلحق به دايسكي بعد أن طلب مني أن أبقى هنا لسلامتي
لكني لم أستطع الامتثال لطلب دايسكي طويلًا، مرت عشر دقائق ونفذ صبري فانطلقت للمزرعة.
التقيت أبي في طريقي، كان يقود الجيب وينقل كوجي الفاقد الوعي بها إلى المركز الطبي، سألته عمن فعل ذلك بكوجي فقال أن شجارًا شب بينه وبين الزائر الغريب دون أن يتمكن من فهم سببه، قدرت أن الأمور تسير على نحو سيء فضاعفت من سرعتي، حال وصولي للمزرعة لم أجد دايسكي أو ذلك الغريب، كانت دراجة دايسكي قرب الباب ولا شيء آخر، ناديت على جورو وعرفت منه أن دايسكي والغريب قد ذهبا معًا على حصانين بهذا الاتجاه كما قال جورو وهو يشير بذراعه الصغيرة، فتبعتهما رغم نداءات جورو وتساؤلاته.
هناك بين الأشجار رأيت ما جمد الدم في عروقي، رأيت الحصانين، وعلى العشب الأخضر كان دايسكي والغريب يتدحرجان بعنف، دفع الغريب دايسكي بحدة فطار جسده بعيدًا، رأيته يحاول انتزاع سكين من الأرض وقد علقت بشدة، ورأيت الغريب يصوب سكينه نحو دايسكي مباشرة ويهم بقذفها
وجدتني أركض دون تفكير نحو دايسكي وأنا أصرخ بأعلى صوتي: “لا”، وقفت أحول بين دايسكي والغريب وقد فردت ذراعي على امتدادهما.
نظر لي الغريب بعينين تفيضان بالكراهية وهو يأمرني بوقاحة: “ابتعدي”، سمعت دايسكي من خلفي يهتف مرتعبًا: “ابتعدي يا هيكارو قلبه من حجر” لكني صممت على موقفي، رميت هذا الرجل بنظرة تحدٍ وأنا أهتف:
لا، لن أسمح لهذا الرجل أن يقتل دايسكي!
كنت كمن يحدث نفسه، لم أكن خائفة من السكين الموجهة لصدري، لم أكن أخشى الموت في تلك اللحظة، شملتني شجاعة لم أعتدها بنفسي من قبل، ويبدو أني أثرت دهشة ذلك الغريب أيضًا، فقد أغلق سكينه وهو يقول: “حسنًا!” ثم أولانا ظهره وقال مبتعدًا: “غدًا يصبح القمر بدرًا وتنتهي حياتك”
جملة هذا الرجل كانت غريبة ومرعبة بحق، بقيت في موضعي دون حراك لبرهة، ذهب الغريب بعيدًا وشعرت بكف دايسكي على كتفي، أدار جسدي فأصبحت مواجهة له، نظر بقوة لعيني وهو يسألني بصرامة:
لماذا فعلتِ ذلك؟
لم أستطع أن..
طلبتُ منكِ البقاء في المركز.
أعرف لكن..
لانت ملامحه ونبرته وهو يستطرد:
هيكارو أرجوك!
تشبثت به أسأله:
ما الذي يقصده هذا الرجل دايسكي؟
القائد جوس من نجم والفز هيكارو، فيجا الكبير هاجم نجم والفز وقام باحتلاله، يقول جوس أن قوات فيجا باغتت نجمه ليلة اكتمال القمر، وأنه سيحول يوم هزيمته إلى نصر غدًا.
وما علاقتك بالأمر؟
لقد وعده فيحا الكبير باستقلال نجم والفز إن استطاع قتلي!
ماذا!
هذا الرجل يقاتل من أجل وطنه أيضًا!
هذا مؤسف!
على كل حال سنتواجه غدًا لا شك في ذلك، وعلي أن أضع خطة عمل لذلك، صحن جوس قوي للغاية، يكاد يتفوق على جريندايزر!
اتسعت عيناي بفزع، لم أكن أعرف بمواجهة دايسكي لهذا الرجل من قبل، لم أكن أعرف أبدًا! الآن عرفت سبب اندفاع كوجي نحو المزرعة وسبب عراك دايسكي وجوس منذ قليل، أخرجني دايسكي من شرودي وهو يقول:
عودي الآن إلى المزرعة وانتبهي جيدًا، من المحتمل أن يقضي جوس الليلة هناك، وأنا سأبيت في المركز احتياطًا.
حاضر دايسكي.
احتوى كفي بين كفيه وهو يهمس لي:
انتبهي لنفسك جيدًا!
أومأت برأسي إيجابًا:
اعتنِ بنفسك أنتَ أيضًا!
أجابني بإيماءة مماثلة وافترقنا.
لم أنم طيلة الليل، لقد حدث ما توقعه دايسكي، دعا أبي جوس للمكوث في منزلنا، هذا الرجل خطر للغاية، لهذا بقيت ساهرة طيلة الليل، فكرت كثيرًا فيما قاله دايسكي بشأنه، جوس يقاتل لأجل وطنه وقد ذاق مرارة الحرب على يد قوات فيجا، قد يكون بإمكاني إقناعه بالتخلي عن فكرة فتل دوق إن عرف أن قتل دوق يعني احتلال الأرض أيضًا، عزمت على تنفيذ الفكرة.
في الصباح حصلت على إحدى بنادق أبي دون أن ينتبه لذلك، علقت البندقية في سرج الحصان وطلبت من جوس أن يساعدني، تذرعت بهروب أحد الأحصنة واندهشت من تلبيته لطلبي، دايسكي مُحِق؛ جوس ليس سيئًا لهذا الحد، إذن ربما كان هناك أمل بإقناعه، سرنا لبعض الوقت حتى وصلنا لمصب الشلال
في الطريق سألته:
هل ستقاتل دوق فليد؟
نعم، فأنا بانتظاره هذه الليلة.
لا تقتل دوق فليد، إن فعلت احتل رجال نجم فيجا الأرض، نعم!
هذا لا يهمني!
كان جوابه صادمًا فقررت الانتقال للخطة الثانية، كان منشغلًا يبحث بعينيه عن الحصان الشارد، هذا الرجل مُحير بحق، يصر على قتل دايسكي دون إثم اقترفه بحقه، لا يهمه سلام الأرض، ويقبل مساعدتي رغم ذلك! لا يهم لقد اتخذت قراري، سحبت البندقية ووجهتها نحوه فباغتني بقوله:
لا تفقدي صوابك!
هتفت به مستجمعة شجاعتي:
افعل ما أقول وإلا!
هل تطلقين علي؟
كنت مضطربة فهذه هي المرة الأولى التي أرفع فيها سلاحًا ناريًا في وجه إنسان، لهذا تراجعت وهدأت لهجتي وأنا أجيبه:
أرجوك لا تقتل دوق فليد!
لكن جوس سحب آلته الموسيقية ونفخ فيها، وفي لحظة وجدت البندقية تطير من يدي وصوت الطلقات النارية يدوي في أذني، سقطت من على ظهر الحصان الذي انتفض حين حدث ما حدث، اندفع جوس نحوي وجذبني بعنف، شعرت بصفعاته القوية على وجهي وهو يردد: “أنتِ خدعتني” سقطتُ على الأرض بعنف و.. غبت عن الوعي.
استعدت وعيي فشعرت بالألم، كانت يداي تؤلماني بشدة، وجهي لا زال يعاني من وقع صفعاته العدوانية، فتحت عيني ففزعت، كنت معلقة في الفضاء أعلى الشلال، كان المنظر مرعبًا، المياه تهدر بعنف والارتفاع شاهق، حاولت أن أحرك رأسي فرأيته بصعوبة.
كان يستند لإحدى الصخور وبعبث بسكينه، سمعته يقول لي:
تفعلين هذا لأجل رجل من كوكب آخر، لنرى ما إذا كان فتاكِ سيأتي لإنقاذك أم لا؟ إن لم يفعل قبل غروب الشمس فسأقطع هذا الحبل بنفسي!
جوس ذئب حقيقي، ذئب شرس، لقد كان يلهو بي كطريدة، هذا مريع! تسارعت دقات قلبي كثيرًا، تساءلت كيف يمكن لدايسكي أن يعرف بمكاني من الأساس؟!
مرت دقائق لا أدري عن عددها وطولها لكني لمحت دراجة دايسكي تقترب، كيف علم بأمري؟ لا أعرف! سمعته يهتف باسمي ملتاعًا، أجابه جوس بدلًا مني، فلم أكن بحالة تسمح لي بالكلام أبدًا:
أريد أن أبارزك، إن ربحت سأقطع الحبل!
شعرت بندم عميق في هذه اللحظة، أنا السبب فيما يحدث الآن، لو لم أصر على تنفيذ خطتي لما وصلنا إلى هنا، أوصاني دايسكي بالعناية بنفسي وبالحذر لكني لم أصغ له جيدًا، أنا آسفة دايسكي! لكن ماذا يمكن للأسف أن يفعل في موقف كهذا؟!
2023-02-25
– مذكرات هيكارو السرية – الغريب..!
مذكرات هيكارو السرية
مذكرات خيالية في دفتر يوميات هيكارو ماكيبا
الحلقة الرابعة والثلاثون – الغريب..!
مرت أيام عصيبة، كان تحسن حالة دايسكي الصحية في الآونة الأخيرة أجمل ما فيها، وبالرغم من كل ما عايشناه فقد كان لصراحتنا معًا – دايسكي وأنا – دورًا في تحسين معنوياتنا وأوضاعنا النفسية، عادت الأحاديث العذبة بيننا وعدنا أكثر انفتاحًا عن ذي قبل، رأيت البسمة الصافية على شفتي دايسكي، وكنت أرى بريق عينيه ونظراته المشرقة فتغمرني بالأمل، تنزهنا كثيرًا هذه الأيام، وكنت أشاركه تدريب الحصان إياه، يخرج كلًا منا بحصانه ونركض معًا وسط الأشجار، علمني دايسكي أن أقفز بالحصان لمسافات أطول مما كنت أجيده، شيئًا فشيئًا استعدت حيويتي والكثير من ثقتي بنفسي.
صباح أحد الأيام كنت في المطبخ أُعِد الإفطار فرأيتُ الجريدة وقد نسيها أبي على الطاولة، تصفحتها بسرعة ووقعت عيناي على خبر أثار اهتمامي، كنتُ أقرأ تفاصيل الخبر منهمكة حين قطع صوت دايسكي تركيزي فجأة:
– ما الذي يشغلك لهذا الحد؟
رفعت بصري إليه متفاجئة بقدومه وشهقت دون إرادة مني، فقال :
– آسف لإزعاجك!
ضحكت بارتباك وأنا أجيبه:
– لا بأس، كنت منهمكة بالقراءة لا أكثر.. تلزمك مساعدة؟
– ما الذي يشغلك؟
قالها وهو يجلس على الطاولة الخشبية مواجهًا لي، فمددت يدي إليه بالجريدة وأنا أجيبه:
– انظر!
رفع حاجبيه باندهاش وهو يقول:
– بطولة الجمباز!
– نعم، تقام هذه البطولة كل أربع سنوات دايسكي، ويُسمح لطلاب الثانوية بالاشتراك فيها.
شردتُ ببصري وأنا أستطرد:
– لطالما تمنيت الاشتراك في هذه البطولة!
– لستِ الآن بالثانوية هيكارو.. آسف لفوات هذه الفرصة!
– لم تفت بعد!
– ماذا تقولين هيكارو؟
– أفكر بالاشتراك في تلك البطولة وسأجد حلًا لذلك!
– ماذا؟!
– أنا جادة وسترى.
– لا أعتقد بأن هذا ممكن.
– بل ممكن!
كان دايسكي مندهشًا من حديثي، وكنتُ أنا أيضًا متعجبة من إصراري، دايسكي مُحق، فالأمر يبدو مستحيلًا لكن لدي خطة مبدئية وآمل أن تُكلل بالنجاح، نهضتُ أنهي مناقشتنا التي لم تبدأ بعد وأنا أقول:
– علي أن أنتهي من إعداد الإفطار فلدي عمل كثير اليوم!
– حسنًا!
كان من الواضح أنه غير مقتنع بما أقول لكنه آثر عدم مجادلتي، التفتُ للموقد وبدأتُ أعد الطعام بالفعل، سمعته يضحك ضحكة قصيرة بود وانصرف.
***
انهيتُ أعمالي اليومية في المزرعة ولحقتُ بدايسكي في مركز الأبحاث لحضور درس الفضاء كالمعتاد، وقت رجوعنا أخبرته بأني ذاهبة في الغد للمدينة لشراء بعض الأشياء فتساءل عما أعنيه:
– علي أن أتدرب يوميًا دايسكي، انقطعت عن تدريبات الجمباز منذ أشهر، هذا سيقلل فرصي في الفوز.
– وما علاقة ذلك بمشترياتك؟
– أنا بحاجة لشراء حذاء للتمرين وبعض الملابس المريحة أيضًا.
– تبدين جادة باشتراكك!
– صحيح.
– وماذا عن سنتك الدراسية؟
– سأتدبر الأمر مع مدرستي.
كنتُ قد بدأتُ أدرس خطتي بالفعل، بقيتُ أفكر طيلة النهار في الأمر حتى أنني لم أعد أذكر شيئًا من درس الفضاء اليوم، هذا الاستعراض كان حلمي منذ صغري ولم تتح لي الفرصة للمشاركة فيه سابقًا، لن أفوت هذه الفرصة أبدًا، لكني فضلت الاحتفاظ بتفاصيل خطتي سرًا حتى أتحقق من قدرتي على تنفيذها، لهذا أمسكت عن تفاصيلها بحزم، وعلى الرغم من ذلك أجابني دايسكي باسمًا:
– تبدين متحمسة كثيرًا.. إذن سأصحبك للمدينة غدًا، موافقة؟
– موافقة!
كنتُ ممتنة لمساعدة دايسكي ودعمه لي رغم عدم اقتناعه بما أفكر به، وكنت أخطط للذهاب للمدينة بمفردي، الآن سيرافقني صديق عزيز على قلبي.. أليس هذا رائعًا؟!
***
ذهبنا للمدينة في اليوم التالي، أخذتُ أتنقل بين متجر وآخر، اخترتُ حذاءً وثيابًا رياضية جديدة للتمرين، كذلك حرصتُ على اقتناء ثوب وحذاء خاص للاستعراض: ثوب أحمر، حذاء أبيض وحلية شعر مناسبة، اقتنيتُ بضعة أثواب أخرى لا علاقة لها بالتدريب، فلقد سئمتُ من مظهري المعتاد وقررت أن أغير من هيئتي، هذه الثياب يلزمها تغييرات أخرى في مظهر شعري وطريقة تصفيفه، سأرى هذا لاحقًا، وبما أن الذهاب للمدينة لا يتيسر لي كثيرًا، لهذا قررت شراء ما أريده دفعة واحدة.
***
بدأتُ تمارين الجمباز منذ اليوم التالي مباشرة، كنت أنهي أعمالي في المزرعة ثم درس الفضاء وأخرج للتدريب، أنطلق بالحصان لمكان مناسب، بساط أخضر، بضع أشجار قوية هنا وهناك، أستبدل حذائي الطويل بآخر رياضي، أخلع قبعتي وأبدأ التمارين، علي أن أركض سريعًا ولمسافات طويلة، الكثير من تمارين التوازن على ساق واحدة، الركض سريعًا ثم رفع الساقين لأعلى والاستناد لشجرة ويدي على الأرض لأطول فترة ممكنة، الدوران المتكرر كالمروحة على البساط الأخضر، العدو بسرعة ثم دفع الأرض بقدمي بقوة والقفز عاليًا، علي أن أتعلق بهذا الغصن ثم ذاك، أقبض على الغصن بقوة وأدور حوله، أقفز لغيره وأسير عليه بوضع مقلوب، رأسي جهة الغصن، كفاي يقبضان عليه بقوة وقدماي لأعلى، لم تكن التدريبات سهلة واستغرقت مني بضعة أسابيع.
صحبني دايسكي في بعض تدريباتي، قال أنه يريد مشاركتي حلمي، تحاشيت النظر لعينيه وأنا أؤدي حركاتي الاستعراضية حتى لا أرتبك أو يغمرني الخجل، أثنى دايسكي على حركاتي وقال أني قادرة على الفوز لكن المشكلة الأكبر في قبول مشاركتي، أنا أيضًا يساورني الشك من وقت لآخر، لم يحن الوقت بعد لتنفيذ خطتي للمشاركة لهذا كانت أفكاري تعبث بي يمينًا وشمالًا!
***
لكن حدث أمر مزعج منذ أسبوعين وبالكاد استطعت العودة لتماريني من جديد، بعد ظهر أحد الأيام وبينما أنا أعمل في المزرعة كالعادة وأحاول الانتهاء من عملي سريعًا لاستكمال تدريباتي – في ذلك الوقت طلبت من أبي مساعدتي لكنه بدا رافضًا تمامًا، قال أنه يسعى لإيجاد يوفو وإسقاطه، بعد أن استطاع أبي إسقاط إحدى وحدات الميني فو بضربة حظ أصبح أكثر حماسًا لتكرار التجربة، لكنه في ذلك اليوم كان عصبي المزاج كثيرًا، لذا تناول البندقية فجأة وأخذ يطلق النار تحت أقدامنا – جورو وأنا – مما أثار عجبي!
عاود أبي النظر من خلال منظاره البسيط بعدها وكأن شيئًا لم يكن، ثم راح يهتف بقدوم رجل مسلح إلى مزرعتنا.
لم أكن مرتاحة لقدوم هذا الغريب لكني أسرعت لبوابة المزرعة أرى ما يحدث، كان فارسًا يرتدي قبعة كرعاة البقر وحرملة سوداء وحذاءً طويلًا من الجلد، قال أنه بحاجة لسقيا حصانه فأرشدته للمكان، ترجل عن حصانه وقفز جالسًا على السياج، أخرج من جيبه آلة موسيقية صغيرة وأخذ ينفخ فيها، لم تشعرني نغماته بالارتياح على الرغم من حلاوتها، قاطعه أبي بسؤاله عما إذا كان مسافرًا، فأجابه:
– أنا أطارد العدو.
– تريد أن تثأر! ما اسم العدو؟
– دوق فليد!
كان حديثهما سريعًا وجواب هذا الغريب مرعبًا فاتسعت عيناي بفزع، كان ينظر لي بطرف عينه فحاولت أن أتمالك نفسي وأبتسم كي لا أثير شكوكه، رأيت بعينيه جحيمًا يشتعل، هذا الغريب جاء ليثير المشاكل ويريق الدماء، لطفك يارب!
استجمعت شجاعتي وحاولت محادثة هذا الغريب لبعض الوقت بعيدًا عن أبي وجورو، كان يردد كلامًا غريبًا، سألته من أين أتى فأجابني بأنه ذئب أتي من نجم بعيد، لو لم أكن على علم بقصة دايسكي وحقيقته لما صدقت حرفًا مما يقوله هذا الغريب، أنا الآن أفهم أنه عدو جاء من كوكب بعيد يطلق على نفسه وصف الذئب ولا أعرف السبب، صحيح أن في تصرفاته شرًا مرعبًا يذكرني بالذئاب لكن لا أعتقد أن هذا هو السبب، على الأغلب أنا أتوهم هذا الشبه بعد ما قال.
عرفت أن علي أن أسرع لأخبر دايسكي بما يحدث، فقد ذهب هو إلى مركز الأبحاث منذ الصباح ولن يعود الآن، لهذا ما إن حضر أبي حتى تذرعت بضرورة قضاء عمل مهم وانسحبت، لم أشأ امتطاء حصان حتى لا ينتبه أحد لذهابي وتسللت من باب المزرعة ورحت أركض مسرعة صوب المركز.
وصلت لمركز الأبحاث ووجدت دايسكي منهمكًا بالتفكير في غرفة الرصد، أخبرته بما حدث فانزعج، كان كوجي يستمع لحديثنا، قال كوجي بانزعاج: “هراء! سوف أقضي عليه حالًا” واندفع مغادرًا فلحق به دايسكي بعد أن طلب مني أن أبقى هنا لسلامتي.
لكني لم أستطع الامتثال لطلب دايسكي طويلًا، مرت عشر دقائق ونفذ صبري فانطلقت للمزرعة.
التقيت أبي في الجيب في طريقي وكان ينقل كوجي الفاقد الوعي إلى المركز الطبي، سألته عمن فعل ذلك بكوجي فقال أن شجارًا شب بينه وبين الزائر الغريب دون أن يتمكن من فهم سببه، قدرت أن الأمور تسير على نحو سيء فضاعفت من سرعتي، حال وصولي للمزرعة لم أجد دايسكي أو ذلك الغريب، كانت دراجة دايسكي قرب الباب ولا شيء آخر، ناديت على جورو وعرفت منه أن دايسكي والغريب قد ذهبا معًا على حصانين بهذا الاتجاه كما قال جورو وهو يشير بذراعه الصغيرة، فتبعتهما رغم نداءات جورو وتساؤلاته.
هناك بين الأشجار رأيت ما جمد الدم في عروقي، رأيت الحصانين، وعلى العشب الأخضر كان دايسكي والغريب يتدحرجان بعنف، دفع الغريب دايسكي بحدة فطار جسده بعيدًا، رأيته يحاول انتزاع سكين من الأرض وقد علقت بشدة، ورأيت الغريب يصوب بسكينه نحو دايسكي مباشرة ويهم بقذفها.
وجدتني أركض دون تفكير نحو دايسكي وأنا أصرخ بأعلى صوتي: “لا”، وقفت أحول بين دايسكي والغريب وقد فردت ذراعي على امتدادهما.
نظر لي الغريب بعينين تفيضان بالكراهية وهو يأمرني بوقاحة: “ابتعدي”، سمعت دايسكي من خلفي يهتف مرتعبًا: “ابتعدي يا هيكارو قلبه من حجر” لكني صممت على موقفي، رميت هذا الرجل بنظرة تحدٍ وأنا أهتف:
– لا، لن أسمح لهذا الرجل أن يقتل دايسكي!
كنت كمن يحدث نفسه، لم أكن خائفة من السكين الموجهة لصدري، لم أكن أخشى الموت في تلك اللحظة، شملتني شجاعة لم أعتدها بنفسي من قبل، ويبدو أني أثرت دهشة ذلك الغريب أيضًا، فقد أغلق سكينه وهو يقول: “حسنًا!” ثم أولانا ظهره وقال مبتعدًا: “غدًا يصبح القمر بدرُا وتنتهي حياتك”
جملة هذا الرجل كانت غريبة ومرعبة بحق، بقيت في موضعي دون حراك لبرهة، ذهب الغريب بعيدًا وشعرت بكف دايسكي على كتفي، أدار جسدي فأصبحت مواجهة له، فنظر بقوة لعيني وهو يسألني بصرامة:
– لماذا فعلتِ ذلك؟
– لم أستطع أن..
– طلبتُ منكِ البقاء في المركز.
– أعرف لكن..
لانت ملامحه ونبرته وهو يستطرد:
– هيكارو أرجوك!
تشبثت به أسأله:
– ما الذي يقصده هذا الرجل دايسكي؟
– القائد جوس من نجم والفز هيكارو، فيجا الكبير هاجم نجم والفز وقام باحتلاله، يقول جوس أن قوات فيجا باغتت نجمه ليلة اكتمال القمر، وأنه سيحول يوم هزيمته إلى نصر غدًا.
– وما علاقتك بالأمر؟
– لقد وعده فيحا الكبير باستقلال نجم والفز إن استطاع قتلي!
– ماذا!
– هذا الرجل يقاتل من أجل وطنه أيضًا!
– هذا مؤسف!
– على كل حال سنتواجه غدًا لا شك في ذلك، وعلي أن أضع خطة عمل لذلك، صحن جوس قوي للغاية، يكاد يتفوق على جريندايزر!
اتسعت عيناي بفزع، لم أكن أعرف بمواجهة دايسكي لهذا الرجل من قبل، لم أكن أعرف أبدًا! الآن عرفت سبب اندفاع كوجي نحو المزرعة وسبب عراك دايسكي وجوس منذ قليل، أخرجني دايسكي من شرودي وهو يقول:
– عودي الآن إلى المزرعة وانتبهي جيدًا، من المحتمل أن يقضي جوس الليلة هناك، وأنا سأبيت في المركز احتياطًا.
– حاضر دايسكي.
احتوى كفي بين كفيه وهو يهمس لي:
– انتبهي لنفسك جيدًا!
أومأت برأسي إيجابًا:
– اعتنِ بنفسك أنتَ أيضًا!
أجابني بإيماءة مماثلة وافترقنا.
***
لم أنم طيلة الليل، لقد حدث ما توقعه دايسكي، دعا أبي جوس للمكوث في منزلنا، هذا الرجل خطر للغاية، لهذا بقيت ساهرة طيلة الليل، فكرت كثيرًا فيما قاله دايسكي بشأنه، جوس يقاتل لأجل وطنه وقد ذاق مرارة الحرب على يد قوات فيجا، قد يكون بإمكاني إقناعه بالتخلي عن فكرة فتل دوق إن عرف أن قتل دوق يعني احتلال الأرض أيضًا، عزمت على تنفيذ الفكرة.
في الصباح حصلت على إحدى بنادق أبي دون أن ينتبه لذلك، علقت البندقية في سرج الحصان وطلبت من جوس أن يساعدني، تذرعت بهروب أحد الأحصنة واندهشت من تلبيته لطلبي، دايسكي مُحِق؛ جوس ليس سيئًا لهذا الحد، إذن ربما كان هناك أمل بإقناعه، سرنا لبعض الوقت حتى وصلنا لمصب الشلال.
في الطريق سألته:
– هل ستقاتل دوق فليد؟
– نعم، فأنا بانتظاره هذه الليلة.
– لا تقتل دوق فليد، إن فعلت احتل رجال نجم فيجا الأرض، نعم!
– هذا لا يهمني!
كان جوابه صادمًا فقررت الانتقال للخطة الثانية، كان منشغلًا يبحث بعينيه عن الحصان الشارد، هذا الرجل مُحير بحق، يصر على قتل دايسكي دون إثم اقترفه بحقه، لا يهمه سلام الأرض، ويقبل مساعدتي رغم ذلك! لا يهم لقد اتخذت قراري، سحبت البندقية ووجهتها نحوه فباغتني بقوله:
– لا تفقدي صوابك!
هتفت به مستجمعة شجاعتي:
– افعل ما أقول وإلا!
– هل تطلقين علي؟
كنت مضطربة فهذه هي المرة الأولى التي أرفع فيها سلاحًا ناريًا في وجه إنسان، لهذا تراجعت وهدأت لهجتي وأنا أجيبه:
– أرجوك لا تقتل دوق فليد!
لكن جوس سحب آلته الموسيقية ونفخ فيها، وفي لحظة وجدت البندقية تطير من يدي وصوت الطلقات النارية يدوي في أذني، سقطت من على ظهر الحصان الذي انتفض حين حدث ما حدث، اندفع جوس نحوي وجذبني بعنف، شعرت بصفعاته القوية على وجهي وهو يردد: “أنتِ خدعتني” سقطتُ على الأرض بعنف و.. غبت عن الوعي.
***
استعدت وعيي فشعرت بالألم، كانت يدايا تؤلماني بشدة، وجهي لا زال يؤلمني من وقع صفعاته العدوانية، فتحت عيني ففزعت، كنت معلقة في الفضاء أعلى الشلال، كان المنظر مرعبًا، المياه تهدر بعنف والارتفاع شاهق، حاولت أن أحرك رأسي فرأيته بصعوبة.
كان جوس يستند لإحدى الصخور وبعبث بسكينه، سمعته يقول لي:
– تفعلين هذا لأجل رجل من كوكب آخر، لنرى ما إذا كان فتاكِ سيأتي لإنقاذك أم لا؟ إن لم يفعل قبل غروب الشمس فسأقطع هذا الحبل بنفسي!
جوس ذئب حقيقي، ذئب شرس، لقد كان يلهو بي كطريدة، هذا مريع! تسارعت دقات قلبي كثيرًا، تساءلت كيف يمكن لدايسكي أن يعرف بمكاني من الأساس؟!
مرت دقائق لا أدري عن عددها وطولها لكني لمحت دراجة دايسكي تقترب، كيف علم بأمري؟ لا أعرف! سمعته يهتف باسمي ملتاعًا، أجابه جوس بدلًا مني، فلم أكن بحالة تسمح لي بالكلام أبدًا:
– أريد أن أبارزك، إن ربحت سأقطع الحبل!
شعرت بندم عميق في هذه اللحظة، أنا السبب فيما يحدث الآن، لو لم أصر على تنفيذ خطتي لما وصلنا إلى هنا، أوصاني دايسكي بالعناية بنفسي وبالحذر لكني لم أصغ له جيدًا، أنا آسفة دايسكي! لكن ماذا يمكن للأسف أن يفعل في موقف كهذا؟!
ألقي جوس بالسكين في الهواء، ورأيت دايسكي يرفع ذراعه عاليًا ويلتقطها بمهارة، أخذ الاثنان يناوران بعضهما البعض حتى حانت اللحظة، كان دايسكي على طرف الحافة الصخرية المرتفعة وجوس يعدو نحوه، قفز جوس عاليًا وهو يهوي بالسكين على دايسكي الذي تحرك في اللحظة الأخيرة، سقط جوس من أعلى الجبل باتجاه مجرى الشلال ورأيت دايسكي ينظر إلى موضع سقوطه للحظات، ثم هم بالقفز خلفه، فعرفت أن جوس لا زال حيًا وأن دايسكي لم يستطع سوى إنقاذ روحه رغم ما فعل بنا جميعًا.
غاب دايسكي وجوس عن نظري، وبعد برهة سمعت صوت دايسكي بالقرب مني، كان يتسلق الصخور على جانب الشلال:
قادم لمساعدتك هيكارو!
لم أتمكن من إجابته فعاد يستطرد:
سألتقطك حالًا، تحملي بعض الألم!
قالها وقفز نحوي فجأة، أمسك بي بقوة واندفعنا صوب حافة الجبل، شعرت بألم شديد في معصَمَيَّ، لقد استطاعت قفزتنا القوية مع وزن كلينا أن تكسر غصن الشجرة الذي استخدمه جوس لتقييدي، رأيت الغصن وهو يهوي علينا ودايسكي يصده بذراعه، لقد نجونا أخيرًا، أزاح دايسكي الغصن بعيدًا وراح يحل وثاقي وهو يسألني:
هل آلمك كثيرًا؟
أنا بخير، شكرًا لك!
كان معصمَيَّ قد أصيبا بالكثير من الجروح لكن لا بأس هذا أفضل من أن أفقد حياتي، تأمل دايسكي معصمي وهو يقول:
آسف! لكن لم تكن هناك وسيلة آخرى لفعل ذلك!
لا عليك أنا السبب منذ البداية فلم أصغِ لنصحك!
أخفضت بصري وأنا أستطرد:
سامحني دايسكي!
ربت على كتفي مشجعًا وهو يقول:
دعينا ننقل جوس الآن إلى بيت المزرعة!
كم أحب أخلاق دايسكي! يعرف أن اللوم مؤلم وأن الاعتذار متعب، يقبل دايسكي اعتذار الآخرين بطريقة مميزة، يبتسم دون كلام، يحول مجرى الحديث بسلاسة، قَبِلَ اعتذاري بأسلوبه الخاص ودعاني لمشاركته الخطوة التالية، شكرًا للطفك دايسكي!
توجهنا نحو جوس، كان ملقًا على إحدى الصخور بالقرب من مجرى الشلال حيث كنا نقف، وحيث رفعت سلاحي في وجهه، هذه المرة كان فاقدًا لوعيه، حملناه في دراجة دايسكي وعدنا للمزرعة، اعتنى أبي بجوس وقد أخبرناه أنه تعرض لحادثة سقوط لا أكثر من ذلك، وأخذنا نتحدث دايسكي وأنا لبعض الوقت، طلب مني أن أقص عليه ما حدث ففعلت بصدق، شكرني لرغبتي بمساعدته وطلب مني أن أكون أكثر حذرًا، سألته عن كيفية معرفته بمكاني فأخبرني بأنه عاد للمزرعة صباحًا ولم يجدني، وأنه عرف من جورو بأمر ذهابي مع جوس فانطلق يبحث عني، وعندما انطلقت الرصاصة استطاع تحديد مكاني، قال دايسكي أن المعركة ستقع الليلة ولابد فارتجف قلبي بين ضلوعي!
عند غروب الشمس ودعني دايسكي ذاهبًا لمصيره، كنت خائفة عليه بشدة، أخبرني أنه سيسلك الطريق السرية رقم سبعة وأنه سينتظر رؤيتي هناك فقد تكون هي المعركة الأخيرة لجريندايزر، شعرت بالكآبة لإشارته وعلى الرغم من ذلك أكدت له أني سأكون هناك وسأصلي لأجله.
ذهبت لغرفة جوس أرى ما حل به، لا زلت مقتنعة بأن هذا الرجل يحمل قلبًا يمكن إحياؤه من جديد، أحضرت بعض الزهور ووضعتها في المزهرية بغرفته، كان جوس قد أفاق بالفعل، سألني وهو في فراشه:
لماذا أنقذ حياتي؟
تصرف بوحي أخلاقه، هذا هو دوق فليد أنقذك رغم أنكَ كنتَ تنوي قتله!
قلتها دون أن ألتفت إليه وانصرفت، كانت مواجهتي لجوس تثير داخلي ارتباكًا شديدًا، هذا الرجل أراد إيذائي بعنف وكان يلهو بمصيري!
لم يمضِ الكثير من الوقت حتى سمعنا صوت زجاج النافذة يتحطم، واختفى جوس من المزرعة، فعرفت أن اللحظة قد حانت، أسرعت للإسطبل أُخرج أحد الأحصنة، امتطيته بسرعة وانطلقت أعدو به صوب مخرج الطريق السرية رقم سبعة.
وقفت على الجبل أرقب خروج جريندايزر، دعوت الله من كل قلبي أن يحفظ دايسكي وأن يعود سالمًا، لم أفكر بانتصار دايسكي في معركته وإنما شُغِلت بسلامته وبقائه حيًا، لم أفكر بمصير جوس وخفت مما قد يفعله بدايسكي، بقيت أنتظر لفترة طويلة حتى ظهر جريندايزر، ارتفع في السماء وارتفع قلبي معه يتبعه بحب، وصهل حصاني وهو يرفع قائمتيه الأماميتين كأنما هو أيضًا يشاركني شعوري ورجائي.
شددت اللجام وأسرعت أعدو في الاتجاه الذي سلكه جريندايزر، أخذ حصاني بنهب الأرض بحوافره وقد بذلت جهدًا كبيرًا للسيطرة عليه، فمع سرعة عدوه ووصول دوي المعركة إلينا كان الحصان يهتز ويضطرب بشدة، أخيرًا استطعت أن أرى ما يحدث، رأيت دايزر ممسكًا برزته ويقذف بها نحو صحن جوس، رأيت صحن الأخير يترنح بقوة، غُرِسَت الرزة في كوة صحن جوس وحطمتها، رأيت جوس يقفز من أعلى صحنه الذي تهاوى، سقط على ركبتيه، كان مصابًا يمسك موضع إصابته في صدره، رأيته بنزف، كان يمد ذراعه في الهواء كأنما يحاول إمساك شيء بكفه أو الإشارة إلى شيء ما، رأيت الأزهار على امتداد إشارة يده، لم أكن أفهم ما يعنيه جوس بإشارته لكنه بدأ يردد اسم فتاة فجأة ثم سقط على الأرض وهو يمسك الأزهار بكفيه ويتشبث بها، فهتفت له متسائلة: “الأزهار؟!”
2023-02-25
– مذكرات هيكارو السرية – الغريب..!
مذكرات هيكارو السرية
مذكرات خيالية في دفتر يوميات هيكارو ماكيبا
الحلقة الرابعة والثلاثون – الغريب..!
مرت أيام عصيبة، كان تحسن حالة دايسكي الصحية في الآونة الأخيرة أجمل ما فيها، وبالرغم من كل ما عايشناه فقد كان لصراحتنا معًا – دايسكي وأنا – دورًا في تحسين معنوياتنا وأوضاعنا النفسية، عادت الأحاديث العذبة بيننا وعدنا أكثر انفتاحًا عن ذي قبل، رأيت البسمة الصافية على شفتي دايسكي، وكنت أرى بريق عينيه ونظراته المشرقة فتغمرني بالأمل، تنزهنا كثيرًا هذه الأيام، وكنت أشاركه تدريب الحصان إياه، يخرج كلًا منا بحصانه ونركض معًا وسط الأشجار، علمني دايسكي أن أقفز بالحصان لمسافات أطول مما كنت أجيده، شيئًا فشيئًا استعدت حيويتي والكثير من ثقتي بنفسي.
صباح أحد الأيام كنت في المطبخ أُعِد الإفطار فرأيتُ الجريدة وقد نسيها أبي على الطاولة، تصفحتها بسرعة ووقعت عيناي على خبر أثار اهتمامي، كنتُ أقرأ تفاصيل الخبر منهمكة حين قطع صوت دايسكي تركيزي فجأة:
– ما الذي يشغلك لهذا الحد؟
رفعت بصري إليه متفاجئة بقدومه وشهقت دون إرادة مني، فقال :
– آسف لإزعاجك!
ضحكت بارتباك وأنا أجيبه:
– لا بأس، كنت منهمكة بالقراءة لا أكثر.. تلزمك مساعدة؟
– ما الذي يشغلك؟
قالها وهو يجلس على الطاولة الخشبية مواجهًا لي، فمددت يدي إليه بالجريدة وأنا أجيبه:
– انظر!
رفع حاجبيه باندهاش وهو يقول:
– بطولة الجمباز!
– نعم، تقام هذه البطولة كل أربع سنوات دايسكي، ويُسمح لطلاب الثانوية بالاشتراك فيها.
شردتُ ببصري وأنا أستطرد:
– لطالما تمنيت الاشتراك في هذه البطولة!
– لستِ الآن بالثانوية هيكارو.. آسف لفوات هذه الفرصة!
– لم تفت بعد!
– ماذا تقولين هيكارو؟
– أفكر بالاشتراك في تلك البطولة وسأجد حلًا لذلك!
– ماذا؟!
– أنا جادة وسترى.
– لا أعتقد بأن هذا ممكن.
– بل ممكن!
كان دايسكي مندهشًا من حديثي، وكنتُ أنا أيضًا متعجبة من إصراري، دايسكي مُحق، فالأمر يبدو مستحيلًا لكن لدي خطة مبدئية وآمل أن تُكلل بالنجاح، نهضتُ أنهي مناقشتنا التي لم تبدأ بعد وأنا أقول:
– علي أن أنتهي من إعداد الإفطار فلدي عمل كثير اليوم!
– حسنًا!
كان من الواضح أنه غير مقتنع بما أقول لكنه آثر عدم مجادلتي، التفتُ للموقد وبدأتُ أعد الطعام بالفعل، سمعته يضحك ضحكة قصيرة بود وانصرف.
***
انهيتُ أعمالي اليومية في المزرعة ولحقتُ بدايسكي في مركز الأبحاث لحضور درس الفضاء كالمعتاد، وقت رجوعنا أخبرته بأني ذاهبة في الغد للمدينة لشراء بعض الأشياء فتساءل عما أعنيه:
– علي أن أتدرب يوميًا دايسكي، انقطعت عن تدريبات الجمباز منذ أشهر، هذا سيقلل فرصي في الفوز.
– وما علاقة ذلك بمشترياتك؟
– أنا بحاجة لشراء حذاء للتمرين وبعض الملابس المريحة أيضًا.
– تبدين جادة باشتراكك!
– صحيح.
– وماذا عن سنتك الدراسية؟
– سأتدبر الأمر مع مدرستي.
كنتُ قد بدأتُ أدرس خطتي بالفعل، بقيتُ أفكر طيلة النهار في الأمر حتى أنني لم أعد أذكر شيئًا من درس الفضاء اليوم، هذا الاستعراض كان حلمي منذ صغري ولم تتح لي الفرصة للمشاركة فيه سابقًا، لن أفوت هذه الفرصة أبدًا، لكني فضلت الاحتفاظ بتفاصيل خطتي سرًا حتى أتحقق من قدرتي على تنفيذها، لهذا أمسكت عن تفاصيلها بحزم، وعلى الرغم من ذلك أجابني دايسكي باسمًا:
– تبدين متحمسة كثيرًا.. إذن سأصحبك للمدينة غدًا، موافقة؟
– موافقة!
كنتُ ممتنة لمساعدة دايسكي ودعمه لي رغم عدم اقتناعه بما أفكر به، وكنت أخطط للذهاب للمدينة بمفردي، الآن سيرافقني صديق عزيز على قلبي.. أليس هذا رائعًا؟!
***
ذهبنا للمدينة في اليوم التالي، أخذتُ أتنقل بين متجر وآخر، اخترتُ حذاءً وثيابًا رياضية جديدة للتمرين، كذلك حرصتُ على اقتناء ثوب وحذاء خاص للاستعراض: ثوب أحمر، حذاء أبيض وحلية شعر مناسبة، اقتنيتُ بضعة أثواب أخرى لا علاقة لها بالتدريب، فلقد سئمتُ من مظهري المعتاد وقررت أن أغير من هيئتي، هذه الثياب يلزمها تغييرات أخرى في مظهر شعري وطريقة تصفيفه، سأرى هذا لاحقًا، وبما أن الذهاب للمدينة لا يتيسر لي كثيرًا، لهذا قررت شراء ما أريده دفعة واحدة.
***
بدأتُ تمارين الجمباز منذ اليوم التالي مباشرة، كنت أنهي أعمالي في المزرعة ثم درس الفضاء وأخرج للتدريب، أنطلق بالحصان لمكان مناسب، بساط أخضر، بضع أشجار قوية هنا وهناك، أستبدل حذائي الطويل بآخر رياضي، أخلع قبعتي وأبدأ التمارين، علي أن أركض سريعًا ولمسافات طويلة، الكثير من تمارين التوازن على ساق واحدة، الركض سريعًا ثم رفع الساقين لأعلى والاستناد لشجرة ويدي على الأرض لأطول فترة ممكنة، الدوران المتكرر كالمروحة على البساط الأخضر، العدو بسرعة ثم دفع الأرض بقدمي بقوة والقفز عاليًا، علي أن أتعلق بهذا الغصن ثم ذاك، أقبض على الغصن بقوة وأدور حوله، أقفز لغيره وأسير عليه بوضع مقلوب، رأسي جهة الغصن، كفاي يقبضان عليه بقوة وقدماي لأعلى، لم تكن التدريبات سهلة واستغرقت مني بضعة أسابيع.
صحبني دايسكي في بعض تدريباتي، قال أنه يريد مشاركتي حلمي، تحاشيت النظر لعينيه وأنا أؤدي حركاتي الاستعراضية حتى لا أرتبك أو يغمرني الخجل، أثنى دايسكي على حركاتي وقال أني قادرة على الفوز لكن المشكلة الأكبر في قبول مشاركتي، أنا أيضًا يساورني الشك من وقت لآخر، لم يحن الوقت بعد لتنفيذ خطتي للمشاركة لهذا كانت أفكاري تعبث بي يمينًا وشمالًا!
***
لكن حدث أمر مزعج منذ أسبوعين وبالكاد استطعت العودة لتماريني من جديد، بعد ظهر أحد الأيام وبينما أنا أعمل في المزرعة كالعادة وأحاول الانتهاء من عملي سريعًا لاستكمال تدريباتي – في ذلك الوقت طلبت من أبي مساعدتي لكنه بدا رافضًا تمامًا، قال أنه يسعى لإيجاد يوفو وإسقاطه، بعد أن استطاع أبي إسقاط إحدى وحدات الميني فو بضربة حظ أصبح أكثر حماسًا لتكرار التجربة، لكنه في ذلك اليوم كان عصبي المزاج كثيرًا، لذا تناول البندقية فجأة وأخذ يطلق النار تحت أقدامنا – جورو وأنا – مما أثار عجبي!
عاود أبي النظر من خلال منظاره البسيط بعدها وكأن شيئًا لم يكن، ثم راح يهتف بقدوم رجل مسلح إلى مزرعتنا.
لم أكن مرتاحة لقدوم هذا الغريب لكني أسرعت لبوابة المزرعة أرى ما يحدث، كان فارسًا يرتدي قبعة كرعاة البقر وحرملة سوداء وحذاءً طويلًا من الجلد، قال أنه بحاجة لسقيا حصانه فأرشدته للمكان، ترجل عن حصانه وقفز جالسًا على السياج، أخرج من جيبه آلة موسيقية صغيرة وأخذ ينفخ فيها، لم تشعرني نغماته بالارتياح على الرغم من حلاوتها، قاطعه أبي بسؤاله عما إذا كان مسافرًا، فأجابه:
– أنا أطارد العدو.
– تريد أن تثأر! ما اسم العدو؟
– دوق فليد!
كان حديثهما سريعًا وجواب هذا الغريب مرعبًا فاتسعت عيناي بفزع، كان ينظر لي بطرف عينه فحاولت أن أتمالك نفسي وأبتسم كي لا أثير شكوكه، رأيت بعينيه جحيمًا يشتعل، هذا الغريب جاء ليثير المشاكل ويريق الدماء، لطفك يارب!
استجمعت شجاعتي وحاولت محادثة هذا الغريب لبعض الوقت بعيدًا عن أبي وجورو، كان يردد كلامًا غريبًا، سألته من أين أتى فأجابني بأنه ذئب أتي من نجم بعيد، لو لم أكن على علم بقصة دايسكي وحقيقته لما صدقت حرفًا مما يقوله هذا الغريب، أنا الآن أفهم أنه عدو جاء من كوكب بعيد يطلق على نفسه وصف الذئب ولا أعرف السبب، صحيح أن في تصرفاته شرًا مرعبًا يذكرني بالذئاب لكن لا أعتقد أن هذا هو السبب، على الأغلب أنا أتوهم هذا الشبه بعد ما قال.
عرفت أن علي أن أسرع لأخبر دايسكي بما يحدث، فقد ذهب هو إلى مركز الأبحاث منذ الصباح ولن يعود الآن، لهذا ما إن حضر أبي حتى تذرعت بضرورة قضاء عمل مهم وانسحبت، لم أشأ امتطاء حصان حتى لا ينتبه أحد لذهابي وتسللت من باب المزرعة ورحت أركض مسرعة صوب المركز.
وصلت لمركز الأبحاث ووجدت دايسكي منهمكًا بالتفكير في غرفة الرصد، أخبرته بما حدث فانزعج، كان كوجي يستمع لحديثنا، قال كوجي بانزعاج: “هراء! سوف أقضي عليه حالًا” واندفع مغادرًا فلحق به دايسكي بعد أن طلب مني أن أبقى هنا لسلامتي.
لكني لم أستطع الامتثال لطلب دايسكي طويلًا، مرت عشر دقائق ونفذ صبري فانطلقت للمزرعة.
التقيت أبي في الجيب في طريقي وكان ينقل كوجي الفاقد الوعي إلى المركز الطبي، سألته عمن فعل ذلك بكوجي فقال أن شجارًا شب بينه وبين الزائر الغريب دون أن يتمكن من فهم سببه، قدرت أن الأمور تسير على نحو سيء فضاعفت من سرعتي، حال وصولي للمزرعة لم أجد دايسكي أو ذلك الغريب، كانت دراجة دايسكي قرب الباب ولا شيء آخر، ناديت على جورو وعرفت منه أن دايسكي والغريب قد ذهبا معًا على حصانين بهذا الاتجاه كما قال جورو وهو يشير بذراعه الصغيرة، فتبعتهما رغم نداءات جورو وتساؤلاته.
هناك بين الأشجار رأيت ما جمد الدم في عروقي، رأيت الحصانين، وعلى العشب الأخضر كان دايسكي والغريب يتدحرجان بعنف، دفع الغريب دايسكي بحدة فطار جسده بعيدًا، رأيته يحاول انتزاع سكين من الأرض وقد علقت بشدة، ورأيت الغريب يصوب بسكينه نحو دايسكي مباشرة ويهم بقذفها.
وجدتني أركض دون تفكير نحو دايسكي وأنا أصرخ بأعلى صوتي: “لا”، وقفت أحول بين دايسكي والغريب وقد فردت ذراعي على امتدادهما.
نظر لي الغريب بعينين تفيضان بالكراهية وهو يأمرني بوقاحة: “ابتعدي”، سمعت دايسكي من خلفي يهتف مرتعبًا: “ابتعدي يا هيكارو قلبه من حجر” لكني صممت على موقفي، رميت هذا الرجل بنظرة تحدٍ وأنا أهتف:
– لا، لن أسمح لهذا الرجل أن يقتل دايسكي!
كنت كمن يحدث نفسه، لم أكن خائفة من السكين الموجهة لصدري، لم أكن أخشى الموت في تلك اللحظة، شملتني شجاعة لم أعتدها بنفسي من قبل، ويبدو أني أثرت دهشة ذلك الغريب أيضًا، فقد أغلق سكينه وهو يقول: “حسنًا!” ثم أولانا ظهره وقال مبتعدًا: “غدًا يصبح القمر بدرُا وتنتهي حياتك”
جملة هذا الرجل كانت غريبة ومرعبة بحق، بقيت في موضعي دون حراك لبرهة، ذهب الغريب بعيدًا وشعرت بكف دايسكي على كتفي، أدار جسدي فأصبحت مواجهة له، فنظر بقوة لعيني وهو يسألني بصرامة:
– لماذا فعلتِ ذلك؟
– لم أستطع أن..
– طلبتُ منكِ البقاء في المركز.
– أعرف لكن..
لانت ملامحه ونبرته وهو يستطرد:
– هيكارو أرجوك!
تشبثت به أسأله:
– ما الذي يقصده هذا الرجل دايسكي؟
– القائد جوس من نجم والفز هيكارو، فيجا الكبير هاجم نجم والفز وقام باحتلاله، يقول جوس أن قوات فيجا باغتت نجمه ليلة اكتمال القمر، وأنه سيحول يوم هزيمته إلى نصر غدًا.
– وما علاقتك بالأمر؟
– لقد وعده فيحا الكبير باستقلال نجم والفز إن استطاع قتلي!
– ماذا!
– هذا الرجل يقاتل من أجل وطنه أيضًا!
– هذا مؤسف!
– على كل حال سنتواجه غدًا لا شك في ذلك، وعلي أن أضع خطة عمل لذلك، صحن جوس قوي للغاية، يكاد يتفوق على جريندايزر!
اتسعت عيناي بفزع، لم أكن أعرف بمواجهة دايسكي لهذا الرجل من قبل، لم أكن أعرف أبدًا! الآن عرفت سبب اندفاع كوجي نحو المزرعة وسبب عراك دايسكي وجوس منذ قليل، أخرجني دايسكي من شرودي وهو يقول:
– عودي الآن إلى المزرعة وانتبهي جيدًا، من المحتمل أن يقضي جوس الليلة هناك، وأنا سأبيت في المركز احتياطًا.
– حاضر دايسكي.
احتوى كفي بين كفيه وهو يهمس لي:
– انتبهي لنفسك جيدًا!
أومأت برأسي إيجابًا:
– اعتنِ بنفسك أنتَ أيضًا!
أجابني بإيماءة مماثلة وافترقنا.
***
لم أنم طيلة الليل، لقد حدث ما توقعه دايسكي، دعا أبي جوس للمكوث في منزلنا، هذا الرجل خطر للغاية، لهذا بقيت ساهرة طيلة الليل، فكرت كثيرًا فيما قاله دايسكي بشأنه، جوس يقاتل لأجل وطنه وقد ذاق مرارة الحرب على يد قوات فيجا، قد يكون بإمكاني إقناعه بالتخلي عن فكرة فتل دوق إن عرف أن قتل دوق يعني احتلال الأرض أيضًا، عزمت على تنفيذ الفكرة.
في الصباح حصلت على إحدى بنادق أبي دون أن ينتبه لذلك، علقت البندقية في سرج الحصان وطلبت من جوس أن يساعدني، تذرعت بهروب أحد الأحصنة واندهشت من تلبيته لطلبي، دايسكي مُحِق؛ جوس ليس سيئًا لهذا الحد، إذن ربما كان هناك أمل بإقناعه، سرنا لبعض الوقت حتى وصلنا لمصب الشلال.
في الطريق سألته:
– هل ستقاتل دوق فليد؟
– نعم، فأنا بانتظاره هذه الليلة.
– لا تقتل دوق فليد، إن فعلت احتل رجال نجم فيجا الأرض، نعم!
– هذا لا يهمني!
كان جوابه صادمًا فقررت الانتقال للخطة الثانية، كان منشغلًا يبحث بعينيه عن الحصان الشارد، هذا الرجل مُحير بحق، يصر على قتل دايسكي دون إثم اقترفه بحقه، لا يهمه سلام الأرض، ويقبل مساعدتي رغم ذلك! لا يهم لقد اتخذت قراري، سحبت البندقية ووجهتها نحوه فباغتني بقوله:
– لا تفقدي صوابك!
هتفت به مستجمعة شجاعتي:
– افعل ما أقول وإلا!
– هل تطلقين علي؟
كنت مضطربة فهذه هي المرة الأولى التي أرفع فيها سلاحًا ناريًا في وجه إنسان، لهذا تراجعت وهدأت لهجتي وأنا أجيبه:
– أرجوك لا تقتل دوق فليد!
لكن جوس سحب آلته الموسيقية ونفخ فيها، وفي لحظة وجدت البندقية تطير من يدي وصوت الطلقات النارية يدوي في أذني، سقطت من على ظهر الحصان الذي انتفض حين حدث ما حدث، اندفع جوس نحوي وجذبني بعنف، شعرت بصفعاته القوية على وجهي وهو يردد: “أنتِ خدعتني” سقطتُ على الأرض بعنف و.. غبت عن الوعي.
***
استعدت وعيي فشعرت بالألم، كانت يدايا تؤلماني بشدة، وجهي لا زال يؤلمني من وقع صفعاته العدوانية، فتحت عيني ففزعت، كنت معلقة في الفضاء أعلى الشلال، كان المنظر مرعبًا، المياه تهدر بعنف والارتفاع شاهق، حاولت أن أحرك رأسي فرأيته بصعوبة.
كان جوس يستند لإحدى الصخور وبعبث بسكينه، سمعته يقول لي:
– تفعلين هذا لأجل رجل من كوكب آخر، لنرى ما إذا كان فتاكِ سيأتي لإنقاذك أم لا؟ إن لم يفعل قبل غروب الشمس فسأقطع هذا الحبل بنفسي!
جوس ذئب حقيقي، ذئب شرس، لقد كان يلهو بي كطريدة، هذا مريع! تسارعت دقات قلبي كثيرًا، تساءلت كيف يمكن لدايسكي أن يعرف بمكاني من الأساس؟!
مرت دقائق لا أدري عن عددها وطولها لكني لمحت دراجة دايسكي تقترب، كيف علم بأمري؟ لا أعرف! سمعته يهتف باسمي ملتاعًا، أجابه جوس بدلًا مني، فلم أكن بحالة تسمح لي بالكلام أبدًا:
– أريد أن أبارزك، إن ربحت سأقطع الحبل!
شعرت بندم عميق في هذه اللحظة، أنا السبب فيما يحدث الآن، لو لم أصر على تنفيذ خطتي لما وصلنا إلى هنا، أوصاني دايسكي بالعناية بنفسي وبالحذر لكني لم أصغ له جيدًا، أنا آسفة دايسكي! لكن ماذا يمكن للأسف أن يفعل في موقف كهذا؟!
ألقي جوس بالسكين في الهواء، ورأيت دايسكي يرفع ذراعه عاليًا ويلتقطها بمهارة، أخذ الاثنان يناوران بعضهما البعض حتى حانت اللحظة، كان دايسكي على طرف الحافة الصخرية المرتفعة وجوس يعدو نحوه، قفز جوس عاليًا وهو يهوي بالسكين على دايسكي الذي تحرك في اللحظة الأخيرة، سقط جوس من أعلى الجبل باتجاه مجرى الشلال ورأيت دايسكي ينظر إلى موضع سقوطه للحظات، ثم هم بالقفز خلفه، فعرفت أن جوس لا زال حيًا وأن دايسكي لم يستطع سوى إنقاذ روحه رغم ما فعل بنا جميعًا.
غاب دايسكي وجوس عن نظري، وبعد برهة سمعت صوت دايسكي بالقرب مني، كان يتسلق الصخور على جانب الشلال:
– قادم لمساعدتك هيكارو!
لم أتمكن من إجابته فعاد يستطرد:
– سألتقطك حالًا، تحملي بعض الألم!
قالها وقفز نحوي فجأة، أمسك بي بقوة واندفعنا صوب حافة الجبل، شعرت بألم شديد في معصَمَيَّ، لقد استطاعت قفزتنا القوية مع وزن كلينا أن تكسر غصن الشجرة الذي استخدمه جوس لتقييدي، رأيت الغصن وهو يهوي علينا ودايسكي يصده بذراعه، لقد نجونا أخيرًا، أزاح دايسكي الغصن بعيدًا وراح يحل وثاقي وهو يسألني:
– هل آلمك كثيرًا؟
– أنا بخير، شكرًا لك!
كان معصمَيَّ قد أصيبا بالكثير من الجروح لكن لا بأس هذا أفضل من أن أفقد حياتي، تأمل دايسكي معصمي وهو يقول:
– آسف لكن لم تكن هناك وسيلة آخرى لفعل ذلك!
– لا عليك أنا السبب منذ البداية فلم أصغِ لنصحك!
أخفضت بصري وأنا أستطرد:
– سامحني دايسكي!
ربت على كتفي مشجعًا وهو يقول:
– دعينا ننقل جوس الآن إلى بيت المزرعة!
كم أحب أخلاق دايسكي! يعرف أن اللوم مؤلم وأن الاعتذار متعب، يقبل دايسكي اعتذار الآخرين بطريقة مميزة، يبتسم دون كلام، يحول مجرى الحديث بسلاسة، قَبِلَ اعتذاري بأسلوبه الخاص ودعاني لمشاركته الخطوة التالية، شكرًا للطفك دايسكي!
توجهنا نحو جوس، كان ملقًا على إحدى الصخور بالقرب من مجرى الشلال حيث كنا نقف، وحيث رفعت سلاحي في وجهه، هذه المرة كان فاقدًا لوعيه، حملناه في دراجة دايسكي وعدنا للمزرعة، اعتنى أبي بجوس وقد أخبرناه أنه تعرض لحادثة سقوط لا أكثر من ذلك، وأخذنا نتحدث دايسكي وأنا لبعض الوقت، طلب مني أن أقص عليه ما حدث ففعلت بصدق، شكرني لرغبتي بمساعدته وطلب مني أن أكون أكثر حذرًا، سألته عن كيفية معرفته بمكاني فأخبرني بأنه عاد للمزرعة صباحًا ولم يجدني، وأنه عرف من جورو بأمر ذهابي مع جوس فانطلق يبحث عني، وعندما انطلقت الرصاصة استطاع تحديد مكاني، قال دايسكي أن المعركة ستقع الليلة ولابد فارتجف قلبي بين ضلوعي!
***
عند غروب الشمس ودعني دايسكي ذاهبًا لمصيره، كنت خائفة عليه بشدة، أخبرني أنه سيسلك الطريق السرية رقم سبعة وأنه سينتظر رؤيتي هناك فقد تكون هي المعركة الأخيرة لجريندايزر، شعرت بالكآبة لإشارته وعلى الرغم من ذلك أكدت له أني سأكون هناك وسأصلي لأجله.
ذهبت لغرفة جوس أرى ما حل به، لا زلت مقتنعة بأن هذا الرجل يحمل قلبًا يمكن إحياؤه من جديد، أحضرت بعض الزهور ووضعتها في المزهرية بغرفته، كان جوس قد أفاق بالفعل، سألني وهو في فراشه:
– لماذا أنقذ حياتي؟
– تصرف بوحي أخلاقه، هذا هو دوق فليد أنقذك رغم أنكَ كنتَ تنوي قتله!
قلتها دون أن ألتفت إليه وانصرفت، كانت مواجهتي لجوس تثير داخلي ارتباكًا شديدًا، هذا الرجل أراد إيذائي بعنف وكان يلهو بمصيري!
لم يمضِ الكثير من الوقت حتى سمعنا صوت زجاج النافذة يتحطم، واختفى جوس من المزرعة، فعرفت أن اللحظة قد حانت، أسرعت للإسطبل أُخرج أحد الأحصنة، امتطيته بسرعة ورحت أعدو به صوب مخرج الطريق السرية رقم سبعة.
وقفت على الجبل أرقب خروج جريندايزر، دعوت الله من كل قلبي أن يحفظ دايسكي وأن يعود سالمًا، لم أفكر بانتصار دايسكي في معركته وإنما شُغِلت بسلامته وبقائه حيًا، لم أفكر بمصير جوس وخفت مما قد يفعله بدايسكي، بقيت أنتظر لفترة طويلة حتى ظهر جريندايزر، ارتفع في السماء وارتفع قلبي معه يتبعه بحب، وصهل حصاني وهو يرفع قائمتيه الأماميتين كأنما هو أيضًا يشاركني شعوري ورجائي.
شددت اللجام وأسرعت أعدو في الاتجاه الذي سلكه جربندايزر، أخذ حصاني بنهب الأرض بحوافره وقد بذلت جهدًا كبيرًا للسيطرة عليه، فمع سرعة عدوه ووصول دوي المعركة إلينا كان الحصان يهتز ويضطرب بشدة، أخيرًا استطعت أن أرى ما يحدث، رأيت دايزر ممسكًا برزته ويقذف بها نحو صحن جوس، رأيت صحن الأخير يترنح بقوة، غُرِسَت الرزة في كوة صحن جوس وحطمتها، رأيت جوس يقفز من أعلى صحنه الذي تهاوى، سقط على ركبتيه، كان مصابًا يمسك موضع إصابته في صدره، رأيته بنزف، كان يمد ذراعه في الهواء كأنما يحاول إمساك شيء بكفه أو الإشارة إلى شيء ما، رأيت الأزهار على امتداد إشارة يده، لم أكن أفهم ما يعنيه جوس بإشارته لكنه بدأ يردد اسم فتاة فجأة ثم سقط على الأرض وهو يمسك الأزهار بكفيه ويتشبث بها، فهتفت له متسائلة: “الأزهار؟!”
لا زلت لا أفهم شيئًا، وصل دايسكي في تلك اللحظة، وقف جواري، جلسنا سويًا على ركبتينا مقابل جوس، كان هو يحتضر، سمعت دايسكي يتحدث إليه وكأنه يفهمه:
جوس، أنت تحب الأزهار أليس كذلك؟! أردت أن تكثر الأزهار على الأرض.. فهمت يا جوس، وأعدك ما دمت حيًا أني سأقاتل من أجل بقاء الحياة على الأرض!
كان الموقف مؤثرًا جدًا، لفظ جوس أنفاسه الأخيرة أمامنا، الذئب الذي أراد قتلي صباحًا وأصر على قتل دايسكي بشراسة لفظ أنفاسه ممسكًا بالأزهار ومرتميًا على الأرض الخضراء، بدا جوس وديعًا في لحظة موته، نسيت شراسته وأشفقت عليه، صادقت داخلي على وصف دايسكي له وأنه يقاتل لأجل وطنه، جوس لم يكن عدوًا لنا؛ جوس كان ضحية مثلنا تلاعب فيجا بمصيرها كما يلهو اليوم بمصيرنا، رفعتُ رأسي للسماء فوجدت نيزكًا يلتمع في قبتها، تفاءلت به ونهضنا.
لم أتخيل أن أعيش ما عشته بعد موت جوس، لقد تعالى صوت أزيز ساعة دايسكي، تبعه صوت دكتور أمون يبلغنا باقتراب يوفو ضخم متوجهًا نحونا مباشرة، كنا واقفين قرب دايزر وسبيزر بعيدة عنا، رأيت دايسكي يضغط زرًا في ساعته ويمسك بيدي يشدني إليه، ظهرت سبيزر في السماء، اقتربت منا، طارت فكانت فوق رأسينا، غمرنا ظلها وتبعه شعاع أصفر اللون، رفعنا الشعاع ببطئ حتى بتنا داخل سبيزر، وصلنا لقمرة قيادتها، هذه هي المرة الأولى التي أصعد فيها داخل سبيزر خارج مركز الأبحاث، ارتفعت سبيزر حتى باتت قريبة من قمرة دايزر:
انتظريني!
قالها دايسكي بحزم، ورأيتُ زجاج قمرة سبيزر يُفتح ودايسكي يقفز منها بشجاعة صوب قمرة دايزر، أًغلق الزجاج أمامي وأنا جامدة لا أستطيع الحركة، رأيت دايزر يقفز، شعرت بسبيزر تتحرك وترتفع، شملني الخوف والاضطراب، سمعت صوت دايسكي داخل قمرة القيادة:
قادم إليك هيكارو.
ارتجت سبيزر قليلًا، سمعت أصواتًا كثيرة ثم رأيت مقعد دايسكي يدخل قمرة القيادة.. حمدًا لله!
طلب مني دايسكي أن أجلس بهدوء على المقعد الخلفي الصغير في قمرة سبيزر، طلب مني أن أحافظ على أعصابي فسنخوض معركتنا الأولى معًا، لم يخطر ببالي ما يحدث من قبل أبدًا!
ارتفع جريندايزر في الهواء أكثر وأكثر وظهر وحش فيجا من بعيد، كان هائل الحجم، بدأت المناورات، ثم انطلقت الأشعة من الطرفين، مع كل شعاع أصاب جريندايزر كنت أشعر بالألم يعتصر جسدي، كانت الأشعة حارقة ومؤلمة، ولم أكن أعرف هذا الشعور أو أخبره من قبل، لم أكن أرتدي زيًا عسكريًا ولا خوذة لحمايتي، وربما هذا هو سبب ما أشعر به، وهذا ما أكده لي دايسكي فيما بعد، انكمشت على نفسي برعب حقيقي، كان جريندايزر يدور في الهواء ويناور ببراعة، ثم جاءت اللحظة التي شملني فيها الخوف ولم أستطع مقاومته، لقد سحب دايسكي ذراعًا أعلى مقعده وغادر مقعده قمرة سبيزر، عرفت أنه ينتقل لقمرة دايزر وأني سأبقى وحيدة هنا، تشبثت بمقعدي أكثر وارتجت سبيزر من جديد ثم هبطت على جبل قريب، استطعت أن أرى دايزر يقاتل بشراسة حتى انتصر على العدو.
حمدًا لله! عاد دايسكي أخيرًا لسبيزر وعدنا معًا لمركز الأبحاث، أما صحن جوس وجثته فقد نالا مصيرًا مؤلمًا خلال المعركة وتدمرا تمامًا، وجه وحش فيجا ضرباته لصحن جوس المتهاوي ونسفه، وجثة جوس نالها ما نالها خلال القصف المتبادل للأسف!
عند وصولنا ساعدني دايسكي على الخروج من سبيزر، طوق خصري بذراعيه وقفزنا معًا، كنت لا أزال خائفة ومرتبكة، كان جسدي يرتجف رغمًا عني، حاول دايسكي تهدئتي، طمأنتي بأن كل شيء قد انتهى، سألني إن كنت أصبت بشكل أو بآخر، حدثته عن شعوري حين كان جريندايزر يتلقى ضربات الأشعة واحدة تلو الأخرى، ضمني إليه وهو يعتذر لي عما أصابني، أكد لي سبب شعوري بهذا الألم، أكد لي أنه لم يكن يملك القدرة على تركي وحيدة في أرض المعركة وأنه كان يخشى علي.
كانت هذه التجربة قاسية على نفسي وقد ساعدتني على التعايش أكثر مع ما يواجهه دايسكي باستمرار، الحرب تزداد بشاعة بنظري، وتزداد قربًا مني وكأنها تخبرني بأنها ستبتلعني يومًا ما رغمًا عني.. لطفك يارب!
لم أخلد لفراشي باكرة هذه الليلة وكذلك دايسكي، اختار دايسكي أن يقضي ليلته في المزرعة لا في مركز الأبحاث، سهرنا معًا قرابة الساعتين، تحدثنا طويلًا حول ما عايشناه، عرفت من دايسكي أن جوس رغم تهديداته إلا أنه لم يقاتله اليوم، لقد ساعده في القضاء على الميني فو، واستسلم قصدًا على الرغم من كبريائه الذي دفعه للرد على تساؤل دايسكي: “لا تسئ فهمي، أردت قتلك بنفسي” مسكين جوس! مسكين رغم قوته المفرطة وإصراره وشراسته، مسكين رغم عزمه على قتلنا، شيئًا فشيئًا بدأت استوعب شعور دايسكي بالحرب، استوعب قلقه المستمر، استوعب مرارة حلقه التي لا ينفك يعاني منها، استوعب اضطرابه واختلاط مشاعره، الحرب تخلط الأوراق ببعض، تجعل الصديق عدوًا أحيانًا، في الحرب لا يمكن أن تعرف وتثق من أي جهة ومن أي شخص ستأتيك الضربة القادمة، وأي غدر هو بانتظارك، ميناو شاركتنا المرح لساعات وهي تنوي قتل دايسكي، جوس بات في منزلنا بدعوة من أبي الذي رآه ضيفًا يستحق الإكرام وكان جوس يترصد دايسكي، نايدا التي كانت صديقة لدايسكي ومصب مشاعر حبه الأولى استخدمت لتتهمه بالخيانة وترديه في أعماق البئر المظلمة وكادت أن تقضي على جريندايزر، دايسكي رآى من تقف أمامه بصورة أمه وتعتزم قتله غدرًا، أي مصير ينتظرنا في الغد؟ كيف ستأتي الضربة التالية ومن أين؟ هل سيظهر عدو صريح نراه في السماء وتلتقطه أجهزة دكتور أمون؟ هل سيظهر فجأة بين صفوفنا دون سابق إنذار؟ ماذا عن جيراننا والمحيطين بنا وضيوفنا؟ هل يكون العدو أحدهم؟ كانت مشاعر القلق والخوف والاضطراب والحيرة تتملكني في تلك الليلة وبالكاد غفوت لأبدأ يومي التالي مرهقة من السهر، حاولت تخطي هذه الأزمة قدر استطاعتي، عدت أواصل تدريباتي دون رغبة حقيقية في البداية، وكانت جروح معصمي تعيقني كثيزًا وتعيد إلي ذكرى ما حدث، لكن شيئًا فشيئًا بدأت استعيد حيويتي، علينا أن نقاوم وآن نقاتل، علينا ألا نستسلم لقوات فيجا وما تثيره في داخلنا من خوف، علينا أن نحافظ على معنوياتنا مرتفعة قدر الإمكان، نعم، علينا أن نسعى لتحقيق ذلك مهما بدا صعبًا أو مستحيلًا!
اترك تعليقًا