الحلقة التاسعة والأربعون – المعجزة
هذه هي المرة الأولى التي أجلس فيها في الشرفة وحدي لأكتب، لقد غرقت المزرعة في سبات عميق بعد أن نام الكل، ولن أنام وحدي في غرفتي هذه الليلة على غير العادة، فلي شريك جديد في الغرفة قد يلازمني لأسابيع قادمة، لذا أعتقد بأني سأجلس هنا كل ليلة وحدي لأكتب، تمامًا كما كنت أسهر منذ سنوات استمع لقيثارة دايسكي قبل أن تتبدل حياتي وتصير على ما هي عليه اليوم، الجو هادئ جدًا، لا قيثارة تهمس من بعيد، ولا حتى أصوات خافتة هنا أو هناك، ولا شيء غير السكون وضوء القمر الهادئ الذي يؤنس شمعتي المتواضعة ويمكنني من رؤية ما أكتب، ليست الرؤية واضحة تمامًا لكنها تكفي على أية حال.. الشريك الجديد.. نعم، كدت أن أشرد بعيدًا، إنها فتاة، ورغم أني لا أعرفها جيدًا إلا أنها عزيزة علي لأنها ببساطة أخت دايسكي، يبدو الأمر أشبه بالحلم أو المعجزة فعلًا، فماريا الصغيرة التي تركها دايسكي خلفه في فليد مُكرهًا لا زالت على قيد الحياة، ليس هذا فقط، بل إنها كانت تستنشق معنا الهواء ذاته منذ سنوات دون أن ندري، لو أن دايسكي علم بوجودها قبلًا لربما تغيرت أشياء كثيرة، ولربما بدا هو أكثر سعادة وارتياحًا، على كلٍ فما حدث اليوم هو معجزة حقيقية لم يكن من الممكن أن تخطر ببال أحدنا، آه، هذا يمنحني الكثير من الأمل، فقد تحدث المعجزة التي أتمناها وأصلي لأجلها كل ليلة، ربما يأتي يوم ويشفى فيه جرح دايسكي وتسكن آلامه وآلامي للأبد، من يدري؟!
أنا مرهقة جدًا، لم أنم لما يزيد عن أربعين ساعة، ومع ذلك أشعر برغبة ملحة في الكتابة، فما حدث طوال الساعات الماضية يفوق طاقتي وقدرتي على الكتمان، ليست ماريا فقط هي ما أعني؛ بل الكثير من الأحداث التي هزت أعماقي بقوة.
بالأمس أنهيت أعمالي في المركز وقررت العودة بسرعة للمزرعة قبل غروب الشمس، كنت مشتاقة لأبي وجورو وقد وعدتهما بتناول العشاء والسهر معًا، أحاول تعويض جورو كثيرًا هذه الأيام قدر استطاعتي، فلقد كان لانشغالي الدائم في مركز الأبحاث أثره الواضح في منزلنا، أخبرني أبي بأن جورو يفتقدني كثيرًا وأنه قد صارحه بشعوره هذا أكثر من مرة، أخبره أبي بأنني أعمل وأن انشغالي عنه لأجل حمايته وحماية وطننا والأرض بأسرها، قال له أنه سيكبر ذات يوم وسيختار طريقه في هذه الحياة وسيصير مشغولًا مثلي وربما أكثر، عرفت أن جورو قد انشغل بمنظاره البسيط في محاولة منه للدخول لعالمي الجديد منذ مدة، لهذا لُمْتُ نفسي كثيرًا على توبيخه في ذلك اليوم، ورغم توددي إليه واعتذاري الصريح له إلا أنني لازلت أشعر بالكثير من الذنب تجاه قلبه البريء.
عدت للمنزل بالفعل وأعددت العشاء بنفسي كالأيام الخوالي، تناولنا طعامنا كأسرة، وقد تغيب دايسكي للأسف واضطر للبقاء في المركز لوقت أطول، بعد العشاء بساعتين تقريبًا استدعاني دكتور أمون على نحو عاجل، وجدت كوجي في المركز أيضًا، ولم يكن دايسكي هناك، أخبرنا دكتور أمون بظهور يوفو مرعب، كان ينطلق بسرعة هائلة ويتحرك على نحو عشوائي وشرس، قال أن دايسكي خرج فورًا لملاقاته لكنه ظل يتتبعه من مكان لآخر: بحر اليابان، ساحل بحر اليابان، جبال اليابان ثم.. ثم فُقِد دايسكي تمامًا وانقطع الاتصال به، وكان أبعد من أن تلتقطه أجهزة دكتور أمون، كان قلبي يخفق بقوة وأنا أسمع هذه الكلمات، ماذا أصابك دايسكي؟! لطفك يارب!
كان علينا أن نخرج – كوجي وأنا – للبحث عن دايسكي، حاولنا تتبع خط سيره، وطال بنا البحث لساعات حتى طلع النهار، بدأ اليأس يدب في قلبينا، لا أثر لدايسكي، ولا إشارات تنطلق من جريندايزر بتاتًا، أُحبِط كوجي كثيرًا وبدا على وشك الاستسلام، قلتُ له بحزم وأنا أتقدمه بسلاحي الملاحي: “لا بد أن يكون قد هبط اضطراريًا على جبل بالقرب منا، لنبحث عنه من جديد”، تقدمته وقلبي يتمزق من الخوف والقلق، بدا لي سماع صوت دايسكي وقتها حلمًا أتمنى أن يتحقق، تشبثتُ بالأمل قدر استطاعتي، وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي نفقد فيها دايسكي لكل تلك الساعات، كنا في موقف عصيب، اليوفو طليق ويواصل تخريبه هنا وهناك، وهو أقوى من أسلحتنا، ودايسكي مفقود!
أخيرًا لمحته، كان جريندايزر مرتطمًا بالصخور، هتفتُ أخبر كوجي بمكانه، وجعلنا ننادي دايسكي في جهاز الاتصال مرارًا حتى استطاع الرد علينا، كانت جملة دايسكي قاسية على قلبي: “آسف لأني جشمتكم عناء البحث عني”، تمنيتُ لو أن بإمكاني أن أقول له بأن عليه أن يكون آسفًا لشعوره هذا لا لأجل عنائنا حقًا، سلامته كانت أغلى عندي من كل كنوز الدنيا، دمعت عيناي بصمت، مددتُ يدي أمسح دموعي وتحدثتُ إليه عبر قناة اتصال خاصة:
أنتَ بخير دايسكي؟
بخير هيكارو اطمئني.
تسعدني سلامتك يا عزيزي، ما الذي حدث؟
هذا الوحش مزود بإشعاعات قوية جدًا من الفيجاترون، لقد ارتطم بي بعنف ولا أعرف ما حدث بعدها..
قطع حديثنا صوت دكتور أمون وهو يخبرنا بنبرة فزعة بأن وحش فيجا يتجه صوب المنشآت الصناعية على شاطئ المحيط الهادي، أسرعنا إلى هناك بالفعل، حاولنا الاشتباك مع الوحش دون جدوى، اندفع كوجي صوب الوحش رغم تحذير دايسكي، وسمعنا كوجي يتألم إثر هجوم الوحش عليه، قال أنه أصيب بصدمة، أرجع دايسكي ذلك لوجود إشعاعات قوية من الفيجاترون تصدر عن الوحش على غير العادة، يا إلهي! إن كان كوجي قد أصيب بصدمة جراء اقترابه من الوحش فبماذا شعر دايسكي الذي ارتطم به وهو يحمل على ذراعه جرحًا مفتوحًا كهذا!
فكر دايسكي بخطة لشل حركة الوحش عن طريق إعاقة سيره وحفر الأرض من حوله حتى يغور فيها، وقتها سنتمكن من القضاء عليه دون الاقتراب منه، لهذا عاد كوجي بسبيزر المزدوج ليستبدله بسبيزر الحفار الذي أُنتِج مؤخرًا، وبقينا دايسكي وأنا نحاصر الوحش ونعيق تقدمه، نجحت الخطة بالفعل واستطعنا القضاء على وحش فيجا، يا إلهي! لا أجد في نفسي الطاقة الكافية للكتابة عن تفاصيل تلك المعركة، لكنها انتهت أخيرًا وعدنا سالمين.
بعد عودتنا بأربع ساعات تقريبًا استدعاني دكتور أمون لمكتبه، قال أنه قلق بشأن فقدان دايسكي لوعيه لعدة ساعات في المعركة، هو محق في ذلك فعلًا وقد شاركته قلقه عليه بشدة، حوَّل دكتور أمون مشاعره القلقة لفعل سريع واتخذ قراره وكان هذا سبب استدعاؤه لي، قال أنه يريد إخضاع دايسكي لفحص جديد على يد طبيب متخصص، وبالمصادفة كان الدكتور هانز في زيارة لمركز الأبحاث في ذلك اليوم، الدكتور هانز هو طبيب ألماني من أصول يابانية، وقد تعرف إليه دكتور أمون منذ سنوات طويلة، هو الآن في طوكيو وقد أقام فيها مركزًا خاصًا للعلاج الإشعاعي الذي تخصص به، أرسل دكتور أمون دعوة لدكتور هانز منذ مدة لزيارة المركز، وكان يخطط لإطلاعه على حالة دايسكي الصحية آملًا أن يجد لديه حلًا لجرح دايسكي الذي وقفنا جميعًا عاجزين أمامه، لبَّى دكتور هانز الدعوة اليوم فقط، كانت مصادفة غير متوقعة أن يتلقى دكتور أمون اتصاله خلال عودتنا من المعركة يخبره بأنه في طريقه إلينا، سألتُ دكتور أمون إن كان قد أطلع دايسكي على الأمر فأجابني بأنه لم يفعل بعد، وأنه كان يخشى رفض دايسكي للفكرة، يعتقد دايسكي بأن عليه أن يتحمل إصابته وتبعاتها بتجلد لأننا في ظروف حرب عصيبة لا تحتمل حتى التفكير بالعلاج أو هدر الساعات في ذلك بينما قد يهاجمنا العدو في أية لحظة، خاصة وأنه يعلم بأن علاجه غير ممكن بشكل فعال في الوقت الحالي، كما قال دكتور أمون من قبل: “الشفاء تمامًا يتطلب بحوثًا على الأرض”، وهذا ما جعل دايسكي يحجم عن الفكرة تمامًا، الحقيقة أنني لم أؤيد موقف دايسكي بهذا الشأن، ويبدو أن دكتور أمون يشاركني الرأي، لهذا اختار دكتور أمون أن يضع دايسكي في موقف المواجهة بحيث لا يملك سوى الموافقة، أرى أن هذا موقف خطير قد يؤزم الأمور لكن ليس باليد حيلة.
قال دكتور أمون أن دكتور هانز قد وصل بالفعل، وطلب مني أن أذهب لدايسكي وأعلمه بأن دكتور أمون يريدنا معًا في استراحة المركز، وبالفعل ذهبتُ إلى الشرفة حيث كان دايسكي وكوجي يتحدثان حول معركة اليوم، وقفت جوار دايسكي صامتة لبعض الوقت ثم أخبرته بهدوء بشأن دكتور أمون، اعتذر دايسكي من كوجي وذهبنا معًا، في الطريق سألني:
ما هي القصة هيكارو؟
دعنا نذهب ونرى!
قلتها بهدوء فتوقف عن السير ونظر لي بعدم يقين وكأنه يحاول أن يقرأ ما يدور بخلدي، هذا أخطر ما بيننا فعلًا، كلانا يستطيع قراءة عيني الآخر بسهولة، قد لا نعرف الحقيقة كاملة لكننا نعرف الكثير في المقابل، حاولتُ أن أشيح بوجهي عنه لكنني عجزت، أسبلتُ جفوني للحظة لكنني كنتُ مضطرة لفتحهما مجددًا، شعرتُ بأني مشتاقة لملامح دايسكي كثيرًا حتى لو كان المقابل هو مواجهتي لعينيه، وهتك كل أسراري أمامهما، نظرتُ إليه وكأن عيني تحاول ضمه إليهما ولم أنبس بحرف، كنتُ قلقة بشأنه فعلًا، ولم أكن قد تجاوزتُ بعد مشاعري ونحن نبحث عنه لساعات طويلة ليلة الأمس، نظر هو لعيني مباشرة وأجابني باقتضاب وشك:
حسنًا، هيا!
وصلنا للاستراحة ودخلنا، هناك وجدنا دكتور أمون جالسًا برفقة ضيف جديد، إنه دكتور هانز طبعًا، رجل أوروبي ذو بشرة بيضاء متوردة، أشقر بعيون زرقاء وملامح صارمة إلى حد كبير، أشار إلينا دكتور أمون:
تعالا من فضلكما.
ثم أشار للدكتور هانز قائلًا:
أقدم لكما دكتور هانز، إنه صديق عزيز تعرفتُ إليه منذ سنوات، طبيب ألماني متخصص في العلاج الإشعاعي، وجهتُ له دعوة لزيارة مركزنا عندما عرفتُ بوجوده في طوكيو، وقد أتى اليوم فقط.
ثم أشار إلينا موجهًا حديثه لضيفنا:
دكتور هانز، هذا ابني دايسكي، والفتاة هي صديقته هيكارو ماكيبا وابنة شريكي في مزرعة البتول الأبيض كما أخبرتك.
تبادلنا التحية وجلسنا جميعًا، بدت ملامح دايسكي متوترة وحذرة وكأنه يتوقع ما سيؤول إليه الحديث على نحو ما، أخيرًا حدث ما كان يخشاه دايسكي، قال دكتور أمون:
دايسكي، أنا قلق بشأنك يا بني بعد ما حدث صباح اليوم، أنت تفهم ما أعني، لهذا رأيت أنه من الأفضل أن تخضع لفحص طبيب مختص، ولقد رحب دكتور هانز بذلك!
أومأ دكتور هانز برأسه مؤيدًا وابتسم بهدوء، في حين عقد دايسكي حاجبيه وهو يجيب بنبرة جافة:
كما تريد يا أبي!
بدا دايسكي متضايقًا إلى حد كبير لكنه وافق دكتور أمون كما توقع الأخير منه، تنفستُ الصعداء رغم أني تفاجأت برد فعل دايسكي المقتضب والمتحفظ، نهض دكتور أمون وهو يقول:
حسنًا سنسبقكما – دكتور هانز وأنا – إلى المركز الطبي، لا تتأخرا!
قالها وانصرف الاثنان فورًا، بقي دايسكي صامتًا مقطب الجبين لبضع دقائق، لم أعرف ما أقول خلالها، همستُ باسمه لكنه نهض بحزم:
هيا بنا هيكارو!
تبعته بصمت للمركز الطبي، هناك طلب دكتور هانز من دايسكي أن ينزع سترته وقميصه وأن يتمدد على سرير الفحص، بدأ يفحص معدلاته الحيوية، ثم راح يقيس الإشعاعات الصادرة من الجرح، استخدم جهازًا خاصًا به لقياس درجة الالتهاب وعمقه، في النهاية سحب دكتور هانز عينة من أنسجة الجرح لدراستها وتوليت أنا مهمة تضميد ذراع دايسكي.
أخبرنا دكتور هانز بأن ذراع دايسكي ملتهبة على نحو حاد وعميق كذلك، وأنه لهذا السبب لم يتحمل الألم في معركة اليوم، قال أننا بحاجة لمضاد للالتهاب بجرعات كبيرة نوعًا ولمدة شهر كامل على الأقل لمساعدة أنسجة جسده على التعافي، أخبرنا أن هذا لا يعني شفاء الجرح ولكنه سيحسن الأمر كثيرًا، سألني إن كان بإمكاني حقن دايسكي بالدواء المطلوب وريديًا فأجبته بالإيجاب، قال أن هذه المهمة ستقع على عاتقي وعلي أن أكون منتبهة لكل جرعة، أخبر دكتور أمون أنه سيبذل قصارى جهده لفحص الأنسجة وسيخبره إن توصل لعلاج أو ما شابه.
كان دايسكي يستمع لما يُقال بنفاذ صبر، وما إن انتهيتُ من تضميد جرحه حتى نهض من فراشه وارتدى قميصه، شكر دكتور هانز باقتضاب واندفع مغادرًا في صمت، حاولتُ مناداته لكنه كان قد غادر المكان، التفتَ إلي دكتور أمون قائلًا بحنان أبوي:
الحقي به الآن وسنكمل حديثنا فيما بعد.
خرجتُ من الغرفة بسرعة، كان لا يزال هو في نهاية الممر فأسرعتُ إليه:
دايسكي انتظر رجاءً!
توقف وأجابني دون أن ينظر إلي:
ما الأمر هيكارو؟
دعنا نتحدث قليلًا من فضلك.
أمسكتُ بيده أقوده لغرفة قريبة فاستجاب لي، وقف بصمت يرتدي سترته فاقتربتُ منه وأخذتُ أحكم سترته نيابة عنه فلم يمانع، سألته:
أنتَ منزعج؟
نعم!
تعرف أن دكتور أمون قلق بشأنك.
كنتِ تعرفين بالأمر أيضًا ولم تخبريني شيئًا.
أنا آسفة دايسكي.. لكن..
قاطعني بعصبية:
هذا الأمر يخصني هيكارو! لا يتوجب على غيري الانشغال به.
هنا لم أتمالك أعصابي، شعرتُ أنه يقصينا جميعًا من حوله بقسوة، تألمتُ من رده في ساحة المعركة ولم أعد قادرة على تحمل ما يقوله الآن! هذا ليس عدلًا دايسكي! دفعته عني دون قصد وتراجعت خطوة للوراء وأنا أجيبه بانفعال:
تظن بأن هذا الجرح يمتد في جسدك فقط، أنت مخطئ دايسكي! هذا الجرح يمتد في روحي وفي قلب دكتور أمون أيضًا، كلانا قلق بشأنك، لم يرغب أحدنا بإزعاجك لكن …
لم أستطع إكمال كلامي، كنتُ منفعلة بشدة، دفنتُ وجهي بين كفي واستدرتُ وقد أوليته ظهري، سالت دموعي بصمت تحرق وجنتي، مضت دقائق ثقيلة من الصمت لم أسمع فيها غير أنفاسنا في الغرفة حتى شعرتُ به يمسك بذراعي وهو يقول بهدوء:
أنا آسف هيكارو! لم أكن أعني ذلك، لكن.. لا أريد أن يعاني أحدكما بسببي!
استدرت إليه وأنا أجيبه:
كف عن هذا الحديث أرجوك! أنتَ تطلب المستحيل!
حسنًا هيكارو!
قالها مبتسمًا فعرفتُ أنه يحاول التراجع عما يحدث، مد أنامله يمسح دموعي بلطف وهو يستطرد:
لم أكن أعرف أنكِ تجيدين الحقن!
التحقتُ بدورة للتمريض منذ سنة.
لم تخبريني عنها شيئًا.
لم يكن هناك داعٍ للحديث عنها، نحن في حرب دايسكي، كان هذا أقل ما توجب علي فعله وقتها.
كنتُ صادقة حين قلتها، فلقد كان هذا أقصى ما يمكنني فعله فعلًا حينئذٍ؛ لكنه لم يكن كافيًا أو مرضيًا لي، ولم أكن أعرف أني سأكون ممتنة لتعلم شيء كهذا بالقدر الذي أشعر به اليوم.
قطع أفكاري صوته:
علينا أن نختار وقتًا مناسبًا من كل يوم.
أومأتُ برأسي موافقة وفلتُ:
الثانية عشر عند منتصف الليل، ما رأيك؟ ستكون نائمًا ولن تشعر بشيء.
هذا يعني أنكِ ستستيقظين لأجلي كل ليلة؟!
هززتُ رأسي نفيًا وأنا أجيبه:
أسهر عادة لمثل هذا الوقت، لدي الكثير لأفعله كل ليلة.. اطمئن!
حسنًا موافق..
قالها باستسلام ثم تنهد بعمق:
دعينا نذهب للشرفة الآن، أنا بحاجة لاستنشاق الهواء.
هيا!
كنتُ مرتاحة لتقبل دايسكي للأمر أخيرًا، لم أكذب عليه حين أخبرته بأني أسهر كل ليلة، صحيح لا أسهر لمنتصف الليل تحديدًا؛ لكني أمضي وقتًا طويلًا كل ليلة في القراءة، وفي تدوين مذكراتي التي لم أعد قادرة على الفكاك منها، لن أسهر لأجل دايسكي هذه الأيام فقط؛ فالحقيقة أني سهرت معه ولأجله لأشهر طويلة، منذ أن دخل دايسكي مذكراتي حتى بات يشاركني سهراتي دون أن يعلم، وحتى لو سهرتُ لأجله هذه الأيام فلن أكون مستاءة، كل ما أتمناه أن تتحسن أحواله وأن تخف آلامه ولو قليلًا، سأصلي لأجله كل ليلة، ولن أغفو قبل منتصف الليل، يكفيني أن هذا الوقت بالذات سيحقق له الراحة وسيحد من انزعاجه وتوتره، بقي علي أن أُعلِم أبي بالأمر حتى لا يثير الأمر ريبته على نحو أو آخر، يُحِب أبي دايسكي وأنا واثقة أن معرفته بالأمر ستكون لصالح كلينا.
لا أصدق أننا قد تجاوزنا منتصف الليل منذ ساعة كاملة، وها أنا لا زلت مستيقظة فعلًا، لكن بين تلك الساعة التي كنا نتحدث فيها في مركز الأبحاث وبين تلك الدقائق التي أكتب فيها الآن ساعات طويلة، طويلة بغزارة ما فيها، وطويلة بقدر ما أحدثته من تغيير في حياتنا.
فحين توجهنا للشرفة – دايسكي وأنا – وجدنا كوجي ما يزال هناك، بدا شاردًا، بادرته بالسؤال:
ما بك يا كوجي؟
أجابني وهو لا يزال ينظر للأفق:
تعلمان لو كان معنا صديق وأرسلناه بالسلاح الثاقب في وقت مبكر لتمكننا من القضاء على الوحش بسرعة.
استدار مواجهًا لنا في منتصف جملته، وقبل أن يجيبه أحدنا سمعناه يهتف: “من أنتِ؟” التفتنا فرأينا فتاة تسقط على الأرض ثم تنهض بسرعة وتلوح بسيف قصير في يدها، كانت جميلة وصغيرة في العمر رغم شراستها وإصرارها، لمحتُ على صدرها قلادة جعلتني أتسمر في مكاني، أعرف تلك القلادة جيدًا وقد بقيت بحوزتي لساعات من قبل، إنها قلادة دايسكي الفليدية! عجبًا!!
يبدو أن دايسكي لمح القلادة أيضًا، فقد اتجه بشجاعة نحو الفتاة الغاضبة وهو يكرر سؤاله لها: “من أنتِ يا فتاة؟”
ولدهشة الكل فقد أجابته هي بتحدٍ وشراسة وبجملة عير متوقعة: “أنا السيدة ماريا فليد ولقد جئتُ إلى هنا لأسترجع جريندايزر” تملكتني دهشة لا حدود لها، رأيت دايسكي مشدوهًا يردد اسم ماريا، التفتُ لكوجي فبدا عليه عدم الفهم، يبدو أن دايسكي لم يذكر له شيئًا عن شقيقته الصغرى.
في تلك الثواني المعدودة أقدمت ماريا على فعل متهور مستغلة ذهول دايسكي، لقد شقت قميصه بطرف سيفها في محاولة لقتله أو إبعاده عنها في أفضل الظروف، كان المشهد مروعًا بالنسبة لي، لا أحتمل هذا الخطر الذي يهدد حياة دايسكي من كل صوب، لا أحتمله أبدًا!
عيناي تؤلماني من البكاء حقًا لكن لا أستطيع تمالك نفسي، لا بد وأن أكتب، سأجن إن ذهبتُ للنوم وأنا مثقلة بكل تلك المشاعر والأفكار، لم أتصور يومًا أن تنقلب حياتي الهادئة والرتيبة لما أعايشه اليوم، لا تتشابه الساعات وليس الأيام ولا شيء مضمون أبدًا! ماريا التي بدا ظهورها كالحلم كادت أن تقتل دايسكي وهي لا تعرفه أو تميزه، لكن رحمة الله كانت واسعة حقًا، لقد انشق قميص دايسكي بعنف إثر ضربة ماريا المنفعلة، وأصاب سيفها قلادته التي لا تفارقه، طارت القلادة وسقطت أرضًا بين قدمي دايسكي، حينها كانت الدهشة من نصيب ماريا، رأت القلادة وانحنت تلتقطها، قربتها من صدرها ووجدت أنها تحمل قلادة مماثلة لها.
وقف دايسكي أمامها مستسلمًا وهو يعرفها بنفسه: “أنا دوق فليد يا ماريا”، يا إلهي لا أستطيع إلا أن أذرف الدموع كما ذرفتها من قبل وأنا أشاهد هذا اللقاء المستحيل، كانت ماريا تردد: “أخي.. أنتَ حي يا أخي”، بدت غير مصدقة لما تراه أو تسمعه، في حبن تهدج صوت دايسكي وهو يضمها إلى صدره بحنان ويعتذر لها عما فات ويعدها بالبقاء إلى جانبها.
وصل دكتور أمون في تلك اللحظة، دُهش مما رآى، كان دايسكي يتأمل ملامح ماريا بحب وسعادة وشوق وكنت أنا أبكي من الفرحة والتأثر، كان كوجي أقدرنا على الكلام ورغم ذلك لم يستطع أن يقص على دكتور أمون ما حدث، اختصر كل شيء بقوله: “يمكنك أن تسأل الشمس الغاربة”، كانت الشمس فعلًا في طريقها للمغيب، وكانت تضع نهاية لقصة فراق طويلة، وتعد شقيقين بحياة أفضل معًا.
انسحبنا جميعًا للداخل بهدوء تاركين دايسكي وماريا معًا، لم ينتبه أي منهما لحركتنا وكأنهما يحلقان في عالم آخر، عدنا للمركز واكتشفتُ أن أحدًا لم يسمع بماريا قبلًا باستثنائي، أشعرني ذلك بالكثير من السعادة والدفء، لقد كنتُ الوحيدة التي تعرف المزيد عن حياة دايسكي وماضيه في فليد، وبينما نحن نتحدث وصل دايسكي وماريا، راح دايسكي يعرفنا لماريا، دُهِشَتْ حين وصف لها دكتور أمون بكلمة “أبي” ولهذا وعدها بأنه سيشرح لها كل شيء بالتفصيل، وصفني لها بـ “صديقتي العزيزة”، كم كان هذا التعبير جميلًا وخاصًا! عرفها بكوجي ووصفه بأنه صديق مخلص وشجاع، رحبنا جميعًا بماريا، وخطر لي أن أعد حفل استقبال لها الليلة في المزرعة، حدث وصولها الغير متوقع والتقاء دايسكي بها بعد تلك السنين يستحقان الاحتفال فعلًا، كما أن هذا سيكون تعويضًا مناسبًا لأبي وجورو أيضًا عما حدث بالأمس، نظرتُ للساعة فوجدتُ أن لدي متسعًا من الوقت، لهذا ناديتُ دايسكي وأخبرته بالأمر، كنا نقف في الشرفة منفردين، ربَّتَ على ذراعي بامتنان وهو يشكرني، قال أنه يريد أن يسألني معروفًا فبادرته قائلة: “ماريا ستشاركني غرفتي دايسكي، لا تقلق بشأن هذا”، ابتسم لي وعاد يشكرني مجددًا، فقد كان هذا بالضبط ما يود قوله لي، مد يده وناولني قلادته قائلًا:
هل يمكنكِ تولي أمرها؟
دعها لي.
دسستُ القلادة في جيبي ودخلنا للمركز، ودعتُ دايسكي وطلبتُ من كوجي مرافقتي للمزرعة، التفتُ لدايسكي قبل انصرافي أذكره بموعدنا: “التاسعة دايسكي لا تتأخرا” وانصرفنا.
وصلتُ لمزرعة البتول الأبيض قرابة السابعة مساء، التقاني أبي وجورو بمزيج من القلق والإحباط بسبب ما حدث بالأمس، بادرتهما باعتذار لطيف وأخبرتهما عن ماريا فتبدل مزاجهما العام سريعًا، أعلمتُ الجميع بما خططتُ له بشأن الحفل وقد لاقت الفكرة استحسان الكل، لهذا تعاونا جميعًا لإنجاز المطلوب، تولى كوجي ترتيب مكان مناسب للجلوس في الخارج، زين جورو مدخل المزرعة، أشرف أبي على التجهيزات كعادته واختار الموسيقى بنفسه، وتوليتُ أنا تحضير أسياخ اللحم للشواء، ثم صعدتُ لغرفتي لتجهيزها لاستقبال ضيفتنا الجديدة، لحسن الحظ أني لم أفرط في فراش جورو الذي بقي في غرفتي منذ أن كان جورو يشاركني إياها، الليلة ستشاركني أخت صغرى نفس الغرفة، رتبت الفراش، وأخرجت بعض الثياب من خزانتي ووضعتها في علبة أنيقة عليه، حاولت انتقاء ثياب بمقاس أصغر، فقد كانت ماريا تصغرني عمرًا وقوامًا.
انتهينا من الاستعدادات قرابة التاسعة، أمضيت ما بقي من وقت في غرفتي، كنت بحاجة لإبدال ثيابي وتمشيط شعري، وكنت بحاجة أكثر لبعض الهدوء بعد كل تلك العواصف، أخرجتُ قلادة دايسكي من جيبي وجلستُ على طرف فراشي ممسكة بها، جعلتُ أتأملها ومددتُ أصابعي أتحسسها برفق، ثم بدأتُ في محاولة إصلاحها، لم يكن الأمر عسيرًا جدًا وبعد بضع دقائق كنتُ قد أنتهيتُ من عملي، عدتُ أدسها في جببي وغادرت غرفتي.
أخيرًا وصل دايسكي وماريا والدكتور أمون، كانت الساعة قد جاوزت التاسعة بحوالي خمس عشرة دقيقة، لا بأس توقيت جيد، بدت ماريا متفاجئة بالحفل وببدو أن دايسكي لم يخبرها بالأمر، خلال الحفل رأيتُ انسجام كوجي وماريا على نحو غريب، كيف استطاعا التناغم معًا بتلك السرعة لا أعرف؟! نظرتُ لدايسكي من بعيد فلم يبدُ لي على ما يرام، التفطتُ كوبين من العصير وتوجهتُ إليه، ناولته كوب العصير بيميني فالتقطه بهدوء، أبدلتُ موضع الكوب الثاني من يساري ليميني وطوقتُ ظهره بذراعي الأيسر وأنا أسأله:
نذهب إلى الداخل؟
أومأ برأسه إيجابًا، دخلنا بالفعل إلى غرفة المعيشة وجلسنا متجاورين على الأريكة نرتشف العصير بصمت، قطعتُ الصمت الذي طال بيننا لقرابة الخمس دقائق بسؤالي:
أنتَ على ما يرام؟
أومأ برأسه دون أن يقول شيئًا، فعدتُ أسأله:
تبدو منشغلًا بأمر ما؟
التفت إلي وظل صامتًا لبرهة، ثم تحدث أخيرًا وعيناه مركزتان على عيني:
لا أعرف ماذا يتوجب علي أن أفعل هيكارو؟
تعني ماريا؟
أشعر وكأني لا أعرفها مطلقًا.
هذا صحيح دايسكي، فقد تركتها طفلة والتقيتها وهي شابة.
ربتُّ على كفه وأنا أستطرد:
لا تقلق، ستسير الأمور على ما يرام، أنتَ تحتاج فقط لبعض الوقت حتى تعتاد على وجود أخت صغرى بحياتك.
أعتقد أنها ستكون بحاجة لأخت، هل تظنين ذلك؟
بالتأكيد دايسكي، لماريا أخت فلا تقلق أبدًا.
ابتسم بامتنان فشعرت بالارتياح يغمر قلبي، عدتُ أحدثه:
هل روت لك شيئًا عن حياتها على الأرض؟
ليس كثيرًا.
ستعرف كل شيء قريبًا، بادرها بالحديث عن نفسك.
فكرة حسنة، سأفعل!
بقينا تتحدث معًا حتى دخل كوجي وماريا الغرفة، سألنا كوجي إن كنا جائعين أم لا، قال أن العشاء جاهز والكل بانتظارنا، فنهضنا وتبعناهما للخارج.
أكملنا حفلنا، تناولنا اللحم المشوي، رقصنا على أنغام الموسيقى، ولم يخلُ الحفل من نوادر أبي وحديثه عن مغامراته في الغرب كالعادة، أحَبَّ أبي ماريا، وكذلك جورو الذي جذبته شخصيتها المرحة والمنطلقة، قرابة الحادية عشرة والنصف صعدنا جميعًا لغرفنا، قضى دايسكي ليلته في بيت المزرعة وشاركتني ماريا غرفتي كما كان مخططًا من قبل، رغبتُ بالتحدث لماريا لبعض الوقت لكن كلتانا كانت مرهقة للغاية، استسلمت ماريا للنوم، وتوجهتُ أنا لغرفة أبي أخبره بشأن دايسكي والمهمة التي بتُّ مكلفة بها لمدة شهر مقبل، حزن أبي لأجل دايسكي كثيرًا وأوصاني بالعناية به كما أشار الطبيب، لهذا شكرته وتوجهت لغرفة دايسكي قبيل الثانية عشرة بدقائق.
طرقتُ الباب بهدوء ودخلتُ، كان لا يزال مستيقظًا في فراشه والمصباح مضاء إلى جواره:
ألم تغفو بعد؟؟
هز رأسه نفيًا وبدا شاردًا، جلستُ على طرف فراشه وقد مددتُ يدي للدرج المجاور أفتحه وأضع فيه الأدوات التي أعطاني إياها دكتور أمون في نهاية الحفل: أربع زجاجات من الدواء وثلاثين محقنًا فارغًا:
هون عليك يا عزيزي.
هل نامت ماريا؟
نعم، كانت متعبة.
بدأت بتعبئة المحقن وسمعته يستطرد حديثه:
كانت تعيش مع رجل عجوز من فليد، كانت تظن أنه جدها حتى أخبرها البارحة بالحقيقة.
أين هو الآن؟
مات صباح اليوم!
توقفتُ وأغمضتُ عيني بخشوع للحظات، ثم بدأتُ أستعد لغرس المحقن في ذراعه، أغمض دايسكي عينيه وهو يردف:
أخبرها أننا جميعًا قد قُتلنا: أبي، أمي وأنا، لقد رآى جريندايزر وظن أن من يقوده الآن هو أحد رجال فيجا.
لهذا كانت ماريا تحاول مهاجمتنا؟
صحيح.
كنتُ قد انتهيتُ، فربتُّ على كفه قائلة:
حاول أن تنام الآن، كان اليوم طويلًا، غدًا نكمل حديثنا.
أومأ لي برأسه موافقًا، فأخرجتُ القلادة من جيبي ووضعتها على الطاولة المجاورة لفراشه، شكرني على إصلاحها فابتسمتُ له بهدوء و أغلقتُ المصباح ونهضتُ متوجهة للباب:
تصبح على خير.
تصبحين على خير.
غادرتُ الغرفة وعدتُ لغرفتي، استبدلتُ ثيابي وخرجتُ للشرفة وها أنا هنا منذ ساعة أو يزيد، أشرد، أكتب، أبكي وأستجمع نفسي، تأخر الوقت كثيرًا وأنا متعبة حد الانهيار، إلى الغد!
اترك تعليقًا