الحلقة الحادية والعشرون – رأيته بعيني!
أشعر بإرهاق شديد فأنا لم أنم ليلة أمس وعملت على مدى يومين كاملين، لكن ليس هذا السبب الذي يجعلني أشعر بهذا الإرهاق، ليس العمل مجهدًا لهذا الحد إذا قورن بالإجهاد النفسي والقلق والخوف، وهذا ما عايشته نهار أمس وليلته.
لا يزال الجو باردًا رغم الأعشاب الخضراء التي بدأت تظهر هنا وهناك، أما الجبال فلا زالت قممها مكسوة بالثلج، هذه الأسابيع من أخطر أسابيع السنة، يجب أن تتوقع ذوبان الجليد وانهياره فوق رأسك في أي لحظة طالما تمر بالقرب من جبل أو شجرة مرتفعة، كنا نعمل صباح الأمس كالمعتاد، وكان يوم عطلة أسبوعية، لهذا كنت سعيدة بوجودنا معًا – دايسكي وأنا – طوال النهار، فكرت فيما يمكن أن نفعله مساءً بعد تناول العشاء، خطرت ببالي أشياء كثيرة، لكن الوقت لا يزال مبكرًا؛ لذا كان علي أن أركز على عملي، وبينما كنت أطعم الأرانب سمعت كوجي ينادي على أبي ويصرخ بصوت عالٍ: “تارو يكاد يموت!”، خفق قلبي بقوة، فأنا أحب تارو كثيرًا وله ذكريات دافئة بقلبي.
ولد تارو في ليلة صعبة، سهرنا خلالها في الإسطبل بجانب أمه ننتظر إتمام ولادتها، وخرج تارو للدنيا مع شروق الشمس، كنا ننظر إليه بفرح وأمه تلعقه، وسمعت دايسكي يقول لي بومها: “ سيكون هذا المهر أفضل حصان في المستقبل” لقد أحب دايسكي تارو منذ ولادته، أسميناه سويًا وزادت عنايتنا به بعد أن فقد والدته وصار وحيدًا بين الأحصنة وهو لا يزال صغيرًا، كثيرًا ما كان تارو يركض نحو فرسة في المزرعة فتنهره بقوة ويسقط على الأرض، كنا نشعر وقتها وكأن تارو يبكي، لهذا كان سماعي لجملة كوجي مفزعًا.
ركضت نحو الإسطبل ورأيت تارو على الأرض يصهل بألم وقد تعرق جسده بشكل غريب، كان دايسكي جالسًا بالقرب منه يحتضن رأسه ويربت عليها ويهمس له: “لا تقلق تارو” كان دايسكي بحدثه كما لو كان يحدث صديقًا له، اقتربت منه وسألته بجزع عما يحدث فأخبرني أنه لا يعرف الكثير لكن حرارة تارو مرتفعة جدًا، حضر أبي في تلك اللحظة وبدأ بفحص تارو، يعرف أبي الكثير عن الخيول وأمراضها، فهو مُجاز كبيطري فعلًا، قال أبي أن تارو مصاب بنزلة صدرية وأنه إذا تُرك على حاله فسوف يموت، والطريقة الوحيدة لإنقاذه هي حقنة بالبنسلين الذي لم يكن متوفرًا لدينا وقتها للأسف.
ما إن انتهى أبي من حديثه حتى نهض دايسكي فورًا وتعهد بإحضار البنسلين من المدينة القريبة، وطلب منا العناية بتارو ريثما يعود، أكدت له أننا سنفعل ذلك وكنت أشعر بتوتر دايسكي وقلقه البالغ، ذهب هو وبقيت أنا في الإسطبل، أحضرت غطاء لتارو وبقيت إلى جانبه، وأخذت أجفف عرقه من وقت لآخر، كنت أحدثه أيضًا وأطمئنه بأنه سيكون بخير وأن دايسكي سيعود قريبًا بالدواء.
في تلك الأثناء غادر كوجي، لم أهتم لمغادرته وقتها، ولا أعرف إن كان كوجي قد رآى صحونًا فضائية أم لا، فأبي أيضًا كان متوترًا ولم يصعد لبرجه وظل واقفًا بالقرب من مدخل المزرعة يرقب عودة دايسكي وينظر إلى الطريق بمنظاره، وكان جورو ينتقل بيني وبين أبي يطمئن على تارو ويخبرني بما بجري في الخارج، وفي إحدى المرات أخبرني أن الدكتور أمون على الهاتف وأنه يريد محادثتي، فذهبت إليه بعد أن طلبت من جورو أن ينادي أبي للبقاء بجانب تارو، كنا متوترين جدًا وزاد توترنا حين أخبرني دكتور أمون بأنه اضطر لاستدعاء دايسكي لأمر طارئ وأنه لن يتمكن من إحضار الدواء الآن وطلب مني أن أحاول الإبقاء على حياة تارو قدر الإمكان، انهرت وقتها وانهمرت دموعي وشعرت بأن عمل دايسكي في مركز الأبحاث وانشغاله عنا أمر صعب التحمل، كنت في أشد الحاجة إلى وجوده ومساعدته، وتارو أيضًا مصيره بات معلقًا به، لقد أحببنا تارو واعتنينا به معًا فكيف يتخلى دايسكي عن تارو الآن؟ وأي أمر طارئ يدفعه لذلك؟ وجدت نفسي أردد بألم: “دايسكي، ليس عدلًا، عملك ليس عدلًا!” أرددها وأبكي من القهر والعجز والخوف وقلة الحيلة.
مع دموعي الغزيرة وانهياري المفاجئ حاول أبي أن يذهب لإحضار الدواء نيابة عن دايسكي وكوجي اللذان غادرا المكان دون إنذار، يستطيع أبي قيادة السيارة ولكنه يجد صعوبة بالغة في ذلك خاصة مع قصر قامته، لهذا يفضل ركوب الخيل، إلا أن المدينة بعيدة ولا بمكن الذهاب إليها بالحصان الآن، لهذا ذهب أبي إلى مركز الأبحاث لاستعارة السيارة الجيب والذهاب بها.
حل الليل وعاد أبي منهارًا ويائسًا، قال أنه لم بتمكن من الوصول للمدينة وأن انهيارًا ثلجيًا قد قطع الطريق، كان تارو على مشارف الموت وكنت أحاول إسعافه بيأس، ولدهشتي رأيت جورو يركض بجوار أبي وبيده البنسلين، بعدها بلحظات وصل دايسكي، دخل الإسطبل وكان بحالة سيئة.. سيئة جدًا، بدا منهكًا، كان بترنح في مشيته وكأن ساقاه لا تقويان على حمله، عيناه مرهقتان وعلى ملامحه فزع غريب، أسرع نحو تارو وسقط على ركبتيه جواري، حاولت أن اطمئنه بأن تارو بخير وأنه قوي وسيتمكن من تجاوز الأزمة، لكنه لم بكن يجيب، كانت عيناه مركزتان على تارو فقط، مظهر دايسكي أزال غضبي السابق وإن بقيت أسئلتي الحائرة: أين كان دايسكي خلال النهار؟ ولماذا يبدو بهذه الحالة السيئة؟
بدأ تارو يتحسن وهدأ أخيرًا، حمدًا لله! كانت أوقات صعبة، طلبت من دايسكي أن يذهب إلى غرفته ليحظى ببعض الراحة ووعدته بالبقاء مع تارو حتى الصباح لكنه رفض واختار أن يمضي ليلته بالقرب من تارو، مع اقتراب الصباح كان تارو قد تحسن كثيرًا ودايسكي نام دون أن يشعر جوار تارو، جلست أتأمل دايسكي النائم في الإسطبل، كانت ملامحة المرهقة قد استراحت أخيرًا وبدت وادعة كثيرًا، لم أر ملامح دايسكي هكذا منذ عرفته، لقد كان دايسكي يخبئ داخله قلبًا ينبض بالحب والبراءة.
\
صباح اليوم عرفت من دايسكي أنه قد أحضر البنسلين بالفعل ولكن انهيار الثلج المفاجئ أدى لقطع الطريق وتحطم البنسلين، وأنه تلقى نداء عاجلًا من دكتور أمون واضطر للعودة لمركز الأبحاث ركضًا لأن دراجته قد علقت بالجليد، وما إن أنهى مهمته حتى عاد للمدينة لإحضار الدواء، عرفت أنه ركض لمسافات طويلة جدًا لهذا كان مرهقًا، اندهشت من قدرته على فعل ذلك، فقال لي أن صورة تارو كانت حاضرة أمام عينيه تمده بالقوة.
لكن تارو نجا أخيرًا! شكرًا دايسكي، وعلي أنا أن أتعلم قيادة السيارة فلن يستمر الوضع هكذا، أحتاج لقدرات إضافية حتى أتمكن من أداء دوري بنجاح.
اترك تعليقًا