الحلقة السادسة والأربعون – شكرًا دايسكي!
أربع وعشرون ساعة فقط في اليوم الواحد! هل هذه الساعات كافية لفتاة مثلي الآن؟ لقد بدت الأشهر القليلة الماضية كالسنوات في غزارة أحداثها وقدر ما تعلمته فيها، حتى أنني اليوم أجد نفسي بحاجة للتعرف من جديد على الفتاة التي صرت عليها، فقد تغيرت حياتي بكل ما فيها: شعوري بنفسي، معلوماتي، قدراتي، مهاراتي، مخاوفي، إدراكي، حتى مظهري ومزاجي العام، لكن الحقيقتان المؤكدتان هما أنني سعيدة ومرهقة جدًا، سعيدة بما آلت إليه حياتي، سعيدة بدوري الجديد وبأني قد غادرت مقاعد المشاهدين للأبد، لن أرى العدو يضرب المدن والقرى في الأخبار ويمتقع وجهي فزعًا وأكتفي بصلاتي لألا يصيبنا مكروه، لن أقف مكتوفة الأيدي ومزرعتنا تُقصف وأبي وجورو يواجهان الموت، لن أبقى ساكنة في بيتنا أنتظر عودة دايسكي من ساحة حرب لا أعلم إن كان سيعود منها سالمًا أو إن كان سيعود من الأساس، أنا اليوم أعايش هذه الأحداث وأشارك فيها وأحاول صدها قدر استطاعتي، هذا ما كان يشعرني بالسعادة والرضا، ومع ذلك فأنا حقًا مرهقة للغاية، لقد اقتربنا من إنهاء تلك القائمة التي كتبها دايسكي بخط يده في أول يوم صحبني فيه للمركز كعضو في فريق جريندايزر، بدت لي قائمة طويلة ولا نهاية لها، علي أن أقرأ عن كذا،، وأتدرب على كذا، وأُلِم بكذا، وكانت كذا وكذا تتكرر إلى ما لا نهاية، اليوم نحن نقترب من النهاية التي لم أكن أتخيل وجودها أخيرًا! ومع ذلك فأنا أعرف أن درسًا كدرس الفضاء لا نهاية له، وأننا نحضره جميعًا معًا ولأجل غير مسمى.
بدأت ألاحظ التغيرات من حولي من وقت لآخر، أو ربما هي كانت كذلك بالفعل وأنا التي بت أنتبه لها، كوجي كان بطل ملاحظاتي في الفترة الأخيرة، لاحظت حدة غير مفهومة في تصرفاته تجاه دايسكي، شيء مشابه لما كان عليه الحال فور وصول كوجي لمزرعتنا، لم أنسَ ذلك اليوم وكوجي يمسك بسترة دايسكي غاضبًا لأن دايسكي رفض خروجه وحده للبحث عن النيزك والتحقق منه مجددًا، لاحظت شيئًا يحدث من وراء الستار لا أفهمه ولا أراه بوضوح، لقد بدت تصرفات كوجي فعلًا غريبة، لكن المؤكد أن كوجي قد صار محبوبًا في القرية المجاورة لنا، محبوبًا ومعروفًا على نحو استثنائي، ساعده على ذلك ما يتمتع به من روح اجتماعية عالية، إلى جانب مرحه واندفاعه، كما أن مشاركة كوجي في الحرب ضد قوات فيجا كانت بارزة دومًا في الأخبار، وعلى العكس من ذلك، ظل دايسكي وجريتدايزر أشبه بالسلاح السري الذي لا يعرف عنه أحد إلا ما قل وندر.
منذ فترة ليست ببعيدة كنا واقفين دايسكي وأنا في ساحة مركز الأبحاث، كان من المفترض أن نعود للبيت ولكننا وقفنا جوار الدراجة نناقش ما سنفعله في الغد، كان دايسكي يخطط لتدريبات مشتركة لنا تحت الماء لزيادة كفاءة تواصلنا وعملنا المشترك في المعارك البحرية، حيث نحن دومًا بحاجة لاختصار وقت التواصل والنقاش لما يقارب الصفر، وبينما نحن نتحدث رأيت جورو يدخل ساحة المركز، ناديتُ عليه وسألته بقلق:
ماذا حدث جورو؟ هل أبي بخير؟
نعم يا هيكارو.
أجابني ببساطة وهو يقترب ببطء، شجعه دايسكي على التقدم بقوله “جورو، تعال هيا!”، يحب جورو دايسكي كثيرًا وحتى لو بدت تصرفات دايسكي بسيطة وتلقائية فإنها تدخل البهجة على روحه الصغيرة، ابتسمَ بسعادة وركض نحونا في تحول مفاجئ لمشيته البطيئة منذ ثوانٍ، وقف أمامنا ونظر إلي:
هيكارو، هل سنذهب للاحتفال غدًا في القرية؟
أجبت جورو بتلقائية وقد مددت كفي أربت بها على كتفه:
لا أعتقد أن بإمكاننا الذهاب جورو، فلدينا عمل كثير هنا.. أنا آسفة لفول ذلك!
أطرق برأسه فاستدركت حديثي:
ألن يذهب أبي؟
قال أنه لا يريد الذهاب.
لم أكن أعرف ما يتوجب علي فعله في ذلك الوقت، أريد إسعاد جورو ويؤلمني خذلانه، وعلي واجب لا بد أن أؤديه، ماذا علي أن أفعل؟
تدخل دايسكي في تلك اللحظة، التفتَ إلي قائلًا:
لا بأس هيكارو، لنذهب، يمكننا تأجيل مناوراتنا لبعد غد، والقرية ليست بعيدة، يمكننا العودة إلى هنا فورًا إن حدث شيء.
كنت ممتنة لدايسكي كثيرًا، لقد أزاح عبئًا ثقيلًا عن كاهلي حقًا، ورغم أنني لم أكن في مزاح يسمح لي بالتواجد في احتفال مليء بالصخب إلا أنني كنت راغبة فعلًا في إسعاد جورو، قاطعني جورو وأخرجني من شرودي بجملته:
كوجي سيذهب أيضًا، أخبرني بأنه سيشارك في الاحتفال ولن يكتفي بحضوره!
تبادلنا دايسكي وأنا نظرة دهشة سريعة، فكوجي لم يخبر أحدنا بالأمر رغم قرب الاحتفال، لا زال كوجي بطل ملاحظاتي في الفترة الأخيرة كما ذكرت.
صباح اليوم التالي ذهبنا للقرية بالخيول، امتطينا جوادين ومهر مناسب لجورو، كانت أجواء القرية مبهجة والناس في كل مكان، يلعبون، يتسابقون، يغنون، وكان كوجي مشاركًا في حمل الدمى الخشبية كما ذكر جورو فعلًا، وقفنا نراقب كوجي وأخذ جورو يشجعه بحرارة والسعادة بادية على وجهه.
كان من الصعب علي ملاحقة جورو من مكان لآخر، فقد بدا متحمسًا ومفعمًا بالطاقة، انسحب دايسكي بعد وقت قصير وأخبرني أنه سينتظرنا في مكان أكثر هدوءًا وكم وددت لو فعلت مثله وقتها! لكني كنت منشغلة بجورو، كوني الأخت الكبرى والوحيدة لطفل بعمر جورو ليس بالأمر السهل، وعلي تحمل المسؤولية، عرفت إلى أين سيذهب دايسكي وأمسكت بيد جورو وانطلقنا.
بعد ساعة تقريبًا كان جورو قد هدأ، فعرضت عليه أن نذهب إلى حيث دايسكي ومن ثم نتناول طعامنا فوافق، لكني لم أجد دايسكي في المكان الذي أخبرني به، واستغرقت طويلًا حتى وجدته.
كان على ضفة النهر الأخرى يرتدي قناع رجل النار ويرقص ملاطفًا فتاة صغيرة، كانت الفتاة تضحك من حركاته الراقصة، حين رفعت قناعها رأيت ملامحها الجميلة، كانت عذبة ورقيقة وزادت الضحكات الصافية والبريئة من جمال ملامحها.
مظهر دايسكي أوحى إلي أن ثمة قصة حزينة وراء تلك الصغيرة، ووجدتني أتذكر مانكيتشي، فابتسمت وتمنيت للصبي أن يعود يومًا لقريته، وأن يحيا حياة سعيدة بدلًا من الحزن الذي كان مهيمنًا على روحه ومطلًا من عينيه البريئتين.
ناديت على دايسكي وأنا ألوح له بيدي فرفع قناعه وأشار إلي لأتبعه، كنا نسير على ضفتي النهر حتى وصلنا إلى قنطرة صغيرة فعبرها هو والصغيرة إلينا، أشار دايسكي للفتاة وهو يقول:
أقدم لك ميدوري يا هيكارو، سترافقنا اليوم.
ثم وجه حديثه لميدوري:
هذه صديقتي هيكارو التي حدثتك عنها يا ميدوري، أنا متأكد من أنك ستحبينها، وهذا أخوها جورو.
رحبنا بميدوري وانشغل جورو بالحديث معها لدقائق، فاقتربت من دايسكي أسأله عنها فأجابتي:
الفتاة لها شقيق واحد ويعيشان وحيدين دون أب وأم، الفتى مهووس بالآثار وقد التقيتهما وهما يهربان من بعض الرجال الذين طاردوهما لدخول هيروشي شقيق ميدوري الكهف المجاور، أخبرني هيروشي أنه وجد في الكهف رسومًا تشير لكون رجل فضاء قد أتى للأرض قديمًا.
ماذا؟
رحل هيروشي وترك ميدوري وحدها في الاحتفال فأشفقت عليها وأردت التسرية عنها.
فعلتَ خيرًا دايسكي!
عدنا لميدوري وجورو وقررنا الاندماج من جديد في الاحتفال، تناولنا طعامنا معًا واشتركنا في العديد من الألعاب والمسابقات، واقترحت شراء ثوب لميدوري بدلًا من الكيمونو الذي كانت ترتديه ويعوقها عن اللعب والركض بحرية، اخترت لها ثوبًا أخضر اللون وحذاء أصفر، ألبستها الثوب الجديد وبدت فاتنة جدًا.
في مغرب اليوم كنا قد أوصلنا ميدوري لبيتها أو أبعد بقليل وعدنا أدراجنا، لقد ساعدت ميدوري على تحسن مزاجنا كثيرًا دايسكي وأنا وكانت رفيقة جميلة لجورو.
لكن هذه السعادة التي غمرتنا نهارًا وامتدت لسهرتنا معًا – دايسكي وأنا – في شرفة مركز الأبحاث على غير العادة لم تدم، وبعد أن كنا نتحدث عن ذكريات جميلة في ماضي دايسكي قد جددها هذا الاحتفال ووجود ميدوري معنا، فقد استيقظنا في منتصف الليل على صوت جرس الانذار، كنا قد أوصلنا جورو لبيت المزرعة وعدنا للمركز لننهي بعض الأعمال وأمضينا ليلتنا هناك، لكن قرابة الثانية صباحًا دوى جرس الإنذار في كل أرجاء المركز، خرجت من غرفتي مسرعة وقد أمسكت بمسدسي، لحقت بالدكتور أمون في الممر وبعض العاملين هناك، وأخذنا نركض صوب مركز الطاقة كونه المنطقة الأكثر خطورة وأهمية في المركز، هناك وجدنا دايسكي بزيه العسكري وكوجي الذي سبقنا إليه.
أخبرنا دايسكي أن صحون الفضاء المتوحشة قد اقتحمت المركز وأنها متوجهة صوب غرفة الطاقة، وأنها تحاول اكتشاف سر طاقتنا، كان الوضع متأزمًا بشدة، طلب دكتور أمون من دايسكي أن يمنعهم من بلوغ هدفهم وأن يستخدم الشعاع الواقي، وبالفعل توجه دايسكي صوب المفتاح وأشعله ببصمة يده، وانطلقت الأشعة من كل صوب نحو وحوش فيجا التي بدت أشبه بالكلاب أو النمور المفترسة، ركضت وحوش فيجا ولحقنا بها حتى وجدنا فجوة كبيرة في جدار المركز، قفزت الوحوش عبر الفجوة التي تطل على ممر جبلي على ما يبدو، وحاول كوجي اللحاق بها رغم تحذير دايسكي، وفور اقتراب كوجي انهارت الفجوة لكن الحمد لله أنه لم يصب بأذى.
انقسمنا بعدها لفريقين، قال دايسكي أنه سيحاول العثور على المكان الذي تسللت منه الوحوش، وكان علينا – كوجي وأنا – البقاء هنا وحماية المركز، ولكن بعد وقت قصير بدأت الوحوش تهاجم المركز ذاته، لهذا خرجنا بأسلحتنا نحاول صدها، كانت تلك الوحوش مختلفة عما عهدناه من قبل، خفيفة وسريعة وشرسة للغاية، وجهوا ضرباتهم لنا بعنف وقفز أحدهم فوق سلاحي الملاحي فارتج سبيزر وانتشرت فيه الشرارات الكهربائية، كنا نحاول الصمود قدر الإمكان، وكان كل واحد منا – كوجي وأنا – يحاول حماية الآخر من تلك الوحوش التي اختارت الهجوم من الخلف بحيث لا نراها.
أخيرًا سمعنا صوت دايسكي وأخبرنا أنه قادم لنجدتنا لكن حدث شيء غريب، لقد ابتعدت الوحوش الثلاثة فجأة دون سبب معروف، ومع ذلك استطاع دايسكي إيجادها وإسقاطها، والغريب أنه عاد من المعركة وميدوري بين كفي جريندايزر غائبة عن الوعي.
اعتنينا بالفتاة، وقص علينا دايسكي ما حدث لها، فقد وجد دايسكي شقيق ميدوري في الكهف الذي حاول دخوله صباحًا، كان ممسكًا بسوط إلكتروني ويحركه في الهواء بطريقة مدروسة، ويملي تعليماته على صحون الفضاء، اشتبك دايسكي مع الفتى الذي حاول قتله، وانتهت المعركة بمقتل هيروشي الذي تبين أنه كان قد قُتل من قبل على يد أحد قادة فيجا الذي استخدم جسده وهيئته كغطاء له، وجد دايسكي في الكهف قرصًا كبيرًا لامعًا يبث إشارات كهربائية منتظمة فنسفه، وحال خروجه كانت ميدوري ملقاة على الأرض جوار جثة هيروشي تبكي بانهيار، وفور أن رأت دايسكي والمسدس بيده انقلبت عليه، اتهمته بقتل هيروشي، حاول دايسكي أن يشرح لها الموقف، لكن صحون فيجا ظهرت في السماء واضطر هو لتركها فورًا.
في نهاية الصراع كانت ميدوري على قمة جبل صغير وبيدها السوط الإلكتروني إياه، رآى دايسكي السوط ينفجر وميدوري تسقط بعنف فأنقذها وعاد بها.
حين استيقظت ميدوري كانت فزعة وجعات تبكي، احتضنتُ الصغيرة وهدأتُ من روعها، أخبرتها أننا قد دفنا شقيقها وأنه كان ضحية هجوم قوات فيجا، سألتني عن الرجل الذي قتله فأكدتُ لها أن الشاب ذو البزة العسكرية الحمراء ليس هو من قتل أخاها، وإنما رجل آخر من فيجا قد فتله، واستخدم جسده لخداعنا، عرفتها باسم الشاب ذو البزة الحمراء، كانت تلك المرة الأولى التي تسمع بها اسم دوق فليد، وَعَدْنا ميدوري بزيارة قبر شقيقها، واتفقنا أن نرسلها لأقربائها في مدينة قريبة منا لتعيش معهم، فقد أصبحت ميدوري وحيدة الآن، للمرة الثانية تذكرني ميدوري بمانكيتشي، هذه الحرب تفقدنا الكثير!
كان وداعنا لميدوري مفعمًا بالعواطف، اصطحبها كوجي للمحطة وركضنا خلفها بالخيول نلوح لها بأيدينا ونتمنى لها حياة سعيدة، أوصيتها أن تعتني بنفسها وقد أشفقت عليها فعلًا، ولم تغب عن خاطري لأيام طويلة، ولا زلت أذكر يوم ودعناها وكأنه البارحة.
هذه الأيام لا عطل نقضيها في المزرعة خشية أن تهاجمنا قوات فيجا، فبعد هجوم الصحون المتوحشة على المركز واستهدافهم لغرفة الطاقة صار علينا حماية المركز منهم على نحو مكثف، ورغم الإجهاد والتعب والحاجة لبضع ساعات من السلام والحياة الطبيعية إلا أنني تجلدتُ وبقيتُ في المركز شأن دايسكي وكوجي.
وفي عطلة نهاية الأسبوع هذه أيضًا كنا جميعًا هناك، كان ذلك منذ أسبوعين تقريبًا وكان الجو حارًا وأعصاب الكل ملتهبة، دخل كوجي الاستراحة حيث كنا جالسين نتحدث، جعل يلوح بورقة في يده وهو يقول بأنه قد تسلم دعوة شخصية لحضور مهرجان سمك القرش في أرض البحارة في ياتوهارا، ناولني الورقة وهو يقول: “انظروا!”، بدا كوجي سعيدًا بتلك الدعوة، قرأتها فكانت صحيحة فعلًا، هو مدعو باسمه الشخصي وعلى نحو خاص وكأنه أحد كبار الشخصيات، ورغم معرفتي بشهرة كوجي في القرية المجاورة لنا مؤخرًا إلا أن الأمر بدا مريبًا بالنسبة لي فسألته عن سبب دعوتهم له وحده، إن كان القائمون على أرض البحارة يريدون توجيه دعوة للعاملين بمركز الأبحاث ومن بينهم كوجي لفعلوا، ولكن لماذا كوجي بالتحديد؟
لم يفهم كوجي مقصدي من هذا السؤال وكان جوابه صادمًا، تحدث كوجي بنبرة غير مألوفة بالنسبة لي، كان متعاليًا في جوابه ووجه حديثه لدايسكي على نحو أزعجني، قال كوجي: ”لنذهب جميعًا يا دايسكي, أعرف أنني أحد الأشخاص المهمين” أنا من تحدث كوجي فما علاقة دايسكي بالأمر؟! لهذا أجبت كوجي بحدة:
لا يمكننا ذلك خشية أن يهاجمنا الصحن المتوحش.
كنت أتمنى الذهاب والترويح عن نفسي في يوم العطلة ولو لساعات معدودة، لكن أسلوب كوجي جعلني أتذرع أكثر فأكثر بواجبي في المركز، سمعت دايسكي يتحدث بهدوء قائلًا بأنه لا بأس بذلك وأنه بإمكاننا الذهاب – كوجي وأنا – وأنه سيبقى هنا في المركز، رغم معرفتي ويقيني بأن دايسكي يحاول منحي متسعًا من الوقت للترويح عن نفسي إلا أنني لم أكن راضية عن موقفه، وتمنيت لو تمسك بضرورة بقائنا هنا، أو ليذهب كوجي وحده ما دام يرى نفسه أحد الأشخاص المهمين كما يقول.
أردت الرد لكن كوجي سبقني بقوله: “لا يا دايسكي، لا يمكننا الذهاب بدونك، أليس كذلك يا هيكارو؟”، كانت كلمات كوجي موافقة لشعوري ورغبتي في معناها، لولا أنه كان يتحدث بنبرة مستهزئة وساخرة فأثار المزيد من ضيقي، أزحت يد كوجي التي وضعها على كتفي خلال حديثه، وأجبته بحدة منفسه عن غضبي واستيائي من الاثنين:
لن أذهب إلا إذا ذهب دايسكي!
هنا تغير موقف كوجي، وبدأ يقول أنه من غير اللائق أن نتركه يذهب بمفرده، وأننا يجب أن نرافقه جميعًا، ودخل دكتور أمون الاستراحة وقد أثاره ما يحدث، سأل كوجي بنبرة هادئة:
ما الأمر يا كوجي؟ كأنكَ تلح عليها في أمر؟
أجاب دايسكي دكتور أمون بتلقائية وأخبره بأن كوجي قد تلقى دعوة لزيارة أرض البحارة فقاطعه كوجي قائلًا بأنه لا يريد الذهاب، هنا عاد دكتور أمون يسأل دايسكي مجددًا عن الأمر، لفتَ انتباهي أسلوب دايسكي في الحديث، لقد تجاوز ببساطة عما كان يرمي له كوجي وعن طريقته التي بدت بنظري غير مهذبة، أخبر دكتور أمون أنه أعرب عن رغبته بالبقاء في المركز وأنني فقط اخترت البقاء معه هنا، أيدتُ كلام دايسكي بأنني لن أذهب بدونه، رأيتُ دكتور أمون يحك ذقنه بسبابته ويفكر وهو مغمض العينين، كان يكرر كلمة “ياتوهارا” مما أوحى لي بفكرة مراوغة، كانت لا تزال الدعوة بيدي فعدتُ أنظر إليها مجددًا وقلتُ بحماس: “ياتوهارا؟ حسنًا موافقة، سأذهب، مهرجان سمك القرش ممتع” كنتُ قد خططتُ للتصرف بدهاء الأنثى وحمل دايسكي على تغيير رأيه بأن أبدي رغبتي في الذهاب بدلًا من البقاء، رد كوجي علي باستياء: “قلتِ أنكِ لن تذهبي، ولا بهمني ذهابك”، أنتَ محق كوجي! أنا لا أريد الذهاب معكَ فعلًا ولا تهمني مرافقتك، رغبتي بالذهاب ليست موجةً لك بأي حال.
عاد دكتور أمون يتدخل في الأمر وكأنه التقط طرف الخيط الذي أمسكت به منذ ثوانٍ:
كوجي، خذها معك، ياتوهارا ليست بعيدة، يمكنكما العودة خلال ثلاثين دقيقة إن حدث شيء.
هذا بالضبط ما أردت أن يستنتجه دايسكي، شكرًا يا عمي! عقبت على جملة دكتور أمون وأنا أوجه حديثي لدايسكي قائلة بأنه أيضًا بإمكانه الذهاب، لكن قبل أن يتخذ دايسكي قراره تحدث دكتور أمون ونسف خطتي قائلًا: “لا، دايسكي يجب أن يبقى هنا كما يقول”، كان تدخل دكتور أمون محبطًا بالنسبة لي، لماذا فعلتها دكتور أمون؟ كنتُ راضية عن تدخلك منذ بضع ثوانِ فقط، فلماذا؟ ولعل دكتور أمون قد لاحظ تغير ملامحي حينها، فقد استدرك حديثه: “لا تحزني يا عزيزتي، ولا تفوتي احتفالًا كهذا”، للأسف أنتَ لم تفهمني يا عمي هذه المرة.
كنتُ في موقف لا أحسد عليه، ويبدو أنني قد تورطتُ بمرافقة كوجي غريب الأطوار مؤخرًا، وبينما كنت أفكر عاد كوجي لاستفزازي مجددًا وقد تبدد استياؤه وحلت محله مشاعر غريبة لم أتبينها، لقد التفت إلينا قائًا: “صحيح، هذه فرصة وعلينا الاستفادة بها نحن الشباب”.
هنا لجأتُ للخطة الأخيرة في محاولة يائسة للتخلص من هذا المأزق، اعتذرتُ لكوجي وأخبرته أننا لن نذهب لأن أبي وجورو سيصران على مرافقتنا، صُدم كوجي في البداية وأنا أعرف يقينًا أنه لا يستطيع تدبر أمر أبي بطباعه الغريبة في مثل هذه النزهات، على عكس دايسكي الذي يستطيع ببساطة تنحية حماس أبي المُبالغ فيه، ويحافظ على هدوئه ومزاجه بمهارة.
ولكن ورغم كل محاولاتي فقد اضطررت للذهاب، وحدث ما أخبرت كوجي به مسبقًا، فقد أصر أبي وجورو على مرافقتنا وابتدأت المشاكل: اختيار أبي لثوب غير لائق للذهاب، استعجاله لكوجي ووقوفه في المقعد الخلفي من السيارة مستغلًا قصر قامته وقد أمسك بكتفي كوجي يهزهما بقوة ويحثه على السرعة وسلسلة طويلة من المشكلات التي لا تنتهي.
عند وصولنا أبدلنا ثيابنا وتوجهنا للبحيرة الكبيرة المخصصة للسباحة، تنحيت وحدي وأخذت أسبح بهدوء لكن كوجي لحق بي وبدأ بمضايقتي وتبعه جورو، وبينما نحن كذلك سمعنا نداءً خاصًا لكوجي في الإذاعة الداخلية يعلمه بوجود مكالمة هاتفية له، خرج كوجي للرد على المكالمة، تأخر كثيرًا فخرجت للبحث عنه، انتبهت لكون أبي وجورو مفقودين أيضًا، أخيرًا وجدت جورو، وبالكاد عثرت على أبي الذي كان ممتلء المعدة حتى التخمة، أخبرني أبي أنه سمع أحدهم يتحدث عن كوجي وأنهم قد أمسكوا به، لهذا أسرعت بإبلاغ دكتور أمون الذي طلب مني تقدير عدد زوار المكان، فقلت له أنهم حوالي خمسمائة زائر، أنهيت الاتصال بعد أن وصلتني التعليمات بالمراقبة الدقيقة ريثما يصل دايسكي إلينا، معي ثلاثون دقيقة وعلي الإفادة منها، وكنت كمن بسدد فاتورة تدريباته المكثفة في الأشهر الماضية، أنا هنا وحدي بدون سلاح، كوجي مُختطف، معي أبي وجورو وخمسمائة زائر علي حمايتهم من خطر فيجا، كانت مسؤولية كبيرة أتحملها وحدي لأول مرة.
حافظتُ على يقظتي وهدوء أعصابي قدر الإمكان، تظاهرت بالجلوس مع أبي وجورو على نحو طبيعي، ومع ذلك ساءني انشغال الاثنين بالطعام والشراب وكأن شيئًا لم يكن، كنت متوترة حقًا، وأحاول التحري عن شيء لا أستطيع حتى إمساك طرف خيط له حتى أشار أبي لأحد العاملين بالمكان وقال بأنه هو من تحدث عن كوجي، شكرًا أبي على المعلومة الثمينة، لقد تسرعت بالحكم على سلوكك واتهمتك ظلمًا فاعذرني رجاءً!
تبعت الرجل الذي أشار إليه أبي بحذر، دخل الرجل بابًا فلحقت به، وقفت على عتبة الباب وقد التفت أصابعي حول مقبضه، شعرت بقلبي يدق بعنف، كنت أنوي عبور الباب لكن ما الذي يمكن أن أجده خلفه؟ كما كان علي انتظار بعض الوقت كي لا ينتبه الرجل لكوني أتبعه، ما هو الوقت المناسب للانتظار؟ استجمعت نفسي وقررت مواجهة الخطر وتحمل نتائج قراراتي وتقديراتي، انتظرت لدقيقة ثم أدرت مقبض الباب، وجدت نفسي في مخزن مظلم، توقفت لثوانٍ حتى اعتادت عيناي ظلمة المكان، أدرت بصري أتفحص ما يحيط بي جيدًا، لمحت بابًا في الجهة المقابلة، فسرت إليه بحذر، سمعت صوت حذائي عاليًا في المكان فقررت خلعه بسرعة كي لا يشي بوجودي، أكملت طريقي في الظلام حتى وصلت إليه، إنه باب آخر!
أدرت مقبض الباب الجديد ولم يلبث أن انفتح، بل انزلق بنعومة كاشفّا عن ضوء ساطع، أغشى الضوء عيني للحظة، عبرت الباب بحذر وانتبهت لكونه قد أغلق فور عبوري له فشملني الفزع، وجعلت أدق الباب بقبضتي إلى أن تبينت أن هذا الباب ليس إلا مصعدًا يتحرك على نحو تلقائي، شعرت بالمصعد يهبط لطابق تحت الأرض ومن ثم فُتح بابه، خرجت منه وسرت في ممر طويل ذو إضاءة حمراء مقيتة وينتهي بحجرة واسعة لها الطابع ذاته، كان في الحجرة الكثير من أجهزة التحكم، ورأيت كوجي مقيدًا لكرسي مزود بصاعق كهربائي، وكان في الغرفة رجلين وجندي، وبدا أنهم منشغلون بما أمامهم من أجهزة، كان أحد الرجال يشتبك مع كوجي كلاميًا وقد قذف سلاحه في وجه كوجي المقيد فطار نحوي وسقط على بعد خطوات مني.
مددت يدي ألتقط المسدس بحذر، لمحني كوجي فتبادلنا إيماءة سريعة، تحينت الفرصة المناسبة وانقضضت، حين أولانا الرجلان ظهريهما مجددًا أطلقت الشعاع عليهما من الخلف وأسقطهما، ولكن ولسوء الحظ استطاع الجندي توجيه شعاعه إلي وطار سلاحي بعيدًا، وقف الجندي أمامي مصوبًا سلاحه لي، وقبل أن يضغط على الزناد رأيت أشعة قادمة من جهة الباب تصيبه وترديه قتيلًا، التفتُ فرأيتُ دايسكي علي عتبة الباب وهو يقول:
هل أنتِ بخير هيكارو؟
كانت سعادتي بقدوم دايسكي كبيرة، لهذا ابتسمت له وأنا أنهض:
نعم، نعم، بخير.
اقترب مني وأنهضني بيده وقال وهو ينظر لعيني بعمق:
حضرتُ في الوقت المناسب.
الحق دايسكي أنني رغم استيائي من بقائك في المركز وتوريطي بالذهاب مع كوجي اليوم إلا أن ترقبي لوصولك كان أكبر، لقد تجلدتُ قدر استطاعتي وحاولتُ الإفادة من كل ما لقنتني إياه ومع ذلك كنت أترقب وصولك ما بين لحطة وأخرى، حين علمتُ من دكتور أمون أنكَ قادم لنجدتنا تدفق الدم في عروقي، تصرفتُ وكأن عينيكَ ترقباني وتحمياني، ليتكَ كنتَ هنا منذ البداية لكنا اختصرنا الكثير من الوقت! ربما لم تنجح خطة رجال فيجا وقتها في القبض على كوجي
كان عقلي مزدحمًا بأفكار كثيرة ويدي لا زالتا معلقتتن بيدي دايسكي حتى قطع كوجي أفكاري وهو ينادي على دايسكي ليفك قيوده، أخبرنا كوجي بأن هناك وحشًا يختبئ أسفل البحيرة، لطفك يارب!
فككنا قيود كوجي وطلب منه دايسكي أن بعود بنا ريثما يتولى هو الأمر هنا، لكن كوجي رفض ذلك وأخبر دايسكي أن يترك له المهمة ريثما نعود نحن بجريندايزر وسبيزر المزدوج.
وبالفعل عدنا للمركز وانطلقنا فورًا إلى هناك، عند وصولنا كان الهرج يسود المكان، خرج الزوار يركضون هاربين، ورأينا وحش فيجا يخرج من أسفل البحيرة وقد أزاح أرض البحارة بالكامل، كان كوجي يركض مسرعًا فأصاب دايسكي الوحش لتعطيله ومنح كوجي الوقت للنجاة، بدأ دايسكي يشتبك مع وحش فيجا، ونزلت أنا بسببزر وتركت مقعد القيادة لكوجي وخضنا معركة قصيرة إلى حد ما، ورغم صعوبتها وشراستها لكننا انتصرنا في النهاية، ومع أن اليوم قد مر بسلام إلا أنني لم أسلم من تصرفات كوجي الغامضة، ففي طريق عودتنا أخبرني أنه سيصحبني بومًا ما لأرض البحارة الحقيقية، وحين قلتُ له بأن دايسكي سيكون معنا غضب وأجابني باستياء: “لا، لا” لماذا لا تفهم كوجي أنني لا أكرهك كصديق لكن لدايسكي مكانة أخرى بحياتي؟ مكانة أكثر خصوصية، فأرجوك لا تحاول المساس بها!
مساء ذلك اليوم التقاني دايسكي في شرفة المركز، كنتُ جالسة وحدي على سور الشرفة بصمت، كنتُ ضجرة ومستاءة إلى حد كبير، بدأتُ أفهم تدريجيًا ما يقوم به كوجي وما يرمي إليه، لهذا كنتُ منزعجة بشدة، لا أكره كوجي أبدًا، ولكن ما يحاول هو بلوغه هذه الأيام يضايقني فعلًا، بدأتُ أشعر أن كوجي يحاول النيل من مكانة دايسكي لدي، هذه المكانة لم تكن اختياري، لقد كانت قدري، قدري الذي أنا سعيدة وممتنة له، لا أستطيع انتزاع دايسكي من قلبي، ويؤذي شعوري محاولة غيره المساس بهذا القلب، وحتى في اللحظات التي أنا فيها مستاءة من دايسكي وتصرفه أجدني غير قادرة على ارتضاء هذه المحاولات من غيره، قد أستاء، أغضب وانزعج لكني لا أكره دايسكي أبدًا، اليوم حين رأيته على عتبة الباب يسأل عني ابتسمت، رغم دقة الموقف وضيق الوقت ورغم استيائي منه، إلا أن قدومه كان أكبر بالنسبة لي، حضوره ملأ قلبي بالأمان والسكينة فعلًا، حين كانت يدي معلقتين بيديه تمنيت أن يتوقف الزمن ولو قليلًا، أن يمنحنا القدر بضع ثوانٍ ننهل فيها من الحب قدر ما يمكننا من التقدم للأمام، في طريقنا من المركز لأرض البحارة بجريندايزر وسبيزر المزدوج روى لي دايسكي كيف عثر علي في ذلك المكان، قال بأن جورو أشار للباب الذي دخلت منه وأنه قد وجد حذائي في المخزن المظلم، قدَّر دايسكي في البداية أنني أيضًا قد تم القبض علي حين وجد الحذاء في هذا المكان، أخبرني أنه كان سعيدًا حين رآني على قيد الحياة وأنه لم يكن مستعدًا لخسارتي، قال أنه كان صادقًا في جملته: “حضرت في الوقت المناسب”.
كنت أستعيد ما حدث وأتنهد بعمق حين شعرت باقتراب أحدهم من باب الشرفة، التفتُ فرأيته، تحاشيتُ النظر لدايسكي والتفتُ مجددًا أنظر للمزرعة التي غرقت في الظلام، كنتُ لا أزال منزعجة من تصرفه صباحًا، ثمة فرق كبير بين التفهم والرضا وأنا لم أكن راضية عن موقف دايسكي أبدًا، ورغم كل حبي له وسعادتي برؤيته اليوم ونجدته لي إلا أنني لم أكن قادرة على تجاوز استيائي للأسف، لهذا لذتُ بالصمت ولم أحاول التحدث إليه، فاقترب مني وجلس على السور مجاورًا لي:
تجلسين على نحو خطر، احذري السقوط!
سأفعل.
قلتها ببرود ودون أن التفت إليه فعاود حديثه بعد برهة:
تبدين منزعجة!
أومأتُ له برأسي إيجابًا، فسألني:
ما الذي يزعجك؟
لم أجبه بشيء وبقيتُ على صمتي لبعض الوقت فكرر هو سؤاله لمرتين، حسمتُ أمري أخيرًا، التفتُ إليه وأجبته باقتضاب:
لم أحب الذهاب مع كوجي بدونك حتى لو كان بقاؤك هنا لحماية المركز.
نظر إلي وقد اتسعت عيناه فأردفت:
بإمكاننا البقاء هنا إن لم تكن راغبًا بالذهاب.
كنا في يوم عطلة ورأيتُ أنكِ بحاجة للترويح عن نفسك هيكارو، بذلتِ جهدًا كبيرًا في الأسابيع الماضية، كنتِ تستحقين النزهة.
لا تعنيني النزهة بدونك حتى لو كنتُ بحاجة إليها، كما أنني..
قطعتُ حديثي ولم أستطع مواصلة الكلام، فمد يده ورفع ذقني بسبابته ونظر بعمق لعيني وهو يقول:
ماذا هيكارو؟ قولي لي!
تملصت منه وتراجعت بظهري للوراء وأنا أجيبه بعصبية:
أنتَ لا تفهم! كوجي يزعجني هذه الأيام، يزعجني كثيرًا!
لا أعرف إن كنتُ قد أصبتُ أم أخطأتُ بإخبار دايسكي بشعوري هذا، لكني كنتُ مستاءة ومضطربة، كما أن تظاهره بأنه لم يلحظ شيئًا مما يحدث قد أثار أعصابي وضاعف من توتري، ورغم عصبيتي فقد مد هو ذراعه بتلقائية يحمي جسدي من السقوط جراء حركتي العصبية فانتبهتُ واعتمدتُ بيدي على سور الشرفة متجاهلة يده، رد هو بهدوء متجاوزًا عن ذلك:
سيفهم هيكارو، لا تهتمي لهذا الأمر، كوجي يعاني هذه الأيام، أنتِ قلتها من قبل، تذكرين ذلك؟
هذا ليس مبررًا!
هيكارو ..
لم أمنحه الفرصة لاستكمال حديثه، ثارت أعصابي بحق ولم أستطع كبحها، فلقد كنتُ مستاءة فعلًا، بينما هو يحاول أن يكون مثاليًا وهادئًا إلى حد مثير، لماذا دايسكي؟ ألا يمكنك أن تفهم؟! أنا منزعجة فعلًا، منزعجة ومستاءة ومتضايقة جدًا، قل شيئًا يمكن أن يزيل استيائي على الأقل، وجدتُ نفسي أجيبه باندفاع:
تبدو غير مهتم على الإطلاق! حتى أنك تتوقع أن أستمتع بنزهتي كما تقول مع غيرك.
أنا لم أقصد هذا، ولكن تعلمين أنه توجب علي البقاء في المركز.
وأنا كنت قد اخترتُ البقاء دايسكي لكنكَ قلتَ أن بإمكاننا الذهاب – كوجي وأنا – وكأن الأمر لا يعنيك.
ومع ذلك لحقتُ بكما هناك.
لو لم يلقِ رجال فيجا القبض على كوجي لما لحقتَ بنا.
تبدلت ملامحه وبدت أكثر جدية وصرامة وهو يجيبني:
لو لم تذهبي أنتِ اليوم لكنا في وضع أسوأ، كان من الممكن أن يقبض رجال فيجا على كوجي وأن يحتجزوا الزوار جميعًا كرهائن!
تقولها الآن فقط.
ازدادت صرامته وهو يجيب جملتي الغاضبة:
لقد كانت الدعوة التي تسلمها كوجي مقلقة وأنتِ تدركين ذلك، ماذا لو أن الصحن المتوحش هاجم المركز في غيابنا جميعًا، فكري بالأمر جيدًا، أنتِ أيضًا ارتبتِ بشأن تلك الدعوة أم أنا مخطئ فيما أقول؟
اتسعت عيناي من الدهشة، بدأتُ أستعيد ذاكرتي فعلًا وأرى ما حدث من زاوية مختلفة تمامًا، لقد التقط دايسكي ذات الإشارة مثلي، ويبدو أن دكتور أمون قد شاركنا ذلك أيضًا، الوحيد الذي بدا غير مبالٍ هو كوجي، لستُ مخطئة إذن بوصفي له بأنه غريب الأطوار تلك الأيام، يا إلهي دكتور أمون كذلك لم يفسد خطتي ويتسبب بإحباطي كما تصورت صباحًا! لقد كان دايسكي ودكتور أمون يراهنان على ذهابي تحسبًا لما قد يحدث، يا إلهي! أنا فعلًا ارتبتُ من الدعوة، هذا صحيح، صحيح تمامًا!
لم أجب دايسكي بشيء وأشحتُ بوجهي أنظر صوب المزرعة، كنتُ غارقة في أفكاري حد النخاع، أعرف بأني مرهقة للغاية، ذهني مثقل، خائفة جراء ما حدث منذ ساعات، مستفزة من تصرفات كوجي الغريبة ومستاءة من موقف دايسكي صباحًا، ولائمة لنفسي وعاتبة عليها جدًا، جعلت ألتقط أنفاسي في محاولة لتهدئة أعصابي الثائرة قدر الإمكان، شعرتُ بدايسكي ينهض بصمت دون أن يضيف شيئًا، مضت ثوانٍ من الصمت الثقيل، لم أسمع صوت خطواته يغادر الشرفة فعرفتُ أنه لا زال هنا صامتًا، بعد برهة شعرت به وقد انحنى بجذعه واستند بكفيه للسور جواري، سمعتُ صوته ولا يفصله عن أذني سوى بضع سنتيميترات:
قريبًا ستنهين تدريباتك وسنخرج للتخييم معًا بجماعتنا، لم نفعل ذلك منذ زمن، وسنقضي معًا وقتًا خاصًا، موافقة؟
احمرت وجنتاي خجلًا، وأدرتُ وجهي قبالته، كانت ملامحه قد لانت وعادت لطبيعتها، انحنى يقبل جبيني برقة وعفوية ومد يده ينهضني من على السور وهو يقول:
آسف هيكارو.. لن يتكرر هذا مجددًا، أعدك بذلك.
لم أجب بشيء، كنتُ عاجزة عن الكلام، أحتاج للتفكير طويلًا، لدي الكثير من الأوراق المختلطة بعضها ببعض وأنا بحاجة لإعادة ترتيب الكثير من الحسابات، استدرك حديثه:
والآن اذهبي للنوم، أراكِ غدًا صباحًا!
تصبح على خير.
قلتها بتلعثم وقد شعرتُ بغصة في حلقي، حاولتُ أن أبتلع ريقي وابتسمتُ فأجابني بهدوء:
تصبحين على خير!
بالأمس أنهيتُ آخر دروسي بالفعل، وأخيرًا اكتملت القائمة التي بدا أنها بلا نهاية، على العشاء أخبر دايسكي أبي وجورو بأنه يريد أن يصحبنا في الغد للتخييم قرب البحيرة، أبدى جورو سعادته بالنزهة وسأل عن كوجي وما إذا كان سيرافقنا أم لا، أخبره دايسكي بأن كوجي سيفعل، أبدى أبي قلقه من أحوال الطقس غدًا فطمأنه دايسكي قائلًا بأن التوقعات تشير لطقس جيد في الغد، وبالنسبة لي فقد كنتُ سعيدة جدًا بالنزهة، سعيدة بمحاولة دايسكي لتعويضي عما حدث منذ فترة، وسعيدة بانتهاء مرحلة شاقة ومتعبة في حياتي.
إلى الغد إذن! أتطلع لنزهة جميلة مع دايسكي كما وعدني، لقد وفَّى بوعده لي ولقد قررت أنا أن أنسى استيائي السابق تمامًا! وأعتقد أن بإمكاني أن أنجح بهذا أيضًا.
اترك تعليقًا