الحلقة الثالثة والعشرون – كوكب فليد!
مر أسبوعان منذ أن عرفت الحقيقة، في كل ليلة تؤرقني تساؤلاتي الكثيرة ولا أجد لها جوابًا: لماذا أتى دايسكي إلى هنا؟ لماذا هجر وطنه؟ لماذا تطارده قوات فيجا؟ ولماذا الآن؟ هل جريندايزر هو السبب فيما نخوضه من حروب وما نتكبده من خسائر؟ كنت أتساءل عن كوكب فليد، أين يقع؟ لم أسمع به من قبل! كيف يبدو؟ أيشبه الأرض؟ ماذا عن أسرة دايسكي؟ ولماذا هذا الحزن العميق الذي يبدو واضحًا على قسمات وجهه؟
يكاد عقلي أن ينفجر, في كل ليلة أحاول أن أتخيل إجابات.. الكثير من الإجابات.. لكني أعجز في نهاية الأمر، في كل ليلة أعد نفسي بأني قد أجد في الغد إجابات شافية تخرجني من حيرتي، بقيت أنتظر الغد طويلًا لكنه لم يأتِ.
بعد عصر أمس ذهبنا – دايسكي وأنا – صوب مركز الأبحاث، كنا قد عدنا لاستكمال تدريبات القيادة، وبدأت أكتسب ثقة بنفسي أكبر من ذي قبل، اليوم في ساحة المركز وقف هو جوار عجلة القيادة وأشار إليها وهو يقول لي: “اصعدي.. هيا!”
كانت تلك هي المرة الأولى التي سأبدأ فيها التدريب من ساحة المركز، نظرت إليه بدهشة وابتسمت بإعجاب، يبدو أنني سأحصل اليوم على رخصة القيادة التي أتمناها!
أمسكت بعجلة القيادة، وجلس هو على المقعد المجاور وانطلقنا، لم أكن أعرف إلى أين سنذهب بالضبط، كنت أتبع تعليمات دايسكي بدقة، أرهف سمعي وأركز عيناي على الطريق وأقبض على عجلة القيادة بإحكام، كان الطريق الذي اختاره دايسكي لتدريب اليوم صعبًا، منحتيات كثيرة، طريق جبلي، حافة صخرية مرعبة، لا أعرف لماذا اختار هذا الطريق بالذات، وصلنا أخيرًا إلى مساحة خضراء رائعة تطل على بحيرة كبيرة، وهناك لسان أخضر يخترق البحيرة وبنتهي بما يشبه الجزيرة الصغيرة، كانت الشمس تميل جهة الغروب وبدا المنظر بديعًا بحق، أوقفنا الجيب وبقينا صامتين لبرهة نتأمل جمال الطبيعة حولنا، ثم سألته:
ماذا سنفعل الآن؟
سننتظر الليل.
ماذا؟
عليكِ أن تعودي من الطريق ذاته في الظلام هيكارو!
شعرت بالقلق والخوف، لم يخطر ببالي التدريب الليلي قبلًا، الطرق هنا وعرة والقيادة فيها صعبة في ضوء النهار، ماذا عن الليل؟! كما أنه لا توجد أعمدة إنارة كافية في الطريق الذي اختاره دايسكي اليوم، صحيح أن المصابيح الأمامية ستكون كافية لكن الفكرة تثير قلقي وتوتري، ويبدو أن ما جال بخاطري لم يبقَ حبيس عقلي كما كنت أتصور؛ انتبهت لصوت دايسكي وهو يشجعني على النزول من الجيب، أفقت من شرودي فوجدته قد ترجل من السيارة، كان يقف جواري ويمسك بيدي التي تشبثت بعجلة القيادة دون وعي، أومأت له برأسي ونزلت.
سرنا قليلًا على العشب الأخضر حتى وصلنا إلى البحيرة، حاول دايسكي طمأنتي، قال لي أنه واثق من قدرتي على القيادة ليلًا وأن الأمر لا يستدعي هذا القدر من القلق، شجعتني كلماته كثيرًا وأعادت لي بعضًا من ثقتي بنفسي، جلسنا على الصخور أمام البحيرة صامتين لدقائق حتى قطع دايسكي هذا الصمت:
هذا المكان يذكرني بفليد!
شعرت أنه يريد أن يبوح بشيء ما، يبدو أن الغد الذي انتظرته قد أتى أخيرًا، رائع! هيا دايسكي أنا أسمعك بكل جوارحي، نسيت أمر الجيب والقيادة الليلية والمنحنيات والطرق الوعرة، وتمتمت مشجعة:
حقًا!
أخذ ينظر للبحيرة لبضع ثوان كأنما يغرق بعينيه فيها باحثًا عن شيء ما، ثم استدرك حديثه:
كان كوكب فليد يشبه الأرض هيكارو، يشبهها كثيرًا، كوكب جميل مليء بالخضرة والزهور، كنا نعيش أيامًا رغدة حتى حلت الكارثة!
صمت دايسكي وأغمض عينيه بألم، انعقد حاجباه واشتدت قبضة يديه كأنما يصارع ذكرى سيئة، احترمت هذا الصمت المملوء بالألم، وانتظرت بهدوء حتى يكمل حديثه لي، لكن طال صمته، بقي صامتًا لأكثر من خمس دقائق، شعرت بالقلق عليه، وأشفقت على قلبه الذي يصارع ألمًا كببرًا لا يقدر أن يبوح به لهذا الحد، قدرت حجم الكارثة التي يعنيها دايسكي ولم أعرف كنهها، قدرت أنها مدمرة، وكنت أشعر بنزيف روحه وقلبه، مددت يدي واحتضنت كفه بصمت، ضغطت عليها بحنان أبثه مشاعري، فالتفت إلي، فتح عينيه و:
كنا نعلم بطموح فيجا الكبير، ونعلم برغبته في الاستيلاء على الكواكب الأخرى في مدار فيجا، ورغم مخاوف أبي ومحاولاته لتفادي ذلك إلا أن الحرب قد اشتعلت فجأة، هاجم فيجا الكبير كوكب فليد على حين غرة، امتلأت السماء بقواته، واشتعلت الحرائق في كل مكان، تحول كوكب فليد إلى خرائب، كانت الصرخات تسمع من كل مكان، والدماء تسيل، حتى أسقطت قنابل فيجاترون العملاقة واحدة تلو الأخرى و.. وتلاشى كل شيء، وغدا فليد كوكب الموت بلا أحياء، لقد تلوث بإشعاعات فيجاترون وحكم عليه بالموت!
كان دايسكي يتحدث بسرعة، تقطعت أنفاسه كأنما قلبه يتمزق وهو يتحدث، لهذا تسارعت دقات قلبي، كان دايسكي يتحدث واصفًا كارثة حقيقية رآها وعايشها بنفسه، وكنت أنا أرى بخيالي، رأيت كوكبًا أخضر وادعًا قد تحول إلى جحبم، رأيت ظلال سوداء بشعة تغطي السماء، سمعت الصرخات والأنات بأذني، شعرت وقتها بخنجر ينغرس بصدري فأغمضت عيني للحظات أستجمع نفسي وألملم شتاتها، ثم عدت أسأله:
كيف نجوت؟
نظر لي نظرة بائسة كأنه غير سعيد بنجاته، شعرت أن دايسكي قد تمنى الموت في لحظة، أو أنه يتمناه فعلًا كل ليلة، أجابني بهدوء حزين:
بجريندايزر يا هيكارو!
ثم أطرق برأسه مكملًا:
جريندايزر هو حامي الكوكب فليد يا هيكارو! لم يشأ أبي أن يخرج جريندايزر للقتال يومًا؛ لكن كان لفيجا الكبير رأيٌ آخر، لقد هاجم فليد، واعتقل صفوة علمائنا ممن طوروا جريندايزر، واستطاع تحويله لأداة حرب، كان علي أن أجد جريندايزر وقتها وأن أحُول دون رغبة فيجا الكبير، واستطعت أن أجده أخيرًا، وهربت به بعيدًا، بعيدًا جدًا، وتصورت وقتها أنني قد نجوت!
لا زلت لا أفهم الصلة بين دايسكي وجريندايزر، بدا لي جريندايزر سلاحًا حربيًا تحت سيطرة والد دايسكي على الأغلب، لكن.. سألته:
هل كنت ضابطًا دايسكي؟
لا هيكارو.
قالها وهو يرفع عينيه نحو السماء:
كنت أميرًأ لكوكب فليد!
كانت نظرة دايسكي تفيض بالشوق لموطنه وماضيه، شعرت أن في نظرته حنينًا لأسرته البعيدة التي قدرت أنه فقدها في الحرب، لم أجرؤ على سؤاله لكنه أجابني كما لو كان قادرًا على سماع ما يدور بعقلي:
فقدت الجميع هيكارو.. أبي وأمي قتلا في الحرب، رأيتهما يموتان أمام عيني، شقيقتي الصغرى لا أعلم مصيرها.. أصدقائي والجميع.. نعم الجميع!!
أكان لك أخت؟
أومأ برأسه متألمًا:
كانت ماريا أصغر من جورو حين تركتها وحيدة في ذلك اليوم…
بدا الفزع على ملامح دايسكي كأنما ذكرى بشعة تمر أمام عينيه، تقلصت ملامح وجهه، فصمتُّ تمامًا، أي مصير قد حل بالصغيرة ماريا؟ لم اجرؤ على سؤاله أبدًا مجددًا.
هدأت ملامح أخيرًا وأغمض عينيه، مسكين دايسكي! يحمل أحزانًا لم أتوقعها، لم يكن دايسكي حزينًا على فتاة أحبها كما تصورت فيما مضى، كان حزينًا على حب أكبر بكثير، لكنه قطع أفكاري وهو يقول لي:
لقد انتهى بي المطاف إلى هنا هيكارو.. إلى الأرض.
أين يقع كوكب فليد؟
إنه بعيد.. بعيد جدًا، تلزمك آلاف السنوات الضوئية لبلوغه.
كيف عبرت تلك المسافة؟
جريندايزر يستطيع ذلك يا عزيزتي.
تنهد بعمق ثم استدرك بألم عميق:
لكن..
كان يبدو على دايسكي التردد والخوف وكأنه يخشى ما سيقوله، يخشى سماعه هو له، نظرت إليه وابتسمت مشجعة فاستدرك وقد أغمض عينيه:
ليتني لم أفعل ذلك!
ماذا تعني؟
ماذا لو لم أهبط إلى الأرض هيكارو؟
تعني الحرب؟
نعم
أجبته مطمئنة:
قلتَ أن فيجا الكبير كان يخطط للاستيلاء على الكواكب الأخرى، ربما كان سيهاجم الأرض حتى لو لم تكن هنا دايسكي.
لكن دايسكي كان متألمًا ومضطربًا على نحو لم أعهده قبلًا، قال لي:
أنا لا أريد للأزض مصيرًا كمصير الكوكب فليد! أبدًا!!
قالها وأطرق برأسه وصمت طويلًا.. طويلًا جدًا، طوقت كتفه بذراعي فرفع رأسه ينظر إلي، نظرت لعينيه بعمق أحاول أن أرى أعماق روحه:
تحب الحياة على الأرض دايسكي؟!
أومأ برأسه بصمت، فقلت:
هون عليك.. ستكون على ما يرام!
ابتسم لي ابتسامة امتنان، كانت أجمل ابتسامة منحني إياها دايسكي حتى الآن، ابتسامة صادقة.. صادقة جدًا وعذبة حتى أبعد مدى.
كان قرص الشمس في تلك اللحظة يوشك أن يختفي من السماء، فقلت له:
انظر ! هذا اليوم سينتهي، وسيأتي يوم تنتهي فيه أحزانك!
تمنيت من أعماق قلبي أن يجد دايسكي السعادة، صليت من أجله في تلك اللحظة، تشاطرت معه أحزانه لتخف وطأتها عن كاهله، تمنيت أن أمنحه الأمان الذي يستحقه، وتمنيت أن تبقى الأرض وطنًا بجمع كلينا.
في ذلك اليوم تمكنت من العودة بالسيارة ليلًا، لم يكن الأمر صعبًا كما توقعت، أو ربما لم يكن صعبًا بعد ما سمعت وعايشت، كنت منشغلة البال بما عرفت.
في تلك الليلة توحدت مع دايسكي كما لم أفعل من قبل، حلمت البارحة بكوكب فليد، رأيت القنابل تهوي من السماء، وسمعت دويها في حلمي، ورأيت أبي وجورو غارقين في بركة حمراء، لهذا نهضت فزعة، وبكيت طويلًا.
في الصباح صليت كثيرًا لأجل دايسكي وأسرته، صليت لأجل شعب فليد الذي أُبيد، وشعرت بالألم والمرارة كما لم أشعر بهما من قبل، وقررت أن أجعل من الأرض وطنًا حقيقيًا لي ولدايسكي.
اترك تعليقًا