الحلقة 74 – مابعدالحرب
توقفت الحرب أخيرًا، توقفت بعد سنوات من الصراع الدامي تكبدنا خلالها الكثير من الخسائر، سالت دماء الآلاف من البشر، احترقت المدن، تدمرت الطبيعة، لكن.. انتهت الحرب أخيرًا!
عدنا نلتقط أنفاسنا بحرية، ننام مطمئني البال، نحلم، نضحك، ننسى نستريح من مخاوفنا وشعورنا المستمر بالتهديد وعدم الأمان، للسلام لذة كنا قد فقدناها طويلًا، لهذا كان من حقنا فعلًا أن نحتفل بهذه النعمة الكبيرة، كان آخر احتفال حقيقي أقمناه في مزرعة البتول الأبيض يوم أن هاجمتنا الصحون الطائرة في عيد المزرعة السابع، حفلات العشاء والرقص وسباقات الخيول وأعياد الميلاد ورأس السنة معظمها اختفى من حياتنا في السنتين الأخيرتين، وكانت أيامنا خاوية من المناسبات المبهجة عدا القليل منها كحفلنا البسيط يوم أتتنا ماريا، حتى في عيد رأس السنة الماضي كدنا نلقى مصرعنا – دايسكي وأنا – معًا تحت سطح البحر وحيدين ومدفونين تحت الصخور، أما اليوم فقد احتفلت اليابان بأكملها بالسلام أخيرًا، غطت الاحتفالات طول البلاد وعرضها، وبالطبع أقمنا في مزرعة البتول الأبيض احتفالًا كبيرًا يليق بهذه المناسبة، اجتمعنا معًا أبي، جورو، دكتور أمون، كوجي، ماريا، دايسكي وأنا، وشاركنا فريق العاملين في مركز أبحاث الفضاء جميعًا، وأتي بانتا مع والدته بعد غياب طويل، ارتفع صوت الموسيقى في المزرعة وأخذنا نرقص بفرح، هذه المرة لن يقطع ليلتنا نداء عاجل من مركز الأبحاث أو خبر عن ظهور يوفو، كلنا تشاركنا في تلك الأمنية فعلًا، توحدت قلوبنا تصلي لأجل السلام والأمان الدائم.
مرت الأمسية بسلام، وتلتها أسابيع من الهدوء، عدتُ فيها أمارس حياتي السابقة في المزرعة في بضع ساعات من النهار، شعرتُ أن الحرب قد أفقدتني فعلًا الكثير من مرحي وهدوئي، شفاء دايسكي أيضًا ساعد على شعوري بالاسترخاء أخيرًا، فقد عانيتُ من الخوف والقلق كثيرًا، نزف قلبي جواره لأشهر طويلة وعانيتُ من الأفكار المؤلمة والكوابيس البشعة، كنتُ أراه في أحلامي يموت وأنا عاجزة عن إنقاذه، كانت تلك حربًا أخوضها بمفردي كل ليلة، اليوم دايسكي بخير وهذا كفيل بإسعاد قلبي وطمأنته.
عدنا نسهر سويًا – دايسكي وأنا – في المزرعة في ضوء القمر كالأيام الخوالي، وعاد هو أيضًا لقيثارته، عاد بنا المشهد لسنوات مضت مع فارق واحد: أننا كنا نشعر بالحزن سويًا رغم تبدل الظروف وتوقف نزيف الدم والخراب من حولنا، كانت ملامحنا هادئة ولكن داخلنا صوت يئن، لم يكن من الصعب علي أن أرى هذا الصدع الكبير بروح دايسكي حين أنظر لعينيه، وكان هذا الصدع يمتد إلى روحي فيشطرها لنصفين، كنتُ أعرف بماذا يفكر؟ بماذا يشعر؟ لم تغب صورة كوكب فليد عن نظر دايسكي للحظة منذ أن أطلعته عليها الأميرة روبينا، رآى دايسكي وطنه ينهض من جديد ويعود للحياة، لكن متى سيكون ممكنًا أن يرى هذا الوطن بعينيه وأن يطأه بقدمه؟ كان دايسكي كمن سقط في بحر من الحنين، خلال السنوات الماضية كان هو يشعر بهذا الحنين ولكنه كان يقف على شاطئ البحر يرقبه، يرقبه لفترة ثم يستدير عائدًا إلى الواقع، فيرى الأرض وطنًا له الآن، وطن يحبه ويرتضيه، وكنتُ قادرة على احتواء موجات الحنين الجارفة التي تغرقه من وقت لآخر، أما الآن دايسكي قد سقط فعلًا في هذا البحر ولم يعد قادرًا على الرجوع من جديد، أشعر بمعاناته وبمعاناتي أيضًا! وأعجز عن مساعدته.
لم تنقطع زياراتنا لمركز أبحاث الفضاء، فقد عاد دكتور أمون لحياته الطبيعية في المركز، بدا أكثر هدوءًا وسعادة، وكأن العَالِم الكامن بروحه قد تنفس من جديد، توقفت الحرب ولم نعد بحاجة لكل أنظمة الدفاع الموجودة بالمركز، لهذا اتخذ دكتور أمون قراره بإعادة نظم الأمان لما كانت عليه، واستعاد المركز روحه العلمية بدلًا من عباءة القلعة الحصينة التي ارتداها لسنوات عديدة، استمر درس الفضاء كما هو، وعاد دكتور أمون يستكمل مشروعه لتنمية الفضاء، وشُغلنا معه جميعًا – كوجي، دايسكي، ماريا وأنا – بمشروعه، لكننا كنا نعمل وندرس بروح مختلفة، كوجي كذلك بدا سعيدًا وهادئًا، وحده دايسكي كان يعاني من حنين جارف، ووحدي أنا كنت أشعر بأن علي أن أتخذ قرارًا ما لا أعرف إن كنت أقوى عليه أم لا، كانت تلزمني الشجاعة!
في أحد الأيام عزمنا على تحقيق ما اتفقنا عليه منذ أشهر، لا زلت أذكر يوم قالها لي دايسكي: “يومًا ما ستنتهي الحرب وسأدعوكِ للعشاء وسنرقص معًا على أنغام الموسيقى”، كان ذلك بعد أن شُفي دايسكي من جرحه وغمرت السعادة روحينا، في ذلك اليوم قررنا أن نفعل ذلك، فقد انتهت الحرب وعلينا أن نتذوق حلاوة الأيام التي سُرقت منا دون إرادة، ارتديتُ ثوبًا مميزًا لم أرتديه من قبل، اشتريته خصيصًا لتلك المناسبة، وذهبنا للعشاء معًا في طوكيو لأول مرة بدون أسلحة، اخترنا مطعمًا يطل على مدينة طوكيو من طابق مرتفع، تناولنا العشاء، رقصنا على أنغام الموسيقى كما قال دايسكي من قبل، نظرتُ لعينيه بعمق وذراعه تطوق خصري، فرأيتُ الكثير من الحيرة والألم، رأيتُ سعادته ممزوجة بحزن عميق، رأيتُ طيف فليد بعينيه الزرقاوتين، رأيته يسبح فيهما ويغوص للأعماق، أشفقتُ عليه! وتساءلتُ إن كان بإمكان دايسكي أيضًا أن يقرأ ما يدور بخلدي وبيننا بضع سنتيميترات؟ كنتُ سعيدة بقربنا، سعيدة بالسلام، وحزينه لما يعتري روحه من ألم وحنين، بدا أن القدر قد حكم على كلينا بأنصاف الأشياء دومًا، ترى هل..؟!
خرجنا للشرفة معًا، كان القمر بدرًا في تلك الليلة، لم يكن ورديًا ولا منذرًا بسوء أبدًا، فقط قمرًا بسيطًا رقيقًا في طلته علينا، وقفنا متجاورين نرقبه، خيم علينا الصمت، صمتت شفاهنا وبقيت قلوبنا تعصف بالكثير، اتخذتُ قراري، تحليتُ بالشجاعة التي طالما رجوتها لليالٍ طويلة، هتفتُ باسمه فالتفت إلي، وضعتُ كفي على كتفه، لا أعرف إن كان دايسكي قد شعر بتلك الرعشة في كفي المرتجفة أم لا؟! نظرت إلى عينيه مباشرة، ابتلعت ريقي بصعوبة:
اذهب دايسكي!
ورغمًا عني امتلأت عيناي بالدموع ولم أستطع منعها، حاولتُ وفشلت، كان ينظر لي بدهشة:
إلى أين هيكارو؟
إلى حيث تحلم وتتمنى.. إلى فليد!
تعالي معي هيكارو!
أشحتُ بوجهي عنه أخفي ألمي، سحبتُ كفي من على كتفه لتواسي الأخرى، أجبته بالحقيقة المرة، أنا أيضًا بتُّ مثقلة بهموم كثيرة:
ليتني أستطيع دايسكي، ربما ليس الآن.
لماذا؟
جورو لا يزال طفلًا، وقد فقد أمه مرة، ولا أريده أن يفقدها مرتين، أبي أيضًا بحاجة إلي دايسكي و …
ضاعت مني الكلمات، غطيتُ وجهي بكفي وأنا أنتحب رغم كل شيء، شعرتُ به يجذبني إليه، أدار جسدي فصرتً مواجهة له، ضمني إليه فاستكنت بين ذراعيه أبكي بألم، مر وقت لا أعلم كم طال، كنتُ أنا أسترجع حياتي مع دايسكي على نحو سريع، صعب علي تحمل فراقه، صعب علي ما أقوله له الآن، صعب علي أن يذهب دايسكي، لا أحتمل هذا! كان قد أحنى رأسه على رأسي فصرتُ أشعر بأنفاسه الحارة، كنتُ أسمع دقات قلبه فيزيد ألمي، سأشتاق إليك دايسكي، سأشتاق إليك جدًا! أخيرًا رفع هو رأسه، سمعته يقول:
اسمعي هيكارو.. تقول الأسطورة بأن من يُقَبِّل حبيبته في ضوء القمر لا يفترق عنها!
رفعتُ رأسي أنظر إليه، وجدته ينظر للقمر، أجبته:
لم أسمع بها من قبل!
عاد يخفض رأسه لي وينظر لعيني مباشرة، أجابني وهو يمسح دموعي بأنامله:
إنها أسطورة من مكان بعيد..
نظرتُ إليه حائرة فهمس لي:
سأعود هيكارو.. أعدكِ!
قالها وانحنى يقبلني في ضوء القمر لتتحقق الأسطورة! أو هكذا كنا نتمنى.
اجتمعنا بالدكتور أمون بعدها بأيام، أخذنا نتناقش حول مصير كوكب فليد وإن كان من الممكن السفر إليه في الوقت الحالي أم لا، طلب دكتور أمون أن نمنحه الوقت لدراسة الأمر والتثبت منه، أخبرنا بعدها بأسابيع بأن الصورة التي التقطتها الأميرة روبينا حقيقية وأن إشعاعات فيجاترون فعلًا تكاد تكون قد زالت، لكنه رآى في ذهاب دايسكي مخاطرة الآن، لذا طلب منه الانتظار لبضعة أشهر أخرى.
مر عام كامل منذ أن كنا ساهرين في الشرفة معًا في طوكيو ، عام كامل كنا نُمضي فيه كل ساعة وكل دقيقة معًا، كنا نحاول أن نملأ عقولنا بما يكفي من الذكريات التي ستعيننا على ما هو آتٍ، كان دايسكي أيضًا يشاركني الكثير من تساؤلاته ومخاوفه، وجود فيجا بشخصه على قاعدة القمر كان محيرًا لدايسكي، لماذا ترك فيجا الكبير موطنه البعيد وأتى إلى هنا؟ ماذا حل بالكواكب الأخرى؟ هل من الممكن أن يكون هناك أحياء آخرون من كوكب فليد مثل نايدا وكاين والعجوز الذي نجا بماريا؟ وإن كان هناك أحياء فكيف سيتمكن دايسكي من العثور عليهم؟ كيف هو شكل كوكب فليد الآن؟ ماذا عن آثار إشعاعات فيجاترون على الكوكب؟ وهل سيجد كوكب فليد صالحًا للحياة فعلًا؟ ماذا عن بقية قوات فيجا المنتشرة هنا وهناك؟ ماذا عن بقية الإمبراطورية؟ هل انهارت بموت فيجا الكبير أم أنها ستنهض من جديد؟ كانت تساؤلات دايسكي كثيرة وشائكة وبدون إجابات للأسف.
لكن البارحة .. رحل دايسكي، رحل إلى كوكب فليد، اختار كوجي أن لا يشاركنا تلك اللحظات الأخيرة، بكى جورو على رحيل دايسكي، حزن أبي بصدق، تجلد دكتور أمون، نزلت عبرة من عيني، أحنى دايسكي رأسه، صافح دكتور أمون وقبل هدية جورو المتواضعة: بذور أرضية هدية سلام بيننا وبين كوكب فليد، أهدى جورو ماريا باقة زهور، أعرف تلك الباقة جيدًا، لقد كانت هدية كوجي لها، شعرت ماريا بذلك وضمت الباقة إلى صدرها، هتفتُ باسم دايسكي ولم أستطع أن أقول شيئًا، حاولتُ أن أقاوم، أن أتماسك، أن أبدو قوية بما يكفي في تلك اللحظة، لكن وأنا وحيدة في غرفتي الآن أشعر بالانهيار، قلبي يحترق، أتمنى أن يجد دايسكي ما يبحث عنه فعلًا، أتمنى أن يجد موطنه حيًا وأن يتمكن من إعادته كما كان، وأتمنى أن يعود من جديد، اتمنى أن أراه أو أن أسمع عنه! ترك لي دايسكي قيثارته وملابسه وكمًا كبيرًا من الذكريات، ترك لي هيكارو بعد أن تغيرت بكل ما فيها، ترك لي الأحلام والخوف والقلق والأمل .. والكثير جدًا من الدموع!
اترك تعليقًا