الحلقة التاسعة عشرة – آخر أسابيع الشتاء
منذ أسابيع مضت انضم دايسكي لفريق العاملين في مركز الأبحاث بشكل رسمي، أخبرني بذلك وكنت مسرورة به، حين يتحدث دايسكي عن الفضاء والكون أشعر أن هناك رابطًا قويًا بينه وبين هذا العالم الغامض، لهذا قدرت أن عمله هناك سيكون شيئًا سارًا، لكن تفاجأت من عدم سعادته وقتها، كان عليه أن يذهب يوميًا لمركز الأبحاث وفي أوقات محددة، كما حمل دايسكي جهاز اتصال خاص للطوارئ، لم يغب دايسكي كليًا عن نهاري، بل كان يأتي للمزرعة من وقت لآخر، لكنه كان يقضي معطم لياليه في المركز، عرفت أن دكتور أمون يحرص على التحاق العاملين بالمركز ببرامج دراسية خاصة؛ لهذا كان على دايسكي إتمام دروس الفضاء بانتظام كما كان يسميها الدكتور أمون، الحقيقة أني تمنيت أن انضم لتلك الدروس يومًا، لطالما أثار مركز الأبحاث الذي يديره دكتور أمون شغفي وتمنيت أن أنضم إليه ذات يوم، لكن هذا يعني المزيد من الجهد والتحصيل العلمي، فهل أتمكن من ذلك في المستقبل؟!
في تلك الفترة، وبينما نتطلع لقدوم الربيع حدثت أشياء كثيرة شغلتني عن الكتابة، في أحد الأيام كنت مع جورو وبانتا في مشوار خاص، فور عودتي رأيت دايسكي وكوجي متوترين، كان كوجي يمسك بعجلة قيادة السيارة الجيب التابعة لمركز الأبحاث، بينما دايسكي يقف أمامه فاردًا ذراعيه يمنعه من التقدم، ثم نزل كوجي وأخذا يتحدثان، لم أتمكن من سماعهما لكني حين ناديت على دايسكي أعلمه بعودتي أجابي بحسم واقتضاب، إذن يوجد ما يدعو للقلق! لم تطل حيرتي فقد ظهرت الصحون الطائرة فجأة وأخذت تقصف المزرعة، فقدرت أن هذا سبب الخلاف، أذكر جيدًا ما حدث فور وصول كوجي، لهذا أرجأت ما حدث لهذا السبب.
حاول دايسكي أن يبعدنا – جورو وأنا – عن الخطر، طوقنا بذراعيه وهو يقول: “الأفضل أن تختبآ” واندفع نحو أبي يقنعه بالنزول من أعلى برج المراقبة الخاص به، لكن أبي لم يستمع إليه وكذلك بانتا الذي اندفع يتسلق البرج، في ذلك الوقت كاد قلبي أن يتوقف من الرعب، لقد أصيب البرج وانهار فجأة، رأيت أبي وبانتا يسقطان والبرج ينهار فوقهما، غطيت وجهي بكفي ولم أكن أملك الشجاعة الكافية لرؤية ما سيحدث، لكن حين لم أسمع صراخ جورو الواقف بجواري أبعدت كفيَّ عن وجهي ورأيت دايسكي جوار أبي وبانتا بعيدًا عن البرج، شكرت الله واندفعت نحوهما، أنا متأكدة أن دايسكي استطاع أن ينقذ الاثنين في اللحظة الأخيرة، آه، لا زلت ممتنة لدايسكي ومدينة له بالكثير.. بالكثير جدًا! في تلك الأثناء طار كوجي بالتيفو دون أن يقول شيئًا ورأيت الاستياء باديًا على وجه دايسكي و.. اختفت الصحون الطائرة من السماء!
غادر دايسكي لمركز الأبحاث كالمعتاد ومضى اليوم بسلام، ولكننا استيقظنا وقت شروق الشمس على أصوات الانفجارات والقصف، لقد عادت الصحون الطائرة وكانت تقصف المزرعة بشراسة، لم تكن نفسها التي رأيناها بالأمس وإنما صحونًا أكبر وأشرس، تدمرت أشياء كثيرة في مزرعتنا وكذلك المزرعة المجاورة لنا، واحترق بيت بانتا! أتى دايسكي وقتها في سيارة كبيرة تابعة لمركز الأبحاث واصطحبنا جميعًا إلى ملجأ تحت الأرض داخل المركز وطلب منا البقاء هناك وعدم مغادرة المكان، بقينا في الملجأ لساعات ربما ساعتين أو ثلاثة، بعدها عاد دايسكي ليطمئننا ويعود بنا للمزرعة التي كانت في حالة مدمرة.
كبدنا هذا الهجوم الكثير من الجهد والوقت، وكنا نعمل يوميًا لساعات طويلة، وتعاون كوجي معنا في تلك الأيام لإصلاح ما أفسده القصف المفاجئ.
في تلك الفترة بدأنا نكون صداقة جديدة دايسكي وأنا وكوجي، كنا نتجول كثيرًا معًا، نتحدث، نضحك، نتجادل…، وفي أحد الأيام كنا في نزهة معًا، كان الربيع على الأبواب وقد استطاعت بعض الزهور أن تخترق الثلوج الكثيفة وتزهر معلنة عن قدوم الربيع، أه.. هذا الربيع هو الربيع الأول بعد تخرجي من المدرسة، آمل أن يحمل لي أخبارًا وأحداثًا سعيدة!
وبينما كنا نتجول ثلاثتنا رأيت جورو يلعب بصحبة عدد من الأولاد الصغار، وعلى التلة البعيدة طفل يصغرهم عمرًا يقف وحيدًا وينظر في صمت، يقذف الثلج بقدمه تاره، ويلقي نظرة على جورو وأصدقائه تارة أخرى، شعرت بعاطفة غريبة تجاة الصغير، حاولت أن أتذكر شيئًا عنه فلم أعرفه، لكني تذكرت أن عائلة أوتا تسكن بالقرب منا وربما يكون أحد أبنائهم، شاركني كوجي الاهتمام بالطفل في حين بقي دايسكي صامتًا وشاردًا تمامًا، ناديت جورو وسألته عن الطفل الصغير فعرَّفني باسمه، قال أن اسمه مانكيتشي وأنه يفضل البقاء وحيدًا، ويبدو أن جورو قد حاول دعوته للعب معه في مرات سابقة وأنه رفض، فلقد قال لي جورو وكأنه يسعى لتبرئة نفسه: “إن كنتِ لا تصدقينني فحاولي أن تسأليه بنفسك” وبينما كنا نتحدث استدار مانكيتشي ورحل عنا!
أكملنا نزهتنا ولم يغب مانكيتشي عن بالي، ثم تفرق كل منا لأداء عمله، وبينما أنا أجمع الزهور لوضعها في المزهرية سمعت صوت حصان يقترب مني، التفت إلى جهة الصوت فرأيت دايسكي على الحصان ومانكيتشي بين ذراعيه، تفاجأت حين رأيتهما! كيف استطاع دايسكي أن يجد مانكيتشي؟ وكيف أقنعه بالقدوم معه إلى هنا؟ قفز مانكيتشي من الحصان واندفع نحوي بلهفة وشوق أثارت دهشتني، أخذ يخاطبني باسم أوري، ألقي بنفسه بين ذراعي، لدهشتي حاولت أن أخبره أني لست أوري وأن هناك خطأً، لكنه كان مصرًا بشدة، كان يبكي ويهتف: “أنت أوري من كنت تسكنين بجوارنا أنا متأكد” لم أتمالك نفسي، أشفقت على الصبي ورق قلبي له، احتويته بين ذراعي ثم اصطحبته إلى الداخل، وقضينا النهار معًا نتحدث.
روى لي مانكيتشي عن قريته، وأشار لي بمكانها خلف الجبل الكبير المواجه لمزرعتنا، أخبرني أن له بيتًا جميلًا هناك، وأنه يذكر الأيام التي عاشها في القرية بصحبة والده، أخبرني عن “أوري” بعد أن اطمأن إلي وتأكد أني لست هي، كانت أوري جارة مانكيتشي فيما مضى، وكانت حنونة عليه، وشاركت والده في تربيته بعد وفاة أمه، مانكيتشي لم يرَ أمه من قبل، لقد ماتت المسكينة يوم ولادته، لهذا كان يشعر بحرمان عاطفي دائم، وكانت أوري تمنحه الكثير من حبها وحنانها، لكن والد مانكيتشي لم يعش طويلًا للأسف، وبعد وفاته قامت أسرة أوتا فعلًا بتربية مانكيتشي، لهذا ترك قريته وانتقل للعيش بجوارنا، كان مانكيتشي يحلم بالعودة إلى قريته من جديد، وكان يحتفظ بصورة لها في جيبه باستمرار، سألته عن السبب الذي يجعله يفضل الوحدة، فأخبرني أنه لا يشعر بالوحدة حين يجلس بمفرده، إنه يأنس بأفكاره وذكرياته البعيدة، كان رد مانكيتشي مدهشًا بالنسبة لي، تذكرت صمت دايسكي وعزلته وتساءلت: ترى أيكون دايسكي يأنس بذكريات قد مضت فعلًا؟! لا أدري، حين ذكرت دايسكي بداخلي سمعت مانكيتشي يتحدث عنه أيضًا، أحب مانكيتشي دايسكي رغم عدم معرفته به، قال لي أنه صديقه العزيز، كيف استطاع مانكيتشي أن يكون عاطفة كتلك مع دايسكي رغم التقائهما نهار اليوم فقط؟
لسوء الحظ تعرضت قرية مانكيتشي هذا اليوم لحادث مروع، لم تظهر صحون طائرة والحمد لله؛ ولكن سقطت أحجار كبيرة على القرية، قالت نشرة الأخبار أن معادن جوية اخترقت فضاء الأرض وسقطت على أرض اليابان بالقرب منا، رأيت التماعات في السماء خلف الجبل الذي يعتقد مانكيتشي بأن قريته تقع خلفه فقدرت أن المعادن الجوية قد هاجمت القرية وربما دمرتها، حزنت واحتفظت بحزني داخل قلبي ولم أخبر أحدًا به حتى جاء الليل، كنت أتفقد جورو ومانكيتشي الذي قضى ليلته معنا فلم أجده في غرفته، اندفعت وقتها نحو غرفة دايسكي أخبره باختفاء مانكيتشي وبشكوكي حول ذهابه للقرية.
لاحظت تعاطف دايسكي مع مانكيتشي وحبه المفاجئ له، لم يقضِ دايسكي ليلته في مركز الأبحاث هذا اليوم، وإنما عاد مساءً وشاركني في العناية بمانكيتشي ومحاولة التخفيف عنه وتسليته، بعد أن عرف دايسكي باختفاء مانكيتشي اندفع للبحث عنه متجهًا نحو القرية، مضت ساعة أو أكثر وعاد دايسكي بدون مانكيتشي فشعرت بالخوف، سألته بتوتر عما حدث، فأخبرني أنه كان هناك بالفعل، وكاد أن يعود به لولا أن نادت فتاة تشبهني – مع شعر طويل وزي مختلف تمامًا – على مانكيتشي، لقد كانت أوري، وأنه تركه معها بعض الوقت.
في الصباح عدنا سويًا للقرية لاصطحاب مانكيتشي، رأيت أوري وهي تودع مانكيتشي وكانا يتواعدان معًا، كان يقول لها: “سآتي ثانية” وترد عليه: “سأكون بانتظارك وستعود القرية كما كانت” آه. أثار وداعهما الكثير بداخلي حقًا، عدنا سوية وودعنا مانكيتشي نحن أيضًا بعد أن أوصلناه إلى بيت أوتا.
في تلك الليلة سهرنا نتحدث عن مانكيتشي طويلًا، حدثني دايسكي كيف وجده أول مرة وكيف أقنعه بالقدوم معه، وصف لي دموع مانكيتشي حين وجده للمرة الثانية في القرية وهي متهدمة ومحترقة، لقد أثار مانكيتشي الكثير من العواطف بداخلنا وكنا ثلاثتنا بلا أم!
اترك تعليقًا