الحلقة 72 – إكرامًا لدايسكي
أنا مضطربة ولا أعرف من أين ينبغي علي أن أبدأ؟! الحلم، نعم تلك هي، لقد بدأ كل شيء بحلم غريب وتفاصيل أكثر غرابة، ليس حلمي أنا، بل حلم ماريا، ليلة أمس الأول تنبه كوجي ودايسكي لصوت دراجة نارية ليلًا، حين أطلا من النافذة لمحا دراجة ماريا تغادر المكان، لهذا لحقا بها، خمنا وجودها في مركز الأبحاث وقد كان تخمينهما صائبًا، عندما وجداها كانت تستعد لدخول سبيزر الحفار، أخبرني دايسكي بأنها بدت في حالة غير طبيعية، كان يسألها عما بها فتردد: “أبي، سأكون هناك لإنقاذه، أبي” لهذا لم يكن أمام دايسكي بديل عن صفعها مكرهًا في محاولة منه لإفاقتها وإخراجها من حالة الهذيان تلك، بالفعل أفاقت ماريا وبدت متفاجئة مما حولها، حملها دايسكي لغرفتها وحاول تهدئتها وتركها نائمة.
في الصباح روى لي دايسكي ما حدث، وبينما نحن نحتسي قهوتنا كانت ماريا شاردة جدًا، سألها كوجي عما حدث لها فأجابت بارتباك: “لا أعرف، ربما كنت أحلم، كل ما أذكر أنه في برق ليلة أمس ورعدها شاهدتُ..” قاطعها كوجي فجأة مستنكرًا بقوله: “رعد وبرق؟! أمس كانت الليلة صافية” زاد ارتباك ماريا جراء تعليق كوجي، فحاولتُ مساعدتها على التحدث وإفراغ ما يزعجها قائلة: “هاتي أخبرينا عن حلمك” وهنا كانت المفاجأة، ذكرت ماريا بأنها رأت أباها، وأنه كان أسيرًا لدى قوات فيجا، وأنه حُمِل إلى الأرض على وحش فيجا فيجا، انزعج دايسكي من رواية ماريا فرد عليها بصرامة: “ماريا، ما هذا إلا حلم”، لكن ماريا كانت واثقة مما رأت فأجابته بقوة: “أعرف! لكن كل ما رأيته في الحلم تحقق حتى الآن دايسكي”، لم تكن تلك الأحداث مبشرة بالخير أبدًا، شرد دايسكي ببصره قليلًا ثم عاد يجيب ماريا:
ماريا، أعتقد أن أباك وأمك ماتا عندما تداعى نجم فليد.
ربما نجوا من هجوم العدو كما فعلنا أخي.
من الخير أن تنسي كل شيء عن حلمك ماريا.
أخي..
كم كان دايسكي حنونًا على ماريا وهو يخبرها بحقيقة موت والديه! هو رآى موتهما بعينيه ولا يشك بذلك لحظة، ومع ذلك لم يخبر ماريا بالحقيقة بقسوة، قال لها “أظن أنهما قد ماتا”، الآن وبعد تلك الليلة العصيبة أجدني أتساءل: هل كان اختيار دايسكي لهذا الرد الحنون وقتها هو الصواب؟
حاول دايسكي إلهاء ماريا، فاقترح عليها أن نذهب للمزرعة لرؤية أبي، ماريا تحب أبي وجورو وربما ساعدتها رؤيتهما على استعادة طبيعتها ومرحها، وبالفعل ذهبنا وضحكنا عداها هي، لقد بقيت طيلة الوقت شاردة ومتجمدة في مكانها حتى جاءنا اتصال الدكتور أمون يخبرنا بظهور يوفو ويطلب منا الإسراع للمركز.
خرج دايسكي لمواجهة اليوفو في النقطة التي حددها السيد هياشي، النقطة الزرقاء 1.8.6، لا أظن أنني سأنسى هذه النقطة بسهولة! على أية حال فقد خرج دايسكي وطلب منا البقاء في المركز كفريق للعناية بماريا وانتظار عودته، لكن ماريا أصرت على اللحاق به، كانت في حالة انفعال شديدة، وكانت مؤمنة بما رأته في حلمها، حاول كوجي إثناءها لكن دون جدوى، واضطر للحاق بها، في حين بقيتُ أنا في غرفة المراقبة مع دكتور أمون، لم يمضِ الكثير من الوقت حتى انسحب الكل عائدون لمركز الأبحاث واختفى وحش فيجا تمامًا، عاد جريدايزر بالقيادة الذاتية وهو ما أثار قلقي، وسمعنا صوت كوجي في جهاز الاتصال يهتف:
دكتور أمون أصيب دايسكي!
كانت كلماته كالخنجر الذي ينغرس بصدري، رأيتُ جريندايزر يعود قبل البقية فاندفعتُ خارج الغرفة، سمعتُ دكتور أمون يستوقفني:
إلى أين هيكارو؟
إلى محطة جريندايزر!
لم أكن قادرة على البقاء لفترة أطول، حالة دايسكي تستاء يومًا بعد يوم وما يحدث الآن لا يبشر بالخير أبدًا، ركضتُ مسرعة إلى حيث محطة وصول جريندايزر، أعرف هذا الطريق جيدًا، أذكر يوم سرتُ فيه لأول مرة برفقة دايسكي ليلًا، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها جريندايزر، وأذكر أيضًا يوم ركضتُ فيه مسرعة للحاق بكوجي أمنعه من ركوب جريندايزر يوم أصيب دايسكي بالصدمة جراء ما حدث بينه وبين نايدا، وأذكر ركضي فيه ملتاعة يوم رأيتُ دايسكي ينهار في كابينة القيادة، وأذكر دموعي يومها لنجاته، يالا كل تلك الذكريات! لو أن بإمكاننا أن ننسى لصارت حياتنا أيسر وأخف وطأة!
وصلتُ إلى محطة جريندايزر، رأيتُ باب السد يُفتح وجريندايزر يندفع نحو قاعدته وقد هدأت سرعته، كان قلبي يخفق بقوة ركضتُ نحوه، رأيتُ قمرة القيادة تُفتح ودايسكي يخرج منها، دايسكي لا زال على قيد الحياة حمدًا لله! كنتُ أعاني قلقًا لا حدود له، دقات قلبي تتسارع رغمًا عني، رأيته يقفز من قمرة القيادة وهو يهتف باسمي، أسرعتُ إليه، كان الألم محفورًا على قسمات وجهه، رفعتُ ذراعه الأيسر على كتفي وطوقتُ ظهره بذراعي الأيمن:
اعتمد علي.. ودعنا نسرع للطبيب!
بالفعل استند دايسكي إلى كتفي وسرنا نحو المركز الطبي، في الطريق أخذ يحدثني بهدوء:
كان هو الوحش ذاته الذي رأته ماريا في حلمها.
معقول!
فيجا فيجا شرس للغاية، يستخدم أشعة فيجاترون كسلاح مباشر.
يا إلهي!
عرفتُ الآن سبب الألم الشديد الذي يعانيه دايسكي، يتأثر دايسكي بأشعة فيجاترون ويزداد ألمه باقترابه منها لكن هذه المرة أصابته الأشعة مباشرة، فظيع!
وصلنا إلى المركز الطبي، ساعدتُ دايسكي على التمدد على فراشه وأسرعتُ بالاتصال بالدكتور أمون أخبره بما حدث، كان جرح دايسكي ينزف بالفعل فأسرعتُ بنزع قميصه وتضميد جرحه ريثما يصل الطبيب، وصل الطبيب فعلًا برفقة دكتور أمون ولحق بهما كوجي وماريا اللذان وصلا لتوهما، أخذ الطبيب يفحص دايسكي وأخبرنا أن ذراعه ملتهبة بشدة وأنه بحاجة لعلاج إشعاعي كامل، كانت هذه هي المرة الأولى التي يصاب فيها دايسكي على هذا النحو في وجود ماريا، بدت ماريا مرتبكة، جلست على ركبتيها جوار فراشه وحاولت الاعتذار إليه عما حدث، شعرتْ أنها المسؤولة عما يعانيه الآن، ماريا لم تمتثل لطلب دايسكي بالبقاء في المركز وأصرت على اللحاق به، لهذا شعرت بأنها السبب في إصابته، مسكينة ماريا! هي لم تعش ما عشناه من قبل!
بدأ دايسكي يهدأ قليلًا، حاول أن يكون أكثر تماسكًا في وجود ماريا، طمأنها وأخبرها بأنه سيكون بخير، سأل كوجي عن المكان الذي اختفى فيه وحش فيجا فأخبره بأنه اختفى عند النقطة 5.0.4، لا زال دايسكي قادرًا على الاحتفاظ بصفاء ذهنه وتركيزه رغم الألم، سأل كوجي إن كانت هذه النقطة تقع في هوكايدو، هنا تدخلت ماريا وطلبت من دايسكي أن يسمح لها بالذهاب إلى هناك فرفض بهدوء.
لكن ماريا لم تتقبل رفض دايسكي، هي أيضًا كانت تعاني، أخذت تكرر ما رأته بحلمها، أكدت لدايسكي أن الوحش الذي رأته اليوم هو نفسه ما رأته في حلمها، قالت أنها رأت أباها في الحلم، وأنه كان يطلب مساعدتها، وأن الرجل الذي رأته في وحش فيجا هو أباها، قالت أنها سمعت صوت أمها أيضًا تدعوها لمساعدته، كان دايسكي يستمع إليها بصمت، كان مندهشًا من شدة إيمانها بما رأته في حلمها، وكان يشعر بالألم والضعف وبالكاد يتماسك لأجلها، كوجي وأنا أيضًا كنا في حالة دهشة، تبادلنا نظرة متسائلة، حاول دايسكي حسم هذا النقاش المؤلم، قال لها بنبرة متألمة وهو يعاني، كانت في صوته نبرة رجاء مزقت قلبي:
ماريا، والدنا توفي عند تدمير النجم فليد.. صدقيني!
لكني رأيته.
ماريا!
وصل دايسكي لأقصى درجات الألم، كنتُ أراقبه عن كثب، كنتُ أرى داخله أمامي وكأني أطالع كتابًا مفتوحًا، كان ينهار شيئًا فشيئًا، لكن ماريا كانت غارقة في حلمها وعذابها هي أيضًا، بدا أن الاثنين غير قادرين على التواصل معًا فعلًا، استدارت ماريا جالسة على الأرض وهي تؤكد لدايسكي أن من رأته اليوم هو والدها، وكان هو يعتصر عينيه من الألم.
تدخل كوجي لحسم الموقف، أخبر ماريا مطمئنًا أننا سنذهب ونرى ما إذا كان والدها أم لا، حاولتُ أن أقول شيئًا، تمنيتُ لو أن لي الحق أن أروي لماريا ما حدث منذ سنوات حين رآى دايسكي والدته أيضًا لكني ابتلعتُ كلماتي، كان الموقف حساسًا جدًا ومشاعر الكل ملتهبة فصمتُ، رفض دايسكي كلام كوجي وظهر عليه التوتر الشديد وهو يهتف:
لا تذهب يا كوجي .. هذا فخ ستوقعنا به قوات فيجا!
اقترب كوجي من فراش دايسكي وأمسك ذراعيه بقوة وهو يهتف:
لا تخف يا دايسكي سأحميها! أعدك بذلك.
لكن دايسكي كان مصرًا على رأيه، ظل يردد كلمة “لا” وكأنه يستجدي كوجي ألا يفعل، وكان جسده يرتعش بشدة من الألم، لم يكن دايسكي قادرًا على الحركة أو الخروج لمعركة جديدة، وكان هذا الشعور بالضعف يزيد من توتره وآلامه، كان خائفًا على ماريا وغير قادر على حمايتها، في المقابل كان كوجي مصرًا على تطمين ماريا، كوجي يؤمن بأن مواجهة الأكاذيب هي أفضل طريقة لإبطالها، وكان قربه من ماريا يدفعه لمساعدتها على الخروج من تلك الأزمة، استدرك كوجي حديثه محاولًا إقناع دايسكي:
أعرف أن هناك خطرًا؛ لكن ماريا تريد أن تتحقق من أن الرجل أباها، دعها تذهب يا دايسكي!
ثم استدار ينظر لماريا وقد أولى ظهره لدايسكي، أخذ يسترسل بحديثه:
إني أفهم.. قالت أنها رأت أباها وأريد أن أصدقها.. دايسكي، ستكون سعيدًا إن بقي أبوك على قيد الحياة، ماريا لا تصدق أن أباها قد مات وأنا أفهم شعورها، وإذا كان أبوك أسيرًا بيد الأعداء فعلينا أن ننقذه.
كان يقول كلماته بحماس حقيقي وبنبرة صادقة وكنتُ مندهشة مما يقول حقًا، أنا أعرف أن والدي دايسكي قتلا أمام عينيه لهذا فأنا أؤيد موقف دايسكي وأعتقد اعتقاده بأن ما يحدث هو فخ حقيقي، حاولتُ أن أقول شيئًا، حاولتُ أن أستوقف كوجي لكن بعد فوات الأوان، لقد مد كوجي يده لماريا وأنهضها وهو يهتف:
هيا يا ماريا!
أطاعته هي فورًا واندفع الاثنان خارج الغرفة، في تلك اللحظة انتفض دايسكي جالسًا في فراشه، كان يتألم وينادي كوجي، فالتفتُ إليه، كان يضغط على أسنانه بشدة، كان الألم يعتصره لدرجة لم أرها من قبل، أمسكتُ ذراعيه أحاول احتواءه وأنا أنادي على كوجي بدوري وأطلب منه أن يتوقف، لكن كوجي قد ذهب ولم يلتفت لنداءاتنا، عدتُ أنظر لدايسكي الذي بدأ يتألم على نحو مسموع، شعرت بالعجز في تلك اللحظة، ماذا علي أن أفعل؟
كان دايسكي يحدثني وكأنه يحدث نفسه:
ليذهبا.. ليذهبا يا هيكارو! قد يكون كوجي على حق!
قالها وشرد ببصره للحظات:
أنا أذكر! كانت أمي تقترب مني، أعرف أن الميت لا يعيش مرة أخرى، لم أستطع السير إليها، عرفتُ أنها ليست أمي؛ ولكن كنت أقول ربما كانت أمي؟!
ثم أغمض عينيه وهو يستطرد:
إنها النفسية بين الأم والابن، أجل.. إنها النفسية!
كنتُ أستمع إليه بهدوء، أعرف هو بحاجة للتنفيس عن آلامه، أذكر جيدًا هذه الذكرى التي تحدث عنها، أذكر إصابة دايسكي في ذلك اليوم أيضًا، ما أشبه اليوم بالأمس!
لكن آلام دايسكي الجسدية انتصرت في النهاية، هذه المرة لم يكن قادرًا على تطميني كعادته، لقد كان يعبر عما يشعر به بوضوح، كان بين ذراعي يهتف بألم:
ذراعي تؤلمني.. آه.. ذراعي تؤلمني!
حاولتُ تهدئته، ساعدته على التمدد على فراشه من جديد، أخذتُ أربتُ على كفه وأطمئنه بأن كوجي قادر على حماية ماريا وأن بإمكانه الاعتماد عليه، طلبتُ منه أن يهدأ وأن يخلد للراحة ريثما ينهي الطبيب معالجته، كان يقول لي بأن عليه أن ينتهي من هذا سريعًا وأن يلحق بكوجي وماريا، قال أن الوحش الذي قاتله اليوم أقوى من سبيزر المزدوج والسلاح الثاقب، كنت أستمع إليه وأحاول امتصاص آلامه وتوتره لكن هذه المرة كانت أصعب من كل ما فات.
مضى ما يقرب من نصف ساعة، وحضر الدكتور أمون برفقة الطبيب مجددًا، بدأ الطبيب يستعد لمعالجة ذراع دايسكي، لقد جاءت توصيات الدكتور هانز الأخيرة في وقتها فعلًا، فمع ما يعانيه دايسكي مؤخرًا اقترح دكتور هانز تزويد المركز بأجهزة خاصة بالعلاج الإشعاعي المناسب لتمكيننا من تقديم الدعم اللازم لدايسكي سريعًا، كما أرسل أحد الأطباء المتخصصين لديه في إعارة طويلة الأجل إلى مركز أبحاث الفضاء ليشرف بنفسه على ذلك، في المقابل أتاح دكتور أمون للطبيب المختص الفرصة للدراسة والاستفادة من إمكانيات المركز.
طلب مني دايسكي أن أبقى في غرفة المراقبة وأن أتابع ما يحدث مع كوجي وماريا ريثما تنتهي جلسته الإشعاعية ففعلت، غادرتُ الغرفة وتركته بصحبة دكتور أمون والطبيب، توجهتُ لغرفة المراقبة وقلبي يصلي لأجل دايسكي وسلامته، اتصلتُ بكوجي وعرفتُ بأن الاثنين يتجهان للنقطة التي حددها السيد هياشي والتي اختفى عندها وحش فيجا، وأنهما قرييان من النقطة المنشودة، أوصيته بالعناية بماريا فأكد لي أنه سيفعل، سألني عن دايسكي فأخبرته أن الطبيب معه الآن، وبقيتُ أتابع ما يحدث مع كوجي، هبط الاثنان فجأة وانقطع الاتصال بيننا، في تلك اللحظة وصل دايسكي لغرفة المراقبة، رأيته يقف على قدميه فغمرتني السعادة، أسرعتُ إليه وأنا أهتف:
حمد لله على سلامتك!
أين هما الآن يا هيكارو؟
لقد هبطا على شبه جزيرة شيكوتان.
حسنًا، سألحق بهما.
هل لي أن أرافقك؟!
كنتُ قلقة من خروج دايسكي من جديد وتمنيتُ أن أرافقه في معركته، لكنه مد يده يحتوي كفي بين كفيه وقال وهو ينظر لعيني بصدق:
لا هيكارو، ابقي هنا وراقبي ما يحدث، لن يكون توجيه الضربات لهذا الوحش سهلًا في وجود ماريا.
أومأتُ له برأسي متفهمة، كانت المعركة شديدة الحساسية وأنا أدرك ذلك ولم أشأ مجادلة دايسكي، فاستطرد:
سأعود.. أعدك بذلك!
قالها واندفع نحو الباب فاستوقفته وأنا أهتف من أعماق قلبي:
انتبه لنفسك دايسكي!
التفت إلي:
سأفعل.
قالها واندفع مغادرًا، بقيتُ أتابع ما يحدث على الشاشة، رأيتُ خروج جريندايزر، وانضم إلي دكتور أمون، وصل جريندايزر لشبه جزيرة شيكوتان وبدأت المعركة، للمرة الثانية لم تدم المعركة طويلًا، وللمرة الثانية انقض الوحش بشراسة على جريندايزر، لم نتمكن من الاتصال بدايسكي وكوجي وماريا، وكانت أجهزة الاتصال لا تجيب لدى ثلاثتهم، كان الموقف موترًا للغاية، أخيرًا سمعنا صوت دايسكي يخرج من جهاز الاتصال:
أبي، قضيت على وحش فيجا، نحن عائدون الآن!
قالها وأغلق جهاز الاتصال على الفور، لم أستطع البقاء أكثر في غرفة الرصد، انسحبت بهدوء دون أن ينتبه إلي أحد، كان القلق يعصف بنفسي لذا أخذت أعدو بكل ما أوتيتُ من قوة في ممرات المركز المتشابكة، تلاحقت أنفاسي بشدة، رسم عقلي ألف صورة وصورة، كنتُ أرتعد، خشيتُ على دايسكي كثيرًا، لم تمضِ على إصابته الأولى سوى بضع ساعات وقد عانى خلالها الكثير، ما الذي يمكن أن يحدث له بعد هجوم فيجا فيجا عليه مجددًا؟ شعرت أنني على وشك الاصطدام بواقع أسود لم أقوَ على مجرد تخيل تفاصيله، كل ما كنتُ أتمناه أن أتمكن من رؤية دايسكي وسماع صوته من جديد، أعترف الآن وأنا وحيدة غرفتي بأني كنت متشائمة إلى حد كبير، في تلك اللحظات العصيبة، لم أجد أمامي أي منفذ يمكن لنور الأمل أن يصلني عبره، لكن حين وصلت إليه وصار علي مواجهة هذا الواقع لا مجرد تخيله أو خشيته – حينها أدركتُ أن الخيال يعذبنا بأكثر من واقعنا مهما بدا سيئًا، ففي لحظة وصولي كان جريندايزر على قاعدته بالفعل وكوته مفتوحة، رأيتُ دايسكي يقفز منها، ما إن لامست قدماه الأرض حتى انهار على ركبتيه، كان الدم باديًا على قميصه، كان جرحه بنزف مجددًا، اندفعتُ نحوه بسرعه، نزلتُ على ركبتي أمامه، رفعتُ رأسه بيدي أنظر لعينيه، حملت عيناه كمًا كبيرًا من الإنهاك، هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها دايسكي بهذه الحالة السيئة، انخلع قلبي واستجمعتُ نفسي وأنا أحدثه:
ستكون بخير يا عزيزي.. اطمئن!
حاول أن يجيبني فوضعت إصبعي على شفتيه وأنا أهمس:
هيا!
ساعدته على النهوض، والاعتماد علي، شعرت بثقل وزنه وهو معتمد على كتفي فقدرت حجم آلامه، همس لي:
دعينا نذهب لغرفتي رجاء!
لماذا دايسكي؟ أنتَ بحاجة لرعاية طبية!
أرجوكِ!
أومأتُ له برأسي موافقة ولم أشأ مجادلته وهو بهذه الحالة، وتوجهنا فعلًا باتجاه غرفته، سمعتُ أزيز جهاز الاتصال في قلادتي لكن لم أتمكن من إجابته، قدرتُ أنه دكتور أمون لكن ليس باليد حيلة، سرنا بهدوء وقد غلفنا الصمت تمامًا، ليس لدي ما أقوله فعلًا، ودايسكي بدا في حالة لا تسمح له بالكلام أبدًا، رحماك يارب!
وصلنا لغرفة دايسكي أخيرًا، ساعدته على الجلوس على الأريكة الصغيرة الموجودة بالغرفة، وأسرعتُ للاتصال بدكتور أمون:، بضع جمل موجزة: “دكتور أمون، نحن في غرفة دايسكي الآن.. حالته سيئة.. لا.. لا.. هو أراد ذلك.. حسنًا دكتور” وأغلقتُ الهاتف واتجهتُ نحو دايسكي، كان مغمض العينين وقد شحبت ملامحه كثيرًا، أسرعتُ إلى حقيبة الإسعافات الأولية وأنا أحدثه:
علينا أن نسرع بتضميد جرحك!
فتح عينيه بصعوبة دون أن ينطق بحرف:
دعني أساعدك؟!
قلتها وأنا أجلس على الأريكة جواره، مددتُ يدي أحل سترته، ثم ساعدته على خلع سترته وقميصه، وبدأتُ بحل الضماد القديم حول ذراعه، كانت ذراعه ملتهبة بشدة، وكان الدم غزيرًا إلى حد ما، نظفت الجرح ولففتُ ضمادًا نظيفًا حوله، أثناء ذلك تحدث هو بنبرة خافتة وكأنه يحدث نفسه:
لقد شُلَّ ذراعي في المعركة!
وقعت الكلمة على مسامعي كصخرة هائلة، التفتُ إليه أسأله بجزع
بإمكانك تحريك ذراعك الآن؟ صحيح؟!
مضت الثواني بين سؤالي وجوابه كدهر كامل، كان من الصعب علي تحمل ما يقول أو محاولة تخيله، حالة دايسكي تزداد سوءًا على نحو مرعب حقًا، أومأ لي هو إيجابًا وهو يحرك ذراعه ببطء أمامي، حمدتُ الله وعدتُ استكمل عملي متجلدة قدر ما وسعني من طاقة:
لا تقلق يا عزيزي.. سيتحسن وضعك قريبًا!
قلتها بصعوبة والغصة تكاد تخنقني، كنتُ أتمنى ذلك من أعماق قلبي، ورغم الألم الذي يعتصرني فقد حاولتُ أن أبدو متماسكة قدر الإمكان لأجله، في تلك اللحظة وصل دكتور أمون، كنتُ على وشك الانتهاء من تضميد جرح دايسكي، دخل دكتور أمون الغرفة واتجه نحو دايسكي مباشرة، جلس جواره وهو يضع كفه على كتفه:
دايسكي، كيف أنتَ يا بني؟
حول هو نظره إليه دون أن ينطق بشيء، فعاد دكتور أمون يقول:
كان من الأفضل أن تذهب للمركز الطبي، حالتك سيئة!
هنا أجبتُ دكتور أمون نيابة عنه:
سأذهب لإخبار الطبيب فورًا يا عمي.
نهضتُ من مكاني متجهة صوب الباب ثم التفتُ للأريكة وانحنيتُ واضعة كفي على كتفي دايسكي وأنا أنظر لعينيه بعمق واستدركتُ حديثي:
سنذهب للمركز الطبي دايسكي إذا أوصى الطبيب بذلك.. اتفقنا!
قلتها ولم أنتظر جوابه واتجهتُ مباشرة نحو الباب، ذهبتُ للطبيب، رويتُ له ما حدث، أخبرني أنه لا يستطيع إخضاع دايسكي لعلاج إشعاعي الآن، ولا حتى لتخفيف ما يعانيه من آلام، قال أنه لابد له من الانتظار، أضاف أن بإمكاننا تخفيف آلامه هذه الليلة بمسكنات قوية، إلى جانب مضادات الالتهاب ومحلول مغذٍ لتعويض ما فقده من دماء ومساعدته على التعافي، قال أن بإمكانه البقاء في غرفته إن كنتُ سأبقى بجانبه هذه الليلة، وإن كنت قادرة على رعايته طبيًا وحقنه بالأدوية المطلوبة، أكدتُ للطبيب بأنني سأفعل ذلك وكنتُ مرتاحة لكون دايسكي ليس مضطرًا لقضاء ليلته في المركز الطبي، هو لا يرغب بذلك ويكفيه ما يعانيه من آلام!
عدتُ لغرفة دايسكي فوجدته على حاله مع دكتور أمون، توجهتُ نحوه وأنا أعلمه بما قال الطبيب، كنتُ أتحدث وأنا أساعده على النهوض والتوجه لفراشه، عاونني دكتور أمون لخلع حذائه والتمدد، جلستُ على طرف الفراش وأمسكتُ بصينية الأدوية التي زودني بها الطبيب، مددتُ يدي لمحقن فارغ وزجاجة المسكن، ملأتُ المحقن بالجرعة المطلوبة وغرستُ سن المحقن في ذراع دايسكي بهدوء، لم تمض ثوانٍ حتى غاب هو عن الوعي تمامًا وهدأت ملامحه.
بدأتُ أستعد لتركيب المحقن الدائم في معصمه لكن دموعي خانتني، بدأتُ أبكي وأنتحب فجأة، شعرتُ بكف دكتور أمون على كتفي وسمعته:
ما الأمر هيكارو؟!
دايسكي لم يعد يشعر بشيء الآن!
هذا جيد! ليرتح من الألم يا ابنتي!
نعم دكتور أمون.. دايسكي بخير الآن يفعل .. المورفين!
قلتها بمرارة وأنا أدفن وجهي بين كفي وأبكي بحرقة، فهم دكتور أمون مقصدي فأخذ يربت على كتفي بأبوة:
نعلم أن حالته سيئة هيكارو.. هذا مؤلم.. لكن دعينا نأمل بأن تمر هذه الليلة بسلام!
أنت على حق عمي!
قلتها ومسحتُ دموعي وعدتُ استكمل عملي.
مرت ساعة ونصف ودايسكي هادئ تمامًا، حتى سمعته يتأوه ويفتح عينيه:
أشعر بعطش شديد!
سأحضر لك الماء حالًا!
أحضرتُ كوب الماء وساعدته على النهوض ومددت يدي أعدل الوسائد خلف ظهره ليتمكن من الجلوس في فراشه، ناولته كوب الماء وجلستُ جواره:
شكرًا هيكارو!
كيف تشعر الآن؟!
أفضل حالًا.. اطمئني!
كانت كلماته بصوته تثلج صدري وتبث في الأمل، نظرتُ إليه بعمق، لقد خف شحوب وجهه كثيرًا والحمد لله، لكن صوته لا يزال منهكًا، حول نظره لي لبرهة ينظر لعيني، ثم بدت نظراته تائهة ومبعثرة، أغمض عينيه وغفى دون إرادة.
مرت ثلاث ساعات بقيتُ فيها ساهرة على طرف فراش دايسكي، لم أستطع الجلوس على المقعد المجاور بغرفته، شعرتُ بحاجتي للتواجد قريبة منه قدر الإمكان، كان قلقي عليه كبيرًا، كان الجو باردًا واضطررتُ لإبقاء نافذة الغرفة مغلقة، تمنيتُ لو كان بإمكان النسيم أن يدخل إلينا ويخفف ما نعايشه في تلك الساعات العصيبة، لكننا وصلنا لعنق الزجاجة على ما يبدو، وأمنياتنا على بساطتها باتت صعبة المنال للأسف!
بقيتُ ساهرة في ليل الغرفة أتأمل ملامح دايسكي في ضوء القمر الذي تسلل من زجاج النافذة، كانت ملامحه تتبدل ما بين الهدوء والاضطراب، من وقت لآخر تنقبض ملامحه ويتندى جبينه ويعبر الألم عن نفسه في قسمات وجهه النائم، ثم تلين ملامحه بعد برهة، كانت هذه التوترات تزداد سرعتها كلما اقترب موعد الجرعة التالية من المسكن مما كان يمزق أحشاء قلبي، آه! قمر جميل في ليلة يغمرها الألم! مددتُ يدي أحتضن كفه فوجدتها باردة، احتويتُ كفه بين كفي أدفئها والألم يعتصرني، هذا الشتاء مرهق وبارد ومنذر بالسوء على ما يبدو، إنه يفوق قدرتي على التحمل، أشعر بأني نضجتُ في هذه الأسابيع الباردة وكأنها سنين مثقلة بما فيها.
تدفقت ذكرياتي القديمة وكف دايسكي بين كفي أحاول أن أبثه القليل من الدفء، وأحاول مواساة نفسي، تدفقت رغمًا عني، تذكرتُ الأيام الحلوة، تذكرتُ دايسكي بكامل حيويته ونشاطه، يوم احتفلنا برأس السنة وسهرنا ولعبنا معًا، يوم أراني جريندايزر لأول مرة، يوم سهرنا على شاطيء البحيرة ورقصنا على نغمات الليل الهادئ ونسيمه العليل، عضضت شفتي بمرارة وكدتُ أن أدميها لولا تنبهي في اللحظة الأخيرة، فعدتُ أنظر لوجهه النائم وأنا أشعر بألم في صدري ومرارة لا تنفك من حلقي، سالت دموعي بصمت تحاول التنفيس عن مكنونات نفسي بلا جدوى! وظل سؤال واحد معلقًا أمام عيني: هل ستمر تلك الليلة بسلام فعلًا؟! كم أتمنى ذلك!
اقترب الليل من منتصفه، وسمعتُ طرقات خافتة على باب الغرفة، دخل دكتور أمون بهدوء، اقترب مني وسألني:
كيف هو الآن؟
يتحسن ببطء.
هذا جيد، سأسهر في مكتبي هيكارو، اتصلي بي إن احتجتِ إلي!
حاضر دكتور أمون.
انصرف دكتور أمون، وعدت وحدي من جديد، لكن بقاؤه ساهرًا ولو بعيدًا عني أشعرني بالأنس والأمان، ألم أقل أننا أسرة؟! دكتور أمون، دايسكي وأنا؟!
مع طلوع الفجر استيقظ دايسكي مجددًا، كان يبدو بحالة أفضل بكثير:
ألا زلتِ مستيقظة؟!
نعم، كيف جرحك الآن؟
القليل من الألم، لكني أشعر أني بخير!
حمدًا لله.. خفتُ عليك كثيرًا دايسكي!
قلتها بشعور صادق ودمعت عيناي دون أن أشعر، فمد أصابعه يمسح دموعي:
لا تبكي!
أومأتُ له برأسي بصمت فاعتدل جالسًا وسألني:
كيف حال ماريا؟
إنها في المزرعة مع كوجي.. ماريا لا تعرف شيئًا عما أصابك.
هذا أفضل.. كيف كانت؟
لم أتمكن من رؤيتها.. لقد غادرت المركز فور عودتها ولحق بها كوجي، لكنه يقول أنها بخير.. اطمئن.. ستعود لطبيعتها وستتجاوز هذه الأزمة.
قلتها أحاول بث الطمأنينه في نفسه، ولكن في أعماقي كنتُ أدرك فداحة ما حدث، ولا أعلم إن كانت ماريا ذات الأربعة عشر ربيعًا ستجتاز ما حدث فعلًا أم لا، كانت المسكينة منزعجة بشدة، أخبرني كوجي في مكالمته الأخيرة أنها لم تنفك تبكي، وأنه حاول تهدئتها مرارًا دون جدوى، قلتُ له أنها بحاجة لإفراغ عواطفها ورجوته أن يعتني بها، كان كل منا يقوم بدوره هذه الليلة، لقد خيم الحزن والألم بقوة للأسف، وكانت خطة قوات فيجا ناجحة فعلًا رغم هزيمة وحشهم في المعركة إلا أنهم استطاعوا النيل منا، وبقوة أيضًا!
أخرجني دايسكي من شرودي، رد على جملتي باستسلام:
أرجو ذلك!
أعرف أنه يحاول التشبث مثلي بطوق النجاة الوحيد أمامنا، وأنه يعلم في قرارة نفسه بأني أخبره بنصف الحقيقة فقط، لكن ما الذي يمكننا فعله الآن؟
تساءلت إن كان من الصواب أن أقص عليه ما رواه لي كوجي وما حدث قبل وصوله هو لساحة المعركة؟ هل من الحكمة أن أخبره بأن ماريا قد دخلت كهفًا كبيرًا بصحبة كوجي وادعت بأنها رأت ذلك الكهف بالتحديد في حلمها؟ وأنها رأت داخل الكهف رجلًا يطابق الملك فليد في هيئته؟ وأنه لولا وصول دايسكي لربما تمكن هذا الرجل من النيل منها ومن كوجي؟ صحيح أنه كان مقيدًا لجدار الكهف؛ لكنه طلب من ماريا تحريره وإنقاذه، وهي بدت مرحبة بذلك لولا تدخل كوجي الذي اضطر للكمها لتفقد وعيها خروجًا من هذا الموقف المتأزم، هل أخبره بأن هذا الرجل سقط في الهواء أمام عينيها حين وجه هو ضرباته للوحش؟ وأن ماريا وكوجي شاهدا ملامحه الفليدية تذوب ثم اختفى تمامًا كبقية جنود فيجا؟ لم أكن قادرة على إيذاء دايسكي بتلك التفاصيل وما تحمله من ألم، لكني حاولتُ فقط أن أتبين منه شيئًا واحدًا في تلك اللحظة فسألته:
لا زلتُ لا أفهم دايسكي! كيف لم تلحظ ماريا ما أصابك في المعركة؟
تنهد وأجابني وقد شرد ببصره:
أنا أيضًا لا أعرف كيف تمكنتُ من اللحاق بها في ذلك الوقت هيكارو، كانت ماريا منهارة، تبكي وتصرخ، ركضت على الثلج وألقت بخوذتها بعيدًا، حاولتُ اللحاق بها ومواساتها، غابت كل آلامي وقتها، لم أشعر بما يحدث إلا حين عدت لجريندايزر وانطلقت به عائدًا للمركز.
تأملته بحب وكأني أحاول تثبيت صورته وطبعها بقلبي أكثر فأكثر:
أنتَ أخ رائع!
ما إن أنهينا حديثنا حتى انقبضت ملامحه من جديد، نظرتُ للساعة المعلقة على الجدار وعدتُ أقول له:
تحمل قليلًا أرجوك.. ربع ساعة فقط!
لكنه لم يجب، ازداد جبينه تعرقًا، وبدأت أسنانه تصطك بعنف، بقيتُ أجفف جبينه بمنديلي وأصلي لأجله حتى حان الوقت فمنحته الدواء، هدأت ملامحه وعاد يغفو من جديد، مددتُ يدي أمسح على شعره ففتح عينيه بلحظة وهمس لي:
لا تتركيني!
أنا هنا إلى جوارك.. اطمئن!
أغمض عينيه وكأنه كان يحدثني في حلمه، لقد كان شبه نائم في تلك اللحظة.
أشرقت الشمس أخيرًا وملأت الغرفة بنورها وكأنها تعلن انتهاء هذا الفصل المؤلم في حياتنا، أفاق دايسكي بعد شروق الشمس بوقت قصير، أفاق نشيطًا بشوشًا وهادئ الملامح، بادرته بقولي:
صباح الخير يا عزيزي!
صباح الخير!
قالها وهو يعتدل في فراشه، كانت فرحتي بتعافيه لا توصف:
كيف أنتَ الآن؟
شكرًا لك هيكارو! أنا الآن بخير، تبدين بحاجة للنوم، بقيتِ مستيقظة طيلة الليل بسببي!
هززتُ رأسي أجيبه:
لا عليك.. أنا بخير.. تسعدني سلامتك!
كم الساعة الآن؟
إنها السابعة.
لا شك أن أبي قد استيقظ من نومه.
هو لم ينم ليلة أمس دايسكي.. كان قلقًا بشأنك.
إذن سأبدل ثيابي وأذهب لرؤيته، اذهبي أنتِ ونامي قليلًا، تبدين مرهقة!
قالها وهو يحتضن كفي بأصابعه، اخفض بصره لحظه ثم عاد ينظر إلي بامتنان:
أنتِ من فعل ذلك؟
نعم.. كنتَ بحاجة لمغذٍ طيلة الليل.
كنتُ بحاجة لوجودك!
احمر وجهي خجلًا، ابتسمتُ له وأنا أربتُ بكفي الأخرى على كفه:
لم أكن لأرضى بأن يعتني بك غيري!
شكرًا هيكارو!
عدتُ أبتسم له وبدأتُ أزيل المحقن من يده، غلفنا الصمت لبرهة، جمعتُ الأدوات في الصينية الصغيرة فهمس لي:
خذي قسطًا من الراحة هيا، سأراكِ ظهرًا!
حسنًا! سأراك! انتبه لنفسك جيدًا!
سأفعل!
غادرتُ غرفة دايسكي مرتاحة البال، قضيتُ الليل أنتظر تلك اللحظة التي سيعود فيها لحالته الطبيعية، لهذا توجهتُ لغرفة دكتور أمون اطمئنه وأخبره بأن دايسكي سيأتي لرؤيته، ثم عرَّجتُ على المركز الطبي لأرى الطبيب وأعلمه بما حدث، توجهتُ لغرفتي بعدها لكني التقيتُ بكوجي مصادفة، كان قلقًا بشأن دايسكي وأنا منشغلة البال على ماريا، تبادلنا أطراف الحديث سريعًا ثم تركته وعدتُ أخيرًا لغرفتي، نظرتُ لوجهي في المرآة، كانت ملامحي مجهدة كما قال دايسكي، لكن لا بأس، يمكنني ببضع ساعات من النوم أن أستعيد نشاطي، لكن هل يعود دايسكي لنشاطه قريبًا؟ وهل يحقق الله رجائي بمعجزة تنهي هذه المأساة؟
ورغم إجهادي الشديد وجدتني أتجه نحو النافذة وأفتحها، كنتُ بحاجة لرؤية الشمس واستنشاق الهواء، شعرتُ بأني أوشك أن أختنق وأنني بحاجة لملء رئتي بأكبر قدر ممكن من الهواء العليل، نسيم الصباح ببرودته المنعشة كان كالماء الذي ينسكب بروحي ويطفئ نيران قلقي التي أحرقتني طيلة الليل، تمنيتُ أن يأتي الصباح محملًا بالخير وها قد أتي أخيرًا والحمد لله! تركتُ النافذة مفتوحة وفتحتُ دفتري وقررتُ إفراغ الأمس بكل ما فيه على الورق، لابد لي من التحرر من هذا الثقل الفكري والعاطفي كي أتمكن من النوم، الساعة الآن قاربت العاشرة وأنا لا أزال مستيقظة، إذن يكفي لهذا الحد، إلى الغد إذن؛ لا إلى ما بعد ظهر اليوم!
منذ أن أتى دايسكي إلى مزرعتنا وأنا أعيش أيامًا تملؤها المفاجآت، بعضها سار، بعضها مؤلم، وبعضها غير مفهوم على الإطلاق، أنهكني الحزن على دايسكي منذ أن عرفتُ بجرحه القديم، بكيتُ وحيدة في غرفتي كثيرًا، نضجت أفكاري ومشاعري بسرعة لم أتوقعها، وجدتني في ليلة أغادر أحلام الفتاة الوردية وأدخل إلى دنيا المسؤولية تجاه صديق استطاع أن يسكن قلبي وروحي، صديق بدا فراقه قريبًا، صديق يحمل آلامًا كبيرة، ماضٍ تعيس، ذكريات موجعه، وجسدًا لا تلبث آلامه أن تتجدد باستمرار، ومصيرًا مهددًا في كل لحظة، تعلمتُ الخوف، تعلمتُ الدعم، تعلمتُ أن ألتقط أزهار السعادة من بين أشواك الألم والعذاب.
كنتُ أسهر وحدي أفكر في معجزة قد تغير هذا المصير الأسود، أتمنى وأعجز عن إيجاد تصور منطقي يقود أمنيتي لدنيا الواقع، تمنيتُ شفاء دايسكي، صليتُ لأجل هذه الأمنية، لكن دايسكي كان ينتقل من ألم لألم أشد، في آخر مرة أصيب فيها شعرتُ أننا نقترب من النهاية، بقيتُ ساهرة إلى جواره وهو يتألم لا أملك سوى تخفيف آلامه بمسكنات لا تكفي إلا لساعات، في تلك الليلة شعرتُ بالعجز كما لم أشعر به من قبل، لم أتصور حينها أن هذا اليوم سيأتي لكنه أتى بالفعل!
اليوم تغمرني الفرحة بشفاء دايسكي، كيف؟ لم يكن أحدنا يتوقع هذا، كانت معجزة حقيقية كما تمنيتها طويلًا، موروس أمير نجم مورو والصديق الحميم لدايسكي منذ طفولته، كان موروس هو كلمة السر في هذا اللغز، ليتك أتيتَ منذ سنوات موروس!
في ذلك اليوم قالها لي دايسكي وهو يضمني إليه بانفعال جارف: “لقد منحني موروس عمرًا جديدًا” صدق دايسكي فعلًا بكلامه!
عرفتُ أن دايسكي التقى موروس خلال أعمال الدورية، كنا بعيدتين ماريا وأنا وكنا مكلفتين بالبحث في البحر وسلسلة الجبال المجاورة له، بينما توجه دايسكي وكوجي لمناطق أبعد يكسوها الثلج، على كل حال فقد التقى دايسكي بموروس، ودار عراك عنيف بين الصديقين، دُهش دايسكي من رغبة موروس الشديدة لقتله، حاول تذكيره بنفسه لكن موروس كان يردد كلامًا غريبًا، كان مقتنعًا بأن دوق فليد دمر نجم مورو وبأن فيجا الكبير قد أنقذ حياته، لموروس عزيمة قوية لا تلين كما وصفه دايسكي في كلامه عنه، لكن هذه العزيمة اليوم كانت موجهة ضد صديق حميم، في لحظة أفاق موروس، في ساحة المعركة قفز دايسكي من جريندايزر، لم يخشَ صديقه القديم رغم إصراره على قتله، أراد مواجهته وجهًا لوجه، كان ألمه يشتد لكنه غادر جريندايزر، سقط أرضًا على وجهه، رآى موروس يتقدم نحوه بثبات مشهرًا مسدسه، حاول دايسكي أن يثنيه عن رغبته دون جدوى، لمح دايسكي نجمة ذهبية تومض على ذراعه، توجس منها خيفة، اندفع نحو صديقه فجأة يحاول إبعادها، طارت النجمة وانفجرت بعنف وسقط الاثنان مغشيًا عليهما، وكانت رحمة الله!
أفاق موروس وقد استعاد نفسه وذكرياته، عاد موروس كما كان، اندهش لرؤية دايسكي، خاطبه بلطف، سأله عما يفعله هنا، شرح له دايسكي ما يحدث بكلمات سريعة، بدأ موروس يستعيد ذكريات أعمق:
تذكرتُ الآن! أسرني فيجا الكبير وغسل دماغي!
ظهر الندم جليًا على ملامح موروس فاشفق عليه دايسكي، اعتذر لدايسكي بصدق، تفهم الأخير موقفه فحاول أن يهون عليه لكن فاجأه الألم دون استئذان، اشتد جرح دايسكي فجأة، تألم وهو يمسك بذراعه، كان زيه العسكري قد تمزق إثر سقوطه وبدأ جرحه ينزف من جديد، قلق موروس بشأنه ثم بدت منه حركة لم يستطع دايسكي تفسيرها.
2023-12-04
مذكرات هيكارو السرية – إكرامًا لدايسكي
مذكرات هيكارو السرية
مذكرات خيالية في دفتر يوميات هيكارو ماكيبا
الحلقة 72 – إكرامًا لدايسكي
أنا مضطربة ولا أعرف من أين ينبغي علي أن أبدأ؟! الحلم، نعم تلك هي، لقد بدأ كل شيء بحلم غريب وتفاصيل أكثر غرابة، ليس حلمي أنا، بل حلم ماريا، ليلة أمس الأول تنبه كوجي ودايسكي لصوت دراجة نارية ليلًا، حين أطلا من النافذة لمحا دراجة ماريا تغادر المكان، لهذا لحقا بها، خمنا وجودها في مركز الأبحاث وقد كان تخمينهما صائبًا، عندما وجداها كانت تستعد لدخول سبيزر الحفار، أخبرني دايسكي بأنها بدت في حالة غير طبيعية، كان يسألها عما بها فتردد: “أبي، سأكون هناك لإنقاذه، أبي” لهذا لم يكن أمام دايسكي بديل عن صفعها مكرهًا في محاولة منه لإفاقتها وإخراجها من حالة الهذيان تلك، بالفعل أفاقت ماريا وبدت متفاجئة مما حولها، حملها دايسكي لغرفتها وحاول تهدئتها وتركها نائمة.
في الصباح روى لي دايسكي ما حدث، وبينما نحن نحتسي قهوتنا كانت ماريا شاردة جدًا، سألها كوجي عما حدث لها فأجابت بارتباك: “لا أعرف، ربما كنت أحلم، كل ما أذكر أنه في برق ليلة أمس ورعدها شاهدتُ..” قاطعها كوجي فجأة مستنكرًا بقوله: “رعد وبرق؟! أمس كانت الليلة صافية” زاد ارتباك ماريا جراء تعليق كوجي، فحاولتُ مساعدتها على التحدث وإفراغ ما يزعجها قائلة: “هاتي أخبرينا عن حلمك” وهنا كانت المفاجأة، ذكرت ماريا بأنها رأت أباها، وأنه كان أسيرًا لدى قوات فيجا، وأنه حُمِل إلى الأرض على وحش فيجا فيجا، انزعج دايسكي من رواية ماريا فرد عليها بصرامة: “ماريا، ما هذا إلا حلم”، لكن ماريا كانت واثقة مما رأت فأجابته بقوة: “أعرف! لكن كل ما رأيته في الحلم تحقق حتى الآن دايسكي”، لم تكن تلك الأحداث مبشرة بالخير أبدًا، شرد دايسكي ببصره قليلًا ثم عاد يجيب ماريا:
– ماريا، أعتقد أن أباك وأمك ماتا عندما تداعى نجم فليد.
– ربما نجوا من هجوم العدو كما فعلنا أخي.
– من الخير أن تنسي كل شيء عن حلمك ماريا.
– أخي..
كم كان دايسكي حنونًا على ماريا وهو يخبرها بحقيقة موت والديه! هو رآى موتهما بعينيه ولا يشك بذلك لحظة، ومع ذلك لم يخبر ماريا بالحقيقة بقسوة، قال لها “أظن أنهما قد ماتا”، الآن وبعد تلك الليلة العصيبة أجدني أتساءل: هل كان اختيار دايسكي لهذا الرد الحنون وقتها هو الصواب؟
حاول دايسكي إلهاء ماريا، فاقترح عليها أن نذهب للمزرعة لرؤية أبي، ماريا تحب أبي وجورو وربما ساعدتها رؤيتهما على استعادة طبيعتها ومرحها، وبالفعل ذهبنا وضحكنا عداها هي، لقد بقيت طيلة الوقت شاردة ومتجمدة في مكانها حتى جاءنا اتصال الدكتور أمون يخبرنا بظهور يوفو ويطلب منا الإسراع للمركز.
خرج دايسكي لمواجهة اليوفو في النقطة التي حددها السيد هياشي، النقطة الزرقاء 1.8.6، لا أظن أنني سأنسى هذه النقطة بسهولة! على أية حال فقد خرج دايسكي وطلب منا البقاء في المركز كفريق للعناية بماريا وانتظار عودته، لكن ماريا أصرت على اللحاق به، كانت في حالة انفعال شديدة، وكانت مؤمنة بما رأته في حلمها، حاول كوجي إثناءها لكن دون جدوى، واضطر للحاق بها، في حين بقيتُ أنا في غرفة المراقبة مع دكتور أمون، لم يمضِ الكثير من الوقت حتى انسحب الكل عائدون لمركز الأبحاث واختفى وحش فيجا تمامًا، عاد جريدايزر بالقيادة الذاتية وهو ما أثار قلقي، وسمعنا صوت كوجي في جهاز الاتصال يهتف:
– دكتور أمون أصيب دايسكي!
كانت كلماته كالخنجر الذي ينغرس بصدري، رأيتُ جريندايزر يعود قبل البقية فاندفعتُ خارج الغرفة، سمعتُ دكتور أمون يستوقفني:
– إلى أين هيكارو؟
– إلى محطة جريندايزر!
لم أكن قادرة على البقاء لفترة أطول، حالة دايسكي تستاء يومًا بعد يوم وما يحدث الآن لا يبشر بالخير أبدًا، ركضتُ مسرعة إلى حيث محطة وصول جريندايزر، أعرف هذا الطريق جيدًا، أذكر يوم سرتُ فيه لأول مرة برفقة دايسكي ليلًا، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها جريندايزر، وأذكر أيضًا يوم ركضتُ فيه مسرعة للحاق بكوجي أمنعه من ركوب جريندايزر يوم أصيب دايسكي بالصدمة جراء ما حدث بينه وبين نايدا، وأذكر ركضي فيه ملتاعة يوم رأيتُ دايسكي ينهار في كابينة القيادة، وأذكر دموعي يومها لنجاته، يالا كل تلك الذكريات! لو أن بإمكاننا أن ننسى لصارت حياتنا أيسر وأخف وطأة.
وصلتُ إلى محطة جريندايزر، رأيتُ باب السد يُفتح وجريندايزر يندفع نحو قاعدته وقد هدأت سرعته، كان قلبي يخفق بقوة ركضتُ نحوه، رأيتُ قمرة القيادة تُفتح ودايسكي يخرج منها، دايسكي لا زال على قيد الحياة حمدًا لله! كنتُ أعاني قلقًا لا حدود له، دقات قلبي تتسارع رغمًا عني، رأيته يقفز من قمرة القيادة وهو يهتف باسمي، أسرعتُ إليه، كان الألم محفورًا على قسمات وجهه، رفعتُ ذراعه الأيسر على كتفي وطوقتُ ظهره بذراعي الأيمن:
– اعتمد علي.. ودعنا نسرع للطبيب!
بالفعل استند دايسكي إلى كتفي وسرنا نحو المركز الطبي، في الطريق أخذ يحدثني بهدوء:
– كان هو الوحش ذاته الذي رأته ماريا في حلمها.
– معقول!
– “فيجا فيجا” شرس للغاية، يستخدم أشعة فيجاترون كسلاح مباشر.
– يا إلهي!
عرفتُ الآن سبب الألم الشديد الذي يعانيه دايسكي، يتأثر دايسكي بأشعة فيجاترون ويزداد ألمه باقترابه منها لكن هذه المرة أصابته الأشعة مباشرة، فظيع!
وصلنا إلى المركز الطبي، ساعدتُ دايسكي على التمدد على فراشه وأسرعتُ بالاتصال بالدكتور أمون أخبره بما حدث، كان جرح دايسكي ينزف بالفعل فأسرعتُ بنزع قميصه وتضميد جرحه ريثما يصل الطبيب، وصل الطبيب فعلًا برفقة دكتور أمون ولحق بهما كوجي وماريا اللذان وصلا لتوهما، أخذ الطبيب يفحص دايسكي وأخبرنا أن ذراعه ملتهبة بشدة وأنه بحاجة لعلاج إشعاعي كامل، كانت هذه هي المرة الأولى التي يصاب فيها دايسكي على هذا النحو في وجود ماريا، بدت ماريا مرتبكة، جلست على ركبتيها جوار فراشه وحاولت الاعتذار إليه عما حدث، شعرتْ أنها المسؤولة عما يعانيه الآن، ماريا لم تمتثل لطلب دايسكي بالبقاء في المركز وأصرت على اللحاق به، لهذا شعرت بأنها السبب في إصابته، مسكينة ماريا! هي لم تعش ما عشناه من قبل!
بدأ دايسكي يهدأ قليلًا، حاول أن يكون أكثر تماسكًا في وجود ماريا، طمأنها وأخبرها بأنه سيكون بخير، سأل كوجي عن المكان الذي اختفى فيه وحش فيجا فأخبره بأنه اختفى عند النقطة 5.0.4، لا زال دايسكي قادرًا على الاحتفاظ بصفاء ذهنه وتركيزه رغم الألم، سأل كوجي إن كانت هذه النقطة تقع في هوكايدو، هنا تدخلت ماريا وطلبت من دايسكي أن يسمح لها بالذهاب إلى هناك فرفض بهدوء.
لكن ماريا لم تتقبل رفض دايسكي، هي أيضًا كانت تعاني، أخذت تكرر ما رأته بحلمها، أكدت لدايسكي أن الوحش الذي رأته اليوم هو نفسه ما رأته في حلمها، قالت أنها رأت أباها في الحلم، وأنه كان يطلب مساعدتها، وأن الرجل الذي رأته في وحش فيجا هو أباها، قالت أنها سمعت صوت أمها أيضًا تدعوها لمساعدته، كان دايسكي يستمع إليها بصمت، كان مندهشًا من شدة إيمانها بما رأته في حلمها، وكان يشعر بالألم والضعف وبالكاد يتماسك لأجلها، كوجي وأنا أيضًا كنا في حالة دهشة، تبادلنا نظرة متسائلة، حاول دايسكي حسم هذا النقاش المؤلم، قال لها بنبرة متألمة وهو يعاني، كانت في صوته نبرة رجاء مزقت قلبي:
– ماريا والدنا توفي عند تدمير النجم فليد.. صدقيني!
– لكني رأيته.
– ماريا!
وصل دايسكي لأقصى درجات الألم، كنتُ أراقبه عن كثب، كنتُ أرى داخله أمامي وكأني أطالع كتابًا مفتوحًا، كان ينهار شيئًا فشيئًا، لكن ماريا كانت غارقة في حلمها وعذابها هي أيضًا، بدا أن الاثنين غير قادرين على التواصل معًا فعلًا، استدارت ماريا جالسة على الأرض وهي تؤكد لدايسكي أن من رأته اليوم هو والدها، وكان هو يعتصر عينيه من الألم.
تدخل كوجي لحسم الموقف، أخبر ماريا مطمئنًا أننا سنذهب ونرى ما إذا كان والدها أم لا، حاولتُ أن أقول شيئًا، تمنيتُ لو أن لي الحق أن أروي لماريا ما حدث منذ سنوات حين رآى دايسكي والدته أيضًا لكني ابتلعتً كلماتي، كان الموقف حساسًا جدًا ومشاعر الكل ملتهبة فصمتُ، رفض دايسكي كلام كوجي وظهر عليه التوتر الشديد وهو يهتف:
– لا تذهب يا كوجي .. هذا فخ ستوقعنا به قوات فيجا!
اقترب كوجي من فراش دايسكي وأمسك ذراعيه بقوة وهو يهتف:
– لا تخف يا دايسكي سأحميها! أعدك بذلك.
لكن دايسكي كان مصرًا على رأيه، ظل يردد كلمة “لا” وكأنه يستجدي كوجي ألا يفعل، وكان جسده يرتعش بشدة من الألم، لم يكن دايسكي قادرًا على الحركة أو الخروج لمعركة جديدة، وكان هذا الشعور بالضعف يزيد من توتره وألامه، كان خائفًا على ماريا وغير قادر على حمايتها، في المقابل كان كوجي مصرًا على تطمين ماريا، كوجي يؤمن بأن مواجهة الأكاذيب هي أفضل طريقة لإبطالها، وكان قربه من ماريا يدفعه لمساعدتها على الخروج من تلك الأزمة، استدرك كوجي حديثه محاولًا إقناع دايسكي:
– أعرف أن هناك خطرًا لكن ماريا تريد أن تتحقق من أن الرجل أباها، دعها تذهب يا دايسكي!
ثم استدار ينظر لماريا وقد أولى ظهره لدايسكي، أخذ يسترسل بحديثه:
– إني أفهم.. قالت أنها رأت أباها وأريد أن أصدقها.. دايسكي، ستكون سعيدًا إن بقي أبوك على قيد الحياة، مارايا لا تصدق أن أباها قد مات وأنا أفهم شعورها، وإذا كان أبوك أسيرًا بيد الأعداء فعلينا أن ننقذه.
كان يقول كلماته بحماس حقيقي وبنبرة صادقة وكنتُ مندهشة مما يقول حقًا، أنا أعرف أن والدي دايسكي قتلا أمام عينيه لهذا فأنا أؤيد موقف دايسكي وأعتقد اعتقاده بأن ما يحدث هو فخ حقيقي، حاولتُ أن أقول شيئًا، حاولتُ أن أستوقف كوجي لكن بعد فوات الأوان، لقد مد كوجي يده لماريا وأنهضها وهو يهتف:
– هيا يا ماريا!
أطاعته هي فورًا واندفع الاثنان خارج الغرفة، في تلك اللحظة انتفض دايسكي جالسًا في فراشه، كان يتألم وينادي كوجي، فالتفتُ إليه، كان يضغط على أسنانه بشدة، كان الألم يعتصره لدرجة لم أرها من قبل، أمسكتُ ذراعيه أحاول احتواءه وأنا أنادي على كوجي بدوري وأطلب منه أن يتوقف، لكن كوجي قد ذهب ولم يلتفت لنداءاتنا، عدتُ أنظر لدايسكي الذي بدأ يتألم على نحو مسموع، شعرت بالعجز في تلك اللحظة، ماذا علي أن أفعل؟
كان دايسكي يحدثني وكأنه يحدث نفسه:
– ليذهبا.. ليذهبا يا هيكارو! قد يكون كوجي على حق!
قالها وشرد ببصره للحظات:
– أنا أذكر! كانت أمي تقترب مني، أعرف أن الميت لا يعيش مرة أخرى، لم أستطع السير إليها، عرفتُ أنها ليست أمي ولكن كنت أقول ربما كانت أمي؟!
ثم أغمض عينيه وهو يستطرد:
– إنها النفسية بين الأم والابن، أجل.. إنها النفسية!
كنتُ أستمع إليه بهدوء، أعرف هو بحاجة للتنفيس عن آلامه، أذكر جيدًا هذه الذكرى التي تحدث عنها، أذكر إصابة دايسكي في ذلك اليوم أيضًا، ما أشبه اليوم بالأمس!
لكن آلام دايسكي الجسدية انتصرت في النهاية، هذه المرة لم يكن قادرًا على تطميني كعادته، لقد كان يعبر عما يشعر به بوضوح، كان بين ذراعي يهتف بألم:
– ذراعي تؤلمني.. آه.. ذراعي تؤلمني!
حاولتُ تهدئته، ساعدته على التمدد على فراشه من جديد، أخذتُ أربتُ على كفه وأطمئنه بأن كوجي قادر على حماية ماريا وأن بإمكانه الاعتماد عليه، طلبتُ منه أن يهدأ وأن يخلد للراحة ريثما ينهي الطبيب معالجته، كان يقول لي بأن عليه أن ينتهي من هذا سريعًا وأن يلحق بكوجي وماريا، قال أن الوحش الذي قاتله اليوم أقوى من سبيزر المزدوج والسلاح الثاقب، كنت أستمع إليه وأحاول امتصاص آلامه وتوتره لكن هذه المرة كانت أصعب من كل ما فات.
مضى ما يقرب من نصف ساعة، وحضر الدكتور أمون برفقة الطبيب مجددًا، بدأ الطبيب يستعد لمعالجة ذراع دايسكي، لقد جاءت توصيات الدكتور هانز الأخيرة في وقتها فعلًا، فمع ما يعانيه دايسكي مؤخرًا اقترح دكتور هانز تزويد المركز بأجهزة خاصة بالعلاج الإشعاعي المناسب لتمكيننا من تقديم الدعم اللازم لدايسكي سريعًا، كما أرسل أحد الأطباء المتخصصين لديه في إعارة طويلة الأجل إلى مركز أبحاث الفضاء ليشرف بنفسه على ذلك، في المقابل أتاح دكتور أمون للطبيب المختص الفرصة للدراسة والاستفادة من إمكانيات المركز.
طلب مني دايسكي أن أبقى في غرفة المراقبة وأن أتابع ما يحدث مع كوجي وماريا ريثما تنتهي جلسته الإشعاعية ففعلت، غادرتُ الغرفة وتركته بصحبة دكتور أمون والطبيب، توجهتُ لغرفة المراقبة وقلبي يصلي لأجل دايسكي وسلامته، اتصلتُ بكوجي وعرفتُ بأن الاثنين يتجهان للنقطة التي حددها السيد هياشي والتي اختفى عندها وحش فيجا، وأنهما قرييان من النقطة المنشودة، أوصيته بالعناية بماريا فأكد لي أنه سيفعل، سألني عن دايسكي فأخبرته أن الطبيب معه الآن، وبقيتُ أتابع ما يحدث مع كوجي، هبط الاثنان فجأة وانقطع الاتصال بيننا، في تلك اللحظة وصل دايسكي لغرفة المراقبة، رأيته يقف على قدميه فغمرتني السعادة، أسرعتُ إليه وأنا أهتف:
– حمد لله على سلامتك!
– أين هما الآن يا هيكارو؟
– لقد هبطا على شبه جزيرة شيكوتان.
– حسنًا، سألحق بهما.
– هل لي أن أرافقك؟!
كنتُ قلقة من خروج دايسكي من جديد وتمنيتُ أن أرافقه في معركته، لكنه مد يده يحتوي كفي بين كفيه وقال وهو ينظر لعيني بصدق:
– لا هيكارو، ابقي هنا وراقبي ما يحدث، لن يكون توجيه الضربات لهذا الوحش سهلًا في وجود ماريا.
أومأتُ له برأسي متفهمة، كانت المعركة شديدة الحساسية وأنا أدرك ذلك ولم أشأ مجادلة دايسكي، فاستطرد:
– سأعود.. أعدك بذلك!
قالها واندفع نحو الباب فاستوقفته وأنا أهتف من أعماق قلبي:
– انتبه لنفسك دايسكي!
التفت إلي:
– سأفعل.
قالها واندفع مغادرًا، بقيتُ أتابع ما يحدث على الشاشة، رأيتُ خروج جريندايزر، وانضم إلي دكتور أمون، وصل جريندايزر لشبه جزيرة شيكوتان وبدأت المعركة، للمرة الثانية لم تدم المعركة طويلًا، وللمرة الثانية انقض الوحش بشراسة على جريندايزر، لم نتمكن من الاتصال بدايسكي وكوجي وماريا، وكانت أجهزة الاتصال لا تجيب لدى ثلاثتهم، كان الموقف موترًا للغاية، أخيرًا سمعنا صوت دايسكي يخرج من جهاز الاتصال:
– أبي، قضيت على وحش فيجا، نحن عائدون الآن!
قالها وأغلق جهاز الاتصال على الفور، لم أستطع البقاء أكثر في غرفة الرصد، انسحبت بهدوء دون أن ينتبه إلي أحد، كان القلق يعصف بنفسي لذا أخذت أعدو بكل ما أوتيتُ من قوة في ممرات المركز المتشابكة، تلاحقت أنفاسي بشدة، رسم عقلي ألف صورة وصورة، كنتُ أرتعد، خشيتُ على دايسكي كثيرًا، لم تمضِ على إصابته الأولى سوى بضع ساعات وقد عانى خلالها الكثير، ما الذي يمكن أن يحدث له بعد هجوم فيجا فيجا عليه مجددًا؟ شعرت أنني على وشك الاصطدام بواقع أسود لم أقوَ على مجرد تخيل تفاصيله، كل ما كنتُ أتمناه أن أتمكن من رؤية دايسكي وسماع صوته من جديد، أعترف الآن وأنا وحيدة غرفتي بأني كنت متشائمة إلى حد كبير، في تلك اللحظات العصيبة، لم أجد أمامي أي منفذ يمكن لنور الأمل أن يصلني عبره، لكن حين وصلت إليه وصار علي مواجهة هذا الواقع لا مجرد تخيله أو خشيته – حينها أدركتُ أن الخيال يعذبنا بأكثر من واقعنا مهما بدا سيئًا، ففي لحظة وصولي كان جريندايزر على قاعدته بالفعل وكوته مفتوحة، رأيتُ دايسكي يقفز منها، ما إن لامست قدماه الأرض حتى انهار على ركبتيه، كان الدم باديًا على قميصه، كان جرحه بنزف مجددًا، اندفعتُ نحوه بسرعه، نزلتُ على ركبتي أمامه، رفعتُ رأسه بيدي أنظر لعينيه، حملت عيناه كمًا كبيرًا من الانهاك، هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها دايسكي بهذه الحالة السيئة، انخلع قلبي واستجمعتُ نفسي وأنا أحدثه:
– ستكون بخير يا عزيزي.. اطمئن!
حاول أن يجيبني فوضعت إصبعي على شفتيه وأنا أهمس:
– هيا!
ساعدته على النهوض، والاعتماد علي، شعرت بثقل وزنه وهو معتمد على كتفي فقدرت حجم آلامه، همس لي:
– دعينا نذهب لغرفتي رجاء!
– لماذا دايسكي؟ أنتَ بحاجة لرعاية طبية!
– أرجوكِ!
أومأتُ له برأسي موافقة ولم أشأ مجادلته وهو بهذه الحالة، وتوجهنا فعلًا باتجاه غرفته، سمعتُ أزيز جهاز الاتصال في قلادتي لكن لم أتمكن من إجابته، قدرتُ أنه دكتور أمون لكن ليس باليد حيلة، سرنا بهدوء وقد غلفنا الصمت تمامًا، ليس لدي ما أقوله فعلًا، ودايسكي بدا في حالة لا تسمح له بالكلام أبدًا، رحماك يارب!
وصلنا لغرفة دايسكي أخيرًا، ساعدته على الجلوس على الأريكة الصغيرة الموجودة بالغرفة، وأسرعتُ للاتصال بدكتور أمون:، بضع جمل موجزة: “دكتور أمون، نحن في غرفة دايسكي الآن.. حالته سيئة.. لا.. لا.. هو أراد ذلك.. حسنًا دكتور” وأغلقتُ الهاتف واتجهتُ نحو دايسكي، كان مغمض العينين وقد شحبت ملامحه كثيرًا، أسرعتُ إلى حقيبة الإسعافات الأولية وأنا أحدثه:
– علينا أن نسرع بتضميد جرحك!
فتح عينيه بصعوبة دون أن ينطق بحرف:
– دعني أساعدك؟!
قلتها وأنا أجلس على الأريكة جواره، مددتُ يدي أحل سترته، ثم ساعدته على خلع سترته وقميصه، وبدأتُ بحل الضماد القديم حول ذراعه، كانت ذراعه ملتهبة بشدة، وكان الدم غزيرًا إلى حد ما، نظفت الجرح ولففتُ ضمادًا نظيفًا حوله، أثناء ذلك تحدث هو بنبرة خافتة وكأنه يحدث نفسه:
– لقد شُلَّ ذراعي في المعركة!
وقعت الكلمة على مسامعي كصخرة هائلة، التفتُ إليه أسأله بجزع
– بإمكانك تحريك ذراعك الآن؟ صحيح؟!
مضت الثواني بين سؤالي وجوابه كدهر كامل، كان من الصعب علي تحمل ما يقول أو محاولة تخيله، حالة دايسكي تزداد سوءًا على نحو مرعب حقًا، أومأ لي هو إيجابًا وهو يحرك ذراعه ببطء أمامي، حمدتُ الله وعدتُ استكمل عملي متجلدة قدر ما وسعني من طاقة:
– لا تقلق يا عزيزي.. سيتحسن وضعك قريبًا!
قلتها بصعوبة والغصة تكاد تخنقني، كنتُ أتمنى ذلك من أعماق قلبي، ورغم الألم الذي يعتصرني فقد حاولتُ أن أبدو متماسكة قدر الإمكان لأجله، في تلك اللحظة وصل دكتور أمون، كنتُ على وشك الانتهاء من تضميد جرح دايسكي، دخل دكتور أمون الغرفة واتجه نحو دايسكي مباشرة، جلس جواره وهو يضع كفه على كتفه:
– دايسكي، كيف أنتَ يا بني؟
حول هو نظره إليه دون أن ينطق بشيء، فعاد دكتور أمون يقول:
– كان من الأفضل أن تذهب للمركز الطبي، حالتك سيئة!
هنا أجبتُ دكتور أمون نيابة عنه:
– سأذهب لإخبار الطبيب فورًا يا عمي.
نهضتُ من مكاني متجهة صوب الباب ثم التفتُ للأريكة وانحنيتُ واضعة كفي على كتفي دايسكي وأنا أنظر لعينيه بعمق واستدركتُ حديثي:
– سنذهب للمركز الطبي دايسكي إذا أوصى الطبيب بذلك.. اتفقنا!
قلتها ولم أنتظر جوابه واتجهتُ مباشرة نحو الباب، ذهبتُ للطبيب، رويتُ له ما حدث، أخبرني أنه لا يستطيع إخضاع دايسكي لعلاج إشعاعي الآن، ولا حتى لتخفيف ما يعانيه من آلام، قال أنه لابد له من الانتظار، أضاف أن بإمكاننا تخفيف آلامه هذه الليلة بمسكنات قوية، إلى جانب مضادات الالتهاب ومحلول مغذٍ لتعويض ما فقده من دماء ومساعدته على التعافي، قال أن بإمكانه البقاء في غرفته إن كنتُ سأبقى بجانبه هذه الليلة، وإن كنت قادرة على رعايته طبيًا وحقنه بالأدوية المطلوبة، أكدتُ للطبيب بأنني سأفعل ذلك وكنتُ مرتاحة لكون دايسكي ليس مضطرًا لقضاء ليلته في المركز الطبي، هو لا يرغب بذلك ويكفيه ما يعانيه من آلام!
عدتُ لغرفة دايسكي فوجدته على حاله مع دكتور أمون، توجهتُ نحوه وأنا أعلمه بما قال الطبيب، كنتُ أتحدث وأنا أساعده على النهوض والتوجه لفراشه، عاونني دكتور أمون لخلع حذائه والتمدد، جلستُ على طرف الفراش وأمسكتُ بصينية الأدوية التي زودني بها الطبيب، مددتُ يدي لمحقن فارغ وزجاجة المسكن، ملأتُ المحقن بالجرعة المطلوبة وغرستُ سن المحقن في ذراع دايسكي بهدوء، لم تمض ثوانٍ حتى غاب هو عن الوعي تمامًا وهدأت ملامحه.
بدأتُ أستعد لتركيب المحقن الدائم في معصمه لكن دموعي خانتني، بدأتُ أبكي وأنتحب فجأة، شعرتُ بكف دكتور أمون على كتفي وسمعته:
– ما الأمر هيكارو؟!
– دايسكي لم يعد يشعر بشيء الآن!
– هذا جيد! ليرتح من الألم يا ابنتي!
– نعم دكتور أمون.. دايسكي بخير الآن يفعل .. المورفين!
قلتها بمرارة وأنا أدفن وجهي بين كفي وأبكي بحرقة، فهم دكتور أمون مقصدي فأخذ يربت على كتفي بأبوة:
– نعلم أن حالته سيئة هيكارو.. هذا مؤلم.. لكن دعينا نأمل بأن تمر هذه الليلة بسلام!
– أنت على حق عمي!
قلتها ومسحتُ دموعي وعدتُ استكمل عملي.
***
مرت ساعة ونصف ودايسكي هادئ تمامًا، حتى سمعته يتأوه ويفتح عينيه:
– أشعر بعطش شديد!
– سأحضر لك الماء حالًا!
أحضرتُ كوب الماء وساعدته على النهوض ومددت يدي أعدل الوسائد خلف ظهره ليتمكن من الجلوس في فراشه، ناولته كوب الماء وجلستُ جواره:
– شكرًا هيكارو!
– كيف تشعر الآن؟!
– أفضل حالًا.. اطمئني!
كانت كلماته بصوته تثلج صدري وتبث في الأمل، نظرتُ إليه بعمق، لقد خف شحوب وجهه كثيرًا والحمد لله، لكن صوته لا يزال منهكًا، حول نظره لي لبرهة ينظر لعيني، ثم بدت نظراته تائهة ومبعثرة، أغمض عينيه وغفى دون إرادة.
***
مرت ثلاث ساعات بقيتُ فيها ساهرة على طرف فراش دايسكي، لم أستطع الجلوس على المقعد المجاور بغرفته، شعرتُ بحاجتي للتواجد قريبة منه قدر الإمكان، كان قلقي عليه كبيرًا، كان الجو باردًا واضطررتُ لإبقاء نافذة الغرفة مغلقة، تمنيتُ لو كان بإمكان النسيم أن يدخل إلينا ويخفف ما نعايشه في تلك الساعات العصيبة، لكننا وصلنا لعنق الزجاجة على ما يبدو، وأمنياتنا على بساطتها باتت صعبة المنال للأسف!
بقيتُ ساهرة في ليل الغرفة أتأمل ملامح دايسكي في ضوء القمر الذي تسلل من زجاج النافذة، كانت ملامحه تتبدل ما بين الهدوء والاضطراب، من وقت لآخر تنقبض ملامحه ويتندى جبينه ويعبر الألم عن نفسه في قسمات وجهه النائم، ثم تلين ملامحه بعد برهة، كانت هذه التوترات تزداد سرعتها كلما اقترب موعد الجرعة التالية من المسكن مما كان يمزق أحشاء قلبي، أه! قمر جميل في ليلة يغمرها الألم! مددتُ يدي أحتضن كفه فوجدتها باردة، احتويتُ كفه بين كفي أدفئها والألم يعتصرني، هذا الشتاء مرهق وبارد ومنذر بالسوء على ما يبدو، إنه يفوق قدرتي على التحمل، أشعر بأني نضجتُ في هذه الأسابيع الباردة وكأنها سنين مثقلة بما فيها.
تدفقت ذكرياتي القديمة وكف دايسكي بين كفي أحاول أن أبثه القليل من الدفء، وأحاول مواساة نفسي، تدفقت رغمًا عني، تذكرتُ الأيام الحلوة، تذكرتُ دايسكي بكامل حيويته ونشاطه، يوم احتفلنا برأس السنة وسهرنا ولعبنا معًا، يوم أراني جريندايزر لأول مرة، يوم سهرنا على شاطيء البحيرة ورقصنا على نغمات الليل الهادئ ونسيمه العليل، عضضت شفتي بمرارة وكدتُ أن أدميها لولا تنبهي في اللحظة الأخيرة، فعدتُ أنظر لوجهه النائم وأنا أشعر بألم في صدري ومرارة لا تنفك من حلقي، سالت دموعي بصمت تحاول التنفيس عن مكنونات نفسي بلا جدوى! وظل سؤال واحد معلقًا أمام عيني: هل ستمر تلك الليلة بسلام فعلًا؟! كم أتمنى ذلك!
***
اقترب الليل من منتصفه، وسمعتُ طرقات خافتة على باب الغرفة، دخل دكتور أمون بهدوء، اقترب مني وسألني:
– كيف هو الآن؟
– يتحسن ببطء.
– هذا جيد، سأسهر في مكتبي هيكارو، اتصلي بي إن احتجتِ إلي!
– حاضر دكتور أمون.
انصرف دكتور أمون، وعدت وحدي من جديد، لكن بقاؤه ساهرًا ولو بعيدًا عني أشعرني بالأنس والأمان، ألم أقل أننا أسرة؟! دكتور أمون، دايسكي وأنا؟!
***
مع طلوع الفجر استيقظ دايسكي مجددًا، كان يبدو بحالة أفضل بكثير:
– ألا زلتِ مستيقظة؟!
– نعم، كيف جرحك الآن؟
– القليل من الألم، لكني أشعر أني بخير!
– حمدًا لله.. خفتُ عليك كثيرًا دايسكي!
قلتها بشعور صادق ودمعت عيناي دون أن أشعر، فمد أصابعه يمسح دموعي:
– لا تبكي!
أومأتُ له برأسي بصمت فاعتدل جالسًا وسألني:
– كيف حال ماريا؟
– إنها في المزرعة مع كوجي.. ماريا لا تعرف شيئًا عما أصابك.
– هذا أفضل.. كيف كانت ؟
– لم أتمكن من رؤيتها.. لقد غادرت المركز فور عودتها ولحق بها كوجي، لكنه يقول أنها بخير.. اطمئن.. ستعود لطبيعتها وستتجاوز هذه الأزمة.
قلتها أحاول بث الطمأنينه في نفسه، ولكن في أعماقي كنتُ أدرك فداحة ما حدث، ولا أعلم إن كانت ماريا ذات الأربعة عشر ربيعًا ستجتاز ما حدث فعلًا أم لا، كانت المسكينة منزعجة بشدة، أخبرني كوجي في مكالمته الأخيرة أنها لم تنفك تبكي، وأنه حاول تهدئتها مرارًا دون جدوى، قلتُ له أنها بحاجة لإفراغ عواطفها ورجوته أن يعتني بها، كان كل منا يقوم بدوره هذه الليلة، لقد خيم الحزن والألم بقوة للأسف، وكانت خطة قوات فيجا ناجحة فعلًا رغم هزيمة وحشهم في المعركة إلا أنهم استطاعوا النيل منا، وبقوة أيضًا!
أخرجني دايسكي من شرودي، رد على جملتي باستسلام:
– أرجو ذلك!
أعرف أنه يحاول التشبث مثلي بطوق النجاة الوحيد أمامنا، وأنه يعلم في قرارة نفسه بأني أخبره بنصف الحقيقة فقط، لكن ما الذي يمكننا فعله الآن؟
تساءلت إن كان من الصواب أن أقص عليه ما رواه لي كوجي وما حدث قبل وصوله هو لساحة المعركة؟ هل من الحكمة أن أخبره بأن ماريا قد دخلت كهفًا كبيرًا بصحبة كوجي وادعت بأنها رأت ذلك الكهف بالتحديد في حلمها؟ وأنها رأت داخل الكهف رجلًا يطابق الملك فليد في هيئته؟ وأنه لولا وصول دايسكي لربما تمكن هذا الرجل من النيل منها ومن كوجي؟ صحيح أنه كان مقيدًا لجدار الكهف؛ لكنه طلب من ماريا تحريره وإنقاذه، وهي بدت مرحبة بذلك لولا تدخل كوجي الذي اضطر للكمها لتفقد وعيها خروجًا من هذا الموقف المتأزم، هل أخبره بأن هذا الرجل سقط في الهواء أمام عينيها حين وجه هو ضرباته للوحش؟ وأن ماريا وكوجي شاهدا ملامحه الفليدية تذوب ثم اختفى تمامًا كبقية جنود فيجا؟ لم أكن قادرة على إيذاء دايسكي بتلك التفاصيل وما تحمله من ألم، لكني حاولتُ فقط أن أتبين منه شيئًا واحدًا في تلك اللحظة فسألته:
– لا زلتُ لا أفهم دايسكي! كيف لم تلحظ ماريا ما أصابك في المعركة؟
تنهد وأجابني وقد شرد ببصره:
– أنا أيضًا لا أعرف كيف تمكنتُ من اللحاق بها في ذلك الوقت هيكارو، كانت ماريا منهارة، تبكي وتصرخ، ركضت على الثلج وألقت بخوذتها بعيدًا، حاولتُ اللحاق بها ومواساتها، غابت كل آلامي وقتها، لم أشعر بما يحدث إلا حين عدت لجريندايزر وانطلقت به عائدًا للمركز.
تأملته بحب وكأني أحاول تثبيت صورته وطبعها بقلبي أكثر فأكثر:
– أنتَ أخ رائع!
ما إن أنهينا حديثنا حتى انقبضت ملامحه من جديد، نظرتُ للساعة المعلقة على الجدار وعدتُ أقول له:
– تحمل قليلًا أرجوك.. ربع الساعة فقط!
لكنه لم يجب، ازداد جبينه تعرقًا، وبدأت أسنانه تصطك بعنف، بقيتُ أجفف جبينه بمنديلي وأصلي لأجله حتى حان الوقت فمنحته الدواء، هدأت ملامحه وعاد يغفو من جديد، مددتُ يدي أمسح على شعره ففتح عينيه بلحظة وهمس لي:
– لا تتركيني!
– أنا هنا إلى جوارك.. اطمئن!
أغمض عينيه وكأنه كان يحدثني في حلمه، لقد كان شبه نائم في تلك اللحظة.
***
أشرقت الشمس أخيرًا وملأت الغرفة بنورها وكأنها تعلن انتهاء هذا الفصل المؤلم في حياتنا، أفاق دايسكي بعد شروق الشمس بوقت قصير، أفاق نشيطًا بشوشًا وهادئ الملامح، بادرته بقولي:
– صباح الخير يا عزيزي!
– صباح الخير!
قالها وهو يعتدل في فراشه، كانت فرحتي بتعافيه لا توصف:
– كيف أنتَ الآن؟
– شكرًا لك هيكارو! أنا الآن بخير، تبدين بحاجة للنوم، بقيتِ مستيقظة طيلة الليل بسببي!
هززتُ رأسي أجيبه:
– لا عليك.. أنا بخير.. تسعدني سلامتك!
– كم الساعة الآن؟
– إنها السابعة.
– لا شك أن أبي قد استيقظ من نومه.
– هو لم ينم ليلة أمس دايسكي.. كان قلقًا بشأنك.
– إذن سأبدل ثيابي وأذهب لرؤيته، اذهبي أنتِ ونامي قليلًا، تبدين مرهقة!
قالها وهو يحتضن كفي بأصابعه، اخفض بصره لحظه ثم عاد ينظر إلي بامتنان:
– أنتِ من فعل ذلك؟
– نعم.. كنتَ بحاجة لمغذٍ طيلة الليل.
– كنتُ بحاجة لوجودك!
احمر وجهي خجلًا، ابتسمتُ له وأنا أربتُ بكفي الأخرى على كفه:
– لم أكن لأرضى بأن يعتني بك غيري!
– شكرًا هيكارو!
عدتُ أبتسم له وبدأتُ أزيل المحقن من يده، غلفنا الصمت لبرهة، جمعتُ الأدوات في الصينية الصغيرة فهمس لي:
– خذي قسطًا من الراحة هيا، سأراكِ ظهرًا!
– حسنًا! سأراك! انتبه لنفسك جيدًا!
– سأفعل!
***
غادرتُ غرفة دايسكي مرتاحة البال، قضيتُ الليل أنتظر تلك اللحظة التي سيعود فيها لحالته الطبيعية، لهذا توجهتُ لغرفة دكتور أمون اطمئنه وأخبره بأن دايسكي سيأتي لرؤيته، ثم عرَّجتُ على المركز الطبي لأرى الطبيب وأعلمه بما حدث، توجهتُ لغرفتي بعدها لكني التقيتُ بكوجي مصادفة، كان قلقًا بشأن دايسكي وأنا منشغلة البال على ماريا، تبادلنا أطراف الحديث سريعًا ثم تركته وعدتُ أخيرًا لغرفتي، نظرتُ لوجهي في المرآة، كانت ملامحي مجهدة كما قال دايسكي، لكن لا بأس، يمكنني ببضع ساعات من النوم أن أستعيد نشاطي، لكن هل يعود دايسكي لنشاطه قريبًا؟ وهل يحقق الله رجائي بمعجزة تنهي هذه المأساة؟
ورغم إجهادي الشديد وجدتني أتجه نحو النافذة وأفتحها، كنتُ بحاجة لرؤية الشمس واستنشاق الهواء، شعرتُ بأني أوشك أن أختنق وأنني بحاجة لملء رئتي بأكبر قدر ممكن من الهواء العليل، نسيم الصباح ببرودته المنعشة كان كالماء الذي ينسكب بروحي ويطفئ نيران قلقي التي أحرقتني طيلة الليل، تمنيتُ أن يأتي الصباح محملًا بالخير وها قد أتي أخيرًا والحمد لله! تركتُ النافذة مفتوحة وفتحتُ دفتري وقررتُ إفراغ الأمس بكل ما فيه على الورق، لابد لي من التحرر من هذا الثقل الفكري والعاطفي كي أتمكن من النوم، الساعة الآن قاربت العاشرة وأنا لا أزال مستيقظة، إذن يكفي لهذا الحد، إلى الغد إذن؛ لا إلى ما بعد ظهر اليوم!
***
منذ أن أتى دايسكي إلى مزرعتنا وأنا أعيش أيامًا تملؤها المفاجآت، بعضها سار، بعضها مؤلم، وبعضها غير مفهوم على الإطلاق، أنهكني الحزن على دايسكي منذ أن عرفتُ بجرحه القديم، بكيتُ وحيدة في غرفتي كثيرًا، نضجت أفكاري ومشاعري بسرعة لم أتوقعها، وجدتني في ليلة أغادر أحلام الفتاة الوردية وأدخل إلى دنيا المسؤولية تجاه صديق استطاع أن يسكن قلبي وروحي، صديق بدا فراقه قريبًا، صديق يحمل آلامًا كبيرة، ماضٍ تعيس، ذكريات موجعه، وجسدًا لا تلبث آلامه أن تتجدد باستمرار، ومصيرًا مهددًا في كل لحظة، تعلمتُ الخوف، تعلمتُ الدعم، تعلمتُ أن ألتقط أزهار السعادة من بين أشواك الألم والعذاب.
كنتُ أسهر وحدي أفكر في معجزة قد تغير هذا المصير الأسود، أتمنى وأعجز عن إيجاد تصور منطقي يقود أمنيتي لدنيا الواقع، تمنيتُ شفاء دايسكي، صليتُ لأجل هذه الأمنية، لكن دايسكي كان ينتقل من ألم لألم أشد، في آخر مرة أصيب فيها شعرتُ أننا نقترب من النهاية، بقيتُ ساهرة إلى جواره وهو يتألم لا أملك سوى تخفيف آلامه بمسكنات لا تكفي إلا لساعات، في تلك الليلة شعرتُ بالعجز كما لم أشعر به من قبل، لم أتصور حينها أن هذا اليوم سيأتي لكنه أتى بالفعل!
اليوم تغمرني الفرحة بشفاء دايسكي، كيف؟ لم يكن أحدنا يتوقع هذا، كانت معجزة حقيقية كما تمنيتها طويلًا، موروس أمير نجم مورو والصديق الحميم لدايسكي منذ طفولته، كان موروس هو كلمة السر في هذا اللغز، ليتك أتيتَ منذ سنوات موروس!
في ذلك اليوم قالها لي دايسكي وهو يضمني إليه بانفعال جارف: “لقد منحني موروس عمرًا جديدًا” صدق دايسكي فعلًا بكلامه!
عرفتُ أن دايسكي التقى موروس خلال أعمال الدورية، كنا بعيدتين ماريا وأنا وكنا مكلفتين بالبحث في البحر وسلسلة الجبال المجاورة له، بينما توجه دايسكي وكوجي لمناطق أبعد يكسوها الثلج، على كل حال فقد التقى دايسكي بموروس، ودار عراك عنيف بين الصديقين، دُهش دايسكي من رغبة موروس الشديدة لقتله، حاول تذكيره بنفسه لكن موروس كان يردد كلامًا غريبًا، كان مقتنعًا بأن دوق فليد دمر نجم مورو وبأن فيجا الكبير قد أنقذ حياته، لموروس عزيمة قوية لا تلين كما وصفه دايسكي في كلامه عنه، لكن هذه العزيمة اليوم كانت موجهة ضد صديق حميم، في لحظة أفاق موروس، في ساحة المعركة قفز دايسكي من جريندايزر، لم يخشَ صديقه القديم رغم إصراره على قتله، أراد مواجهته وجهًا لوجه، كان ألمه يشتد لكنه غادر جريندايزر، سقط أرضًا على وجهه، رآى موروس يتقدم نحوه بثبات مشهرًا مسدسه، حاول دايسكي أن يثنيه عن رغبته دون جدوى، لمح دايسكي نجمة ذهبية تومض على ذراعه، توجس منها خيفة، اندفع نحو صديقه فجأة يحاول إبعادها، طارت النجمة وانفجرت بعنف وسقط الاثنان مغشيًا عليهما، وكانت رحمة الله!
أفاق موروس وقد استعاد نفسه وذكرياته، عاد موروس كما كان، اندهش لرؤية دايسكي، خاطبه بلطف، سأله عما يفعله هنا، شرح له دايسكي ما يحدث بكلمات سريعة، بدأ موروس يستعيد ذكريات أعمق:
– تذكرتُ الآن! أسرني فيجا الكبير وغسل دماغي!
ظهر الندم جليًا على ملامح موروس فاشفق عليه دايسكي، راح يعتذر لدايسكي بصدق، تفهم الأخير موقفه فحاول أن يهون عليه لكن فاجأه الألم دون استئذان، اشتد جرح دايسكي فجأة، تألم وهو يمسك بذراعه، كان زيه العسكري قد تمزق إثر سقوطه وبدأ جرحه ينزف من جديد، قلق موروس بشأنه ثم بدت منه حركة لم يستطع دايسكي تفسيرها.
انتصب موروس واقفًا وأشهر سلاحه في وجهه من جديد، فزع دايسكي وهو يسأله عما يفعل، حاول إيقافه، ظن أن موروس قد وقع تحت تأثير فيجا مجددًا، لكن موروس قالها بصرامة وهو يضغط الزناد بقوة:
قف دوق فليد!
وانطلق الشعاع يخترق ذراع دايسكي بلا رحمة، شعر دايسكي بآلام رهيبة كما أخبرني، وفقد وعيه.
أفاق بعدها دون أن يعرف كم مر من الوقت، كان كوجي يحاول إيقاظه، لم يكن لموروس أثر، نظر دايسكي لموضع جرحه فدُهش، لقد اختفى الجرح وكأنه لم يكن موجودًا ذات يوم، بدأ دايسكي يستوعب ما حدث، رفع عينيه يبحث عن موروس يتمنى شكره، لمحه في السماء، كان يطير بعيدًا بوحشه الآلي ثم حدث انفجار هائل، انفجار راح موروس ضحيته للأبد، اختار موروس أن ينفجر وحيدًا في الفضاء، اختار أن يواجه مصيره الذي أعده له فيجا الكبير بخسة ونذالة، اختار لدايسكي النجاة مرتين: النجاة من الألم والنجاة من الموت.
عاد دايسكي يزف إلي الخبرين معًا، كانت كلماته مزيجًا من البكاء والضحك، ضمني إليه وهو يقولها:
منحني موروس عمرًا جديدًا!
وعلى الرغم من ألم موت موروس بدأ دايسكي يستعيد نفسه سريعًا، ساعده شفاؤه على تجاوز الأزمة، فقد دايسكي موروس أمام عينيه كما فقد نايدا، مسكين دايسكي! يفقد أصدقاءه المقربين واحدًا تلو الآخر بصورة قاسية، كنتُ مشفقة على قلبه، ولا أعلم إلى متى سيظل هذا القلب ينزف على هذا النحو المؤلم.
حدث هذا في أواخر الشتاء، ومع حلول فصل الربيع كانت جراح دايسكي قد التأمت تقريبًا، عاد يبتسم من جديد، لم يعد بحاجة إلى المهدئات أو مسكنات الألم ليتجاوز آلامه النفسية والجسدية، بدا وكأن الزمن يعود بنا للوراء، خفت هجمات فيجا كثيرًا، وتكاد تكون توقفت لا أحد يدري، استمرينا في أعمال الدورية كالمعتاد، لكن كنا نملك الوقت والمزاج الجيد للتنزه والسمر، عدنا نسهر في ليل المزرعة، عاد دايسكي يدندن على قيثارته من جديد، كان لدينا الكثير لنقوله، نستعيد ذكريات الأيام الخوالي، نبني آمالًا لما بعد الحرب، نحلم بالسلام، اتفقنا على زيارة طوكيو معًا دون أسلحة أو علاجات، قال لي دايسكي:
يومًا ما سأدعوكِ للعشاء وسنرقص سويًا على أنغام الموسيقى.
سأكون سعيدة بذلك!
ضحكنا ملء قلوبنا، تذكرنا غيرة أبي منذ سنوات، تذكرنا ذلك اليوم الذي أتى فيه راكضًا فوجدنا ساهرين معًا ليلة الكسوف فاشتاط غضبًا، تذكرنا كيف كان يرفض وجودنا معًا منفردين، تذكرنا يوم ذهبنا لتدريب الخيول معًا وضاع ساندي، جعلنا نستعيد الكثير من الذكريات معًا دون ملل.
لكن دايسكي على الرغم من شفائه وسعادته لا يزال يحمل بداخله حنينًا وشوقًا لوطنه البعيد، يشتاق لوالديه كثيرًا، ظهور الملك والملكة فليد المزيفين كان يؤلم دايسكي كثيرًا، موت نايدا وموروس، موت كاين.. صباح اليوم كان دايسكي وماريا جالسان قرب البحيرة، لحقنا بهما كوجي وأنا فلاحظنا الحزن باديًا على ملامح الاثنين، كان دايسكي جالسًا على إحدى الصخور وقد أسند القيثارة إلى ركبتيه، التفت إلينا فرأيتُ بعينيه هذا الحنين الذي أعرفه وأحفظه عن ظهر قلب، سألهما كوجي عن سبب تلك الحالة فأجابت ماريا:
كنا نتحدث عن كوكب فليد.
لم أكن بحاجة لجواب ماريا، فعيني دايسكي تكفياني لأعرف ما يحدث، أومأ لي دايسكي برأسه واستدار يعزف على القيثارة، أنا أشعر بألمك يا عزيزي، صدقني! السماء صافية وسماؤك أنتَ غائمة تمطر دمعًا!
أردتُ أن أمنحه شيئًا، أردتُ أن أواسيه بما أملك، لمحتُ نبات البامبو بالقرب منا فسرتُ إليه وأنا أجيب ماريا:
بالطبع إنه موطنك وأعتقد أنك تريدين العودة إليه!
قلتها لماريا وأنا أعني دايسكي بكلامي، كنتُ أحاول تطمينه وبث الأمل في نفسه، شُفيتَ بمعجزة يا حبيبي فمن يدري؟! لربما تعود لموطنك يومًا! كانت الفكرة تؤلمني، لكن ألم دايسكي والحنين الذي يعصف بكيانه كان أقوى، مددتُ يدي أقطع ساق البامبو وأصنع منها قاربًا صغيرًا أطلقته في البحيرة، أغمضتُ عيني بخشوع وأخذت أصلي لتلك الأرواح الفليدية التي غادرت عالمنا دون ذنب اقترفته، صليتُ لأجلهم إكرامًا لدايسكي، حاولتُ أن أمنحه ما يهدئ من روحه المضطربة، فحتى حنينه يحتاج إلى معجزة لا أملكها!
ستكون بخير دايسكي، هذا الحنين يجتاحنا كأمواج تسونامي لكن لا يلبث أن يهدأ، اطمئن يا عزيزي.. ستكون بخير! وستنتهي الحرب يومًا! أنا متأكدة “““
اترك تعليقًا