الحلقة الحادية والخمسون – يالها من فتاة!
مرت الأيام بسرعة وانقضى شهران منذ أن ظهرت ماريا بحياتنا، كانت هذه الفترة مثقلةً بالأحاديث والمشكلات والمشاعر.
بدأ دايسكي يتودد لماريا وشيئًا فشيئًا استطاع الاثنان الحديث معًا بحرية، حكى دايسكي لماريا عما حدث في فليد، حدثها عن الحرب، كيف اشتعلت ولماذا وماذا توجب عليه وقتها، شرح لها الأسباب التي دفعته للتخلي عنها مُكرهًا، وصف لها كيف وصل إلى الأرض والتقى بالدكتور أمون وبنا جميعًا، أزال حيرتها من وصفه لدكتور أمون بالأب، لكن ماريا لم تنادِ دكتور أمون بأبي ولا لمرة واحدة، ظلت تناديه بالعم أمون أو الدكتور أمون أو تكتفي بكلمة سيدي فقط، حاولتُ التودد لماريا مرارًا لكنها لم تكن متحمسة لصداقتنا فلم أثقل عليها، واكتفيتُ برعايتها والاهتمام بشؤونها والتخفيف من حدة تصرفات دايسكي وآرائه تجاهها في الكثير من الأحيان.
عرفنا أن ماريا كانت تقيم مع العجوز الذي ظنته جدها في بيت صغير بين الأشجار في منطقة منعزلة على جبال اليابان، لم يكن لهما معارف أو أصدقاء، ولم تعتد ماريا الذهاب للمدرسة، وكانت تستذكر دروسها وحيدة في البيت، ومع ذلك فقد كان لها عدة أصدقاء من الفتيان، وكانوا يتسابقون دومًا بدراجاتهم النارية وهذه كانت بداية تعارفهم من الأساس، لم يكن العجوز يحب قيادة ماريا للدراجة، وقد شاركه دايسكي الاستياء ذاته، في المقابل وجدت ماريا متنفسها مع كوجي الذي يحب قيادة الدراجة والانطلاق بها من وقت لآخر بسرعة جنونية وفي طرق وعرة، ولهذا بدأت ماريا تميل لصحبة كوجي وتقضي الوقت برفقته.
من جهتي حاولتُ مساعدة دايسكي في تدبير شؤون ماريا، كان علينا الذهاب لبيتها معًا لجلب ملابسها وكتبها وكل ما يتعلق بها، وكنا بحاجة لتسجيلها في مدرسة قريبة لتواصل دراستها كالمعتاد، بجانب حاجتنا لتجهيز غرفة مستقلة لها في البيت، لا زلت أذكر يوم اتفقنا على الذهاب لبيت ماريا الأول، كان ذلك بعد أسبوع من وصولها، وبينما كنا نستعد للذهاب غيرت ماريا رأيها ورفضت الفكرة، كان دايسكي في مزاج سيء في ذلك اليوم لهذا كان رد فعله عصبيًا، فطلبتُ منه أن يدع الفتاة وشأنها، حمل كوب قهوته واتجه للنافذة ينظر منها بصمت، ويلتفت إلينا من حين لآخر، وتوليتُ أنا مهمة الحديث إلى ماريا في محاولة مني لمعرفة السبب وراء رفضها الذهاب، كانت المسكينة تخشى رؤية البيت، وتخشى ذكرى العجوز، حتى أنها بكت بمرارة في ذلك اليوم، كان بمقدوري تفهم مشاعر ماريا التي تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، كانت لا تزال صغيرة فعلًا وما يحدث حولها يثقل على روحها وقلبها، وكانت تفتقد الجد الذي رباها وكان مصدر الأمان الوحيد لها في هذا العالم، بقيت ماريا تحب العجوز حتى بعد أن عرفت بالحقيقة، وكانت تشعر بيننا بالغربة وقتها، تألمتُ لأجل ماريا كثيرًا في ذلك اليوم وحاولتُ التخفيف عنها وشد عزمها، قلتُ لها أنها لن تكون وحدها وأننا سنذهب معًا دايسكي وهي وأنا وسيرافقنا كوجي كذلك، وعدتها بأن نزور قبر الجد معًا كأسرة وأن نصلي لأجله ونتمنى له أن ترقد روحه الطيبة بسلام، قلتُ لها أن عليها أن تذكره دومًا وأن تكون ممتنة لحبه ورعايته لها، ابتهجت ماريا أخيرًا ووافقت على الذهاب معنا ولكن بدراجتها.
ركبنا – دايسكي وأنا – الجيب، وقاد كلًا من كوجي وماريا دراجته، وصلنا لقبر العجوز أولًا كما وعدتُ ماريا، وضعنا باقة ورد عليه، ثم توجهنا للبيت، كان جزء من البيت قد تهدم إثر مهاجمة اليوفو للمنطقة، كانت ماريا محقة في شعورها، فقد كان المنظر كئيبًا فعلًا، لهذا أسرعنا بجمع أشياء ماريا وعدنا.
تلا ذلك مشوار آخر للقرية لتسجيل ماريا في مدرسة واي حيث كنتُ أدرس أنا منذ سنوات، أصرت ماريا على استكمال دراستها في المنزل ورفضت الذهاب للمدرسة ولم يمانع دايسكي لحسن الحظ.
بقيت ماريا تشاركني غرفتي لفترة، وكانت تقضي النهار في مزرعة البتول الأبيض مع أبي وجورو وقد تمكنت من نيل حب الاثنين بالفعل، وكنا نحن نذهب للمركز كالمعتاد لأداء ما علينا من مهام، لكننا كنا نعود مساء – دايسكي وأنا، نتناول العشاء مع أبي وجورو وماريا، نسهر قليلًا ثم نتفرق إلى غرفتا للنوم، ينام الكل وأبقى ساهرة حتى منتصف الليل كالعادة، أذهبُ لغرفة دايسكي، أنهي ما أوكله لي الطبيب، ثم أذهبُ للنوم، في الكثير من الليالي كنتُ أجد دايسكي مستيقظًا فنسهر معًا لبعض الوقت، كان منشغل البال بماريا في تلك الفترة، يحاول أن يفهمها، أن يتودد إليها، ينجح أحيانًا ويفشل كثيرًا، وكانت هي تستاء من توجيهه المتكرر لها، وكنتُ أنا أحاول التخفيف من استيائه وأقنعه بأن ماريا لا تزال صغيرة وأن الأمور ليست خطيرة، كان دايسكي يجد صعوبة في فهم ماريا التي تصغره بسنوات كثيرة، ويبدو أنها هي الأخرى كانت تشعر تجاهه بشعور مشابه أيضًا، فلم يبدُ عليهما الانسجام معًا إلا قليلًا.
في ليالٍ أخرى كنا ننجرف بعيدًا جدًا عن ماريا وننشغل بما يعانيه دايسكي صحيًا، كانت تنتابه من وقت لآخر مشاعر إحباط فجائية، يفكر أن لا شيء يستحق الاهتمام وأن هذا الدواء لن يغير من الحقيقة شيئًا، أحيانًا يشعر بالألم وأحيانًا بكون على ما يرام، هدوء في بعض الليالي واضطراب في غيرها، لهذا كانت ليالينا غريبة وغير متشابهة، أذكر في إحدى الليالي أننا تسللنا من البيت ورحنا نركض خارج المزرعة، كان دايسكي يائسًا جدًا في تلك الليلة وهذا ما دفعني لاقتراح نزهة مجنونة كتلك، قلت له: “دعنا نقم بشيء لم نفعله من قبل!”، في ذلك اليوم غفونا في حقل منبسط تكسوه الزهور دون أن نشعر، كانت سهرتنا طويلة وأحاديثنا لا نهاية لها، لهذا غفونا دون أن نشعر فعلًا وأيقظتنا الشمس، نهضنا فزعين وضحكنا ملء قلوبنا وأسرعنا بالعودة للمزرعة، تظاهرنا بأننا قد استيقظنا مبكرين وأننا ننوي الخروج بالجياد، التقانا كوجي أمام الإسطبل، سألنا سؤالًا غريبًا: “من أين أتيتما؟” أخبرناه أننا استيقظنا منذ قليل ولم نكن نكذب، لكن بدا على كوجي أنه لا يصدق حرفًا مما نقول، أخبرنا أنه سيُخرج ديمباجيرو للتدريب فقد قرر الاشتراك به في سباق الخريف للخيول الذي سيُقام قريبًا، صحيح لقد قرر أبي أن تستضيف مزرعتنا السباق هذا العام، كيف نسيت شيئًا مهمًا كهذا؟! بعد انصراف كوجي انتبهنا بلحظة واحدة لما أثار دهشته وتساؤله، كنا ننظر لبعضنا البعض ووجدنا بتلات الزهور عالقة بملابسنا، جعلنا ننفضها ونحن نضحك ونحمد الله على أن من التقانا هو كوجي لا غيره.
لم يُحدِّث دايسكي ماريا بشأن جرحه، ولم تكن تعرف شيئًا عن معاناته وألمه ولا حتى علاجه في تك الفترة، واحترمت أنا رغبته في عدم مشاركتها الأمر في الوقت الحالي رغم عدم اقتناعي بإخفاء هذا الأمر عنها.
بالأمس حدث ما لم نكن نتوقعه، كنا في مركز الأبحاث وقد صحبتنا ماريا، يحدث ذلك من وقت لآخر ويرحب دكتور أمون بها ولا يمانع بوجودها، كنا – دايسكي وأنا – في مكتب الدكتور أمون نناقش آخر ما توصل إليه بشأن فك تشفير المعلومات المخزنة في ذاكرة جريندايزر، كان العقل الإلكتروني قد نجح أخيرًا في اختراق الحواجز الدفاعية ووصل للمعلومات ذاتها وبقي عليه فك شيفرة البيانات لكي نتمكن من فهمها والإفادة منها، في ذلك الوقت كان ثمة تغير كبير يحدث في مركز الأبحاث، فقد بدأ الدكتور أمون بالتنسيق مع وكالة الدفاع اليابانية بشأن تطوير المركز وتسليحه على نحو أفضل، إلى جانب استعداده لبناء سلاح فضائي جديد قادر على الطيران والقتال خارج الغلاف الجوي، لأجل هذا كان تشارك المعلومات والتنسيق أمرًا لا بد منه، وبدأ اسم دوق فليد وجريندايزر يُعرفان على نطاق أوسع عن ذي قبل، وبعد أن كان جريندايزر سلاحًا سريًا بات يتحول لسلاح معروف للجميع، كان هذا التحول خطيرًا فعلًا، شيء واحد حافظ عليه دكتور أمون هو إبقاء شخصية دايسكي بعيدة عن ذلك، فدايسكي هو ابن الدكتور أمون ودوق فليد هو طيار جريندايزر ولا شيء أكثر.
عند وصولنا لاستراحة المركز بعد هذا الحديث الطويل والمثقل بالمعلومات والنقاشات تفاجأنا بكوجي وماريا يتشاجران، فور دخولنا سكت الاثنان فجأة فسألهما دايسكي عما بحدث، فأجاب كوجي بأن ماريا تزعم بأنها قادرة على قيادة السلاح الثاقب، اتسعت عينا دايسكي من الدهشة، قاطعت ماريا كوجي بقولها:
أستطيع ذلك!
تمزحين يا ماريا، قيادة السلاح الثاقب ليست سهلة.
أنتَ تستهين بقدراتي؟!
لم أقصد ذلك..
جعلا يتشاجران من جديد فطلبتُ منهما أن يهدآ، فقد كنا نعاني فعلًا من ازدحام الأفكار، كما أني لاحظتُ انزعاج دايسكي من كشف حقيقة جريندايزر على هذا النحو، توجهنا للنافذة وغلفنا الصمت لدقائق ثم عادا كوجي وماريا لمرحهما ومشاجراتهما المعتادة، في حين جعلنا نحن نناقش معًا تبعات كشف حقيقة جريندايزر ومخاوف دايسكي بشأنه ذلك.
مساء ذلك اليوم حين كنتُ في غرفة دايسكي أستعد لغرس المحقن في ذراعه سألني:
هل تعتقدين بأن ماريا جادة؟
بشأن السلاح الثاقب؟
نعم.
لا أعرف دايسكي لكن أظن أنها قوية كفاية للتدرب على قيادته.
ماذا عن خوضها الحرب؟
كنتُ قد انتهيت من عملي، أغلقت المحقن ورميته في سلة المهملات وألتفتُ إليه أجيبه:
أظن أن عليك أن تسألها هي بهذا الخصوص.
أنتِ على حق.
قالها وأغمض عينيه فتمنيتُ له ليلة هادئة وعدتُ إلى غرفتي وأنا أسأل نفسي نفس السؤال: هل هي جادة فعلًا؟! وعادتُ بي ماريا لأشهر طويلة قد مضت حين كنتُ أبحث عن ذاتي، تذكرتُ قيادتي لسبيزر لأول مرة، تذكرتُ خوف دايسكي ورفضه مشاركتي في القتال، تذكرتُ إصراري وقتها وعدتُ فعلًا أتساءل: هل هي جادة؟
تحدث دايسكي لماريا صراحة حول ما دار بينها وبين كوجي، أبدت ماريا رغبتها في القتال معنا، شعر دايسكي بحماسها الشديد فعاد يكرر عليها السؤال مرارًا، شرح لها أن الحرب ليست لهوًا أو ساحة لاستعراض القوة وأنها ستكون جزء من فريق يعمل معًا، أبدت ماريا تفهمها للأمر لكن موافقتها السريعة أثارت قلق دايسكي فطلب منها أن تعيد التفكير بالأمر مجددًا، منحها ثلاثة أيام لاتخاذ القرار وجاء رد ماريا بالموافقة والحماس ذاته، روى لي دايسكي ما حدث ونحن في طريقنا لطوكيو لرؤية دكتور هانز بعد انقضاء شهر كامل من العلاج الذي قد أوصى به، كانت زيارتنا لطوكيو موفقة، وقد أخبرنا الطبيب بأن وضع دايسكي جيد الآن، كما كان لسكون هجمات فيجا أثره الواضح علينا وعلى صحة دايسكي وتماثله للشفاء، لهذا كان مزاجنا جيدًا في ذلك اليوم، انتهينا من زيارة مركز دكتور هانز وذهبنا لتناول الغداء معًا ثم قررنا العودة للمزرعة.
أخبرني دايسكي بأنه سيحدث دكتور أمون بشأن ضم ماريا للفريق لكنه لم يكن قادرًا على تخمين رده، الحقيقة أني كذلك لم أكن قادرة على توقع ما سيقرره دكتور أمون، في السابق وافق دكتور أمون علي ضمي لفريق جريندايزر ووقف دايسكي معارضًا للفكرة واستطاع دكتور أمون إقناعه، ماذا عن العكس؟ ما كان يثير قلقنا هو عمر ماريا فعلًا، لكن لم يكن باليد حيلة، وكان علينا انتظار ما سيحدث.
بعد عودتنا مباشرة فاتح دايسكي دكتور أمون بالأمر ولكن لم يُحسم النقاش من المرة الأولى، طلب دكتور أمون بعض الوقت للتفكير بالأمر فزاد من ريبتنا بقراره، حين التقاه دايسكي منذ ثلاثة أسابيع كان قد اتخذ قراره بالرفض، فضل إبعاد ماريا عن الفريق نظرًا لصغر سنها، جادله دايسكي وانتهى بهما الأمر لوضع ماريا تحت الاختبار وبدأت التدريبات، تم تدريب ماريا على الطيران وكان تقدمها سريعًا للغاية، وصلت لتدريب الالتحام بجريندايزر بسرعة غير متوقعة، كان هذا هو التدريب الأصعب من واقع خبرتي الشخصية وما رواه لي دايسكي عن كوجي، اجتمعنا جميعًا في ساحة التدريب نرقب ماريا باهتمام، أوصاها دايسكي بالهدوء لكنها أجابته بنبرة حادة وواثقة: “أنا أعرف ما الذي يجب عمله تمامًا”، كان رد ماريا مزعجًا بالنسبة لي، تمنيتُ أن أقول لها بأن دايسكي يحبها فعلًا وأنه خائف عليها لكني آثرتُ الصمت، ولم يكن هناك متسع لقول شيء.
أدار دكتور أمون المحركات وبدأ التدريب، وخفقت قلوبنا بقوة، كان السلاح الثاقب يدور وتتزايد سرعته، سمعت صوت دايسكي وهو يعطي ماريا الأمر بالالتحام، مضت الثواني بطيئة جدًا، ترقب وقلق ثم نجحت ماريا، نجحت من التجربة الأولى، كانت مفاجأة للكل، لا كوجي ولا أنا استطعنا تحقيق إنجاز كهذا، تمتم دايسكي: “رائع.. رائع”، لم نتمالك كوجي وأنا أنفسنا، رفعنا أيدينا نشجع ماريا ونهتف لها
قلتُ لماريا بصدق:
رائع ماريا! نجحتِ من التجربة الأولى، أنا فشلتُ مرارًا.
كنتُ أستعيد ذكرى تدريب التحام جريندايزر بسبيزر وقتها، لقد حاولتُ وحاولتُ حتي أُرهقت وحدث ما حدث، يومها أصيب دايسكي بسببي واليوم هو يتعلم مما فات، حتى أنه لم ينزل لساحة التدريب مع ماريا، هو مُحق فعلًا! لسنا بحاجة لأخطار نحن في غنى عنها، أخرجتني ماريا من أفكاري بجوابها:
لستُ مثلكِ! أنا ابنة فليد يا هيكارو.
كم كان جواب ماريا صادمًا ومؤلمًا بالنسبة لي وقتها! الفتاة تبدو رائعة رغم صغر سنها؛ لكنها مع ذلك تتصرف على نحو مزعج فعلًا، انزعجت لردها على دايسكي منذ قليل، وها أنا أنال نصيبي من الإزعاج، لماذا ماريا؟ كلانا يحبك ويخاف عليك ويفخر بك، لماذا؟
كنتُ منزعجة فعلًا لكن ما أقدم عليه دايسكي قد وضع حدًا لانزعاجي وقتها، لقد سمعته يرد على ماريا بقوله:
ماريا، لا تنغري بنجاحك الأول، يهمني النجاح المستمر، هيكارو أصبحت ماهرة جدًا في القتال.
شكرًا دايسكي! لكن لا تقسُ على الفتاة كثيرًا، لا زالت صغيرة، كنتُ أعاني مع ماريا مشاعر متضاربة، هي فعلًا صغيرة وأخت دايسكي وهذا كافٍ لجعلها قريبة من قلبي، لكن تصرفاتها تقف حاجزًا بينها وبيني في أحيان كثيرة، نفضتُ كل ذلك عن عقلي وعدتُ أشارك كوجي الثناء على نجاح ماريا في الالتحام، فقد كان هذا هو الموضوع الأساسي وقتها، وبعد هذا الاختبار قَبِلَ دكتور أمون بماريا عضوًا في الفريق وأصبحنا أربعة وتحققت أمنية كوجي: “لو كان معنا صديق رابع وأرسلناه بالسلاح الثاقب..” هنيئًا لك كوجي!
استمرت تدريبات ماريا، كما واظب كوجي علي تدريب ديمياجيرو استعدادًا للسباق، وقرر دايسكي عدم المشاركة في السباق والاكتفاء بحضوره، كان هذا أفضل بالنسبة لي، فقد أنهي دايسكي علاجه منذ فترة قصيرة، وأُفَضِّلُ ألا يكون مضطرًا لبذل مجهود إضافي.
في تلك الفترة بدأت خزينة المعلومات تُفتح شيئًا فشيئًا، لقد ترك علماء فليد ثروة علمية في مختلف المجالات، رأينا صورًا لمدار فيجا الذي يبعد عنا آلاف السنوات الضوئية، رأينا صورًا لفليد فعلًا، كانت المعلومات تتدفق يوميًا ومع كل جديد يتمكن دكتور أمون من فك تشفيره وإطلاعنا عليه كنتُ أزداد أملًا بإمكانية إيجاد علاج شافٍ لجرح دايسكي خاصة بعد أن وصل رد دكتور هانز محبطًا لنا، فقد باءت فحوصاته لأنسجة الجرح بالفشل للأسف.
في إحدى الليالي وبينما نحن نتناول العشاء بعد يوم عمل شاق تفاجأنا بحديث ماريا وكوجي وجورو، كان سباق الجياد في الغد، وعرفنا بأن ماريا قد قررت الاشتراك فيه، وأنها بدأت تدريباتها اليوم فقط، كان الموقف غريبًا خاصة مع إطراء أبي على ماريا ووصفه لها بالفارسة العظيمة، زاد من غرابة الموقف ما قامت به ماريا على العشاء وهي تناول دايسكي كوبًا من الحليب وكوجي الخبز وكأنها تعرف مُسبقًا ما يريده كل واحد منهما دون أن يقولا شيئًا، لم نحصل ليلتها على أي إجابات، وكانت تمطر بغزارة فعرض أبي أن نقضي جميعًا ليلتنا في بيت المزرعة وقد كان.
في منتصف الليل استيقظت ماريا، قالت بأن عليها إخبار دايسكي بشيء، عادت بعدها بدقائق تقول لي بأن هناك من سيحاول مهاجمتنا وقتل كوجي، كان كلامها غريبًا ولا يستند لأدلة لكني آثرت الصمت، بعدها بساعة حدث فعلًا ما توقعته ماريا، تعرضنا لهجوم وتحديدًا غرفة دايسكي وحيث قضى كوجي ليلته معه، لكن نجا الاثنان بفضل تحذير ماريا والحمد لله، كان المهاجمون ثلاثة من الفتيات قُتلت إحداهن ونجحت الأخرتان بالهرب.
صباحًا طلب دايسكي من كوجي ألا يشارك في السباق لكنه رفض، كان الموقف موترًا فعلًا ولا يبشر بالخير، وزاده توترًا عدم إذعان كوجي لتحذير دايسكي، حان وقت السباق وتوافد الزوار على المزرعة، وقفنا دايسكي وأنا نرقب ما يحدث ونحاول إيجاد أي شخص غريب قد نشتبه به لكن دون جدوى، رُفِع العلم وبدأ السباق.
كان كوجي متقدمًا بديمباجيرو وكان على وشك الفوز فعلًا لولا ما أقدمت عليه ماريا، فلقد صرخت باسم كوجي ووقفت على ظهر حصانها، ثم قفزت صوب حصان كوجي فأسقطته أرضًا وانتزعت شيئًا معلقًا في سرج الحصان وقذفت به عاليًا، لقد كان الشيء الذي ألقت به ماريا قنبلة حقيقية، انفجرت القنبلة بدوي عنيف وطار جسد كوجي في الهواء متأثرًا بقوة الانفجار حتى سقط مصطدمًا بصخرة، وساد الهرج والمرج المكان، اندفعنا نحو كوجي الذي كان ينزف بشدة إلا أننا تفاجأنا بإطلاق نار وبماريا التي أخذت تركض بالحصان مطاردة شخصًا ما، ومن ثم انفجار آخر أسفل الجبل، كانت الأحداث سريعة للحد الذي جعل من الصعب تتبعها.
حملنا كوجي لمركز الأبحاث حيث أشرف الطبيب على علاج جرح رأسه، فقد كانت إصابته بالغة نوعًا ما، وقف دايسكي مستاء وهو يتمتم من بين أسنانه بغضب: “قوم فيجا الأنذال!”.
وبينما نحن كذلك دوي جرس الإنذار في المكان وعرفنا بقدوم صحن متوحش، اندفع دايسكي خارجًا وهو يقول بأنه سيتولى أمر هذا اليوفو بنفسه.
خرج دايسكي للقاء اليوفو ولم تصدر لنا التعليمات بالخروج وقتها، وكما تعلمتُ سابقًا فإن الخروج بطريقة عشوائية أمر مرفوض في العمل الجماعي، نحن فريق وله قائد وعلي الالتزام بتعليمات القائد، كان بإمكان دايسكي أن يطلب منا مرافقته لكنه قرر الخروج وحده ولا أعرف لماذا، ومع ذلك كان علي الإذعان لقراره وأمره كقائد للفريق.
بعد خروج دايسكي بوقت قصير تحدث إلي كوجي وسط آلامه، قال جملة واحدة فقط: “رجاءً هيكارو اهجمي بالصحن المزدوج نيابة عني، من أجلي!”، أومأتُ له برأسي إيجابًا وأجبته بحزم: “سأفعل كوجي” وانطلقت.
لكن بينما أنا أعدو صوب قاعدة الانطلاق لحقت بي ماريا، قلتُ لها بأن كوجي طلب ذلك مني أنا لكنها ردت علي: “سأتولاهم أنا”، قالتها وتجاوزتني بأسلوب غير لائق، وقفتُ في مكاني أنظر للممر لا أعرف ماذا علي أن أفعل مع فتاة مثلها، تمتمتُ منفسة عن ضيقي وانزعاجي: “يالكِ من فتاة” أخبرني دايسكي ماذا يجب علي أن أفعل؟ ترهقني ماريا، ترهقني بصغر سنها وتصرفاتها الغريبة وردود أفعالها غير المتوقعة، ماذا علي أن أفعل؟ أنا في حيرة من أمري!
توجهتُ بعدها لغرفة المراقبة وانضممت للدكتور أمون، رأينا جرينداير يخوض معركة عنيفة، ورأينا ماريا تنضم إليه، حاولت الالتحام به لكن وحش فيجا حال بينها وبينه، ابتعدت ماريا بعدها لفترة وخاض جريندايزر المعركة وحده حتى حانت اللحظة الأخيرة وأطلقت ماريا القاطع المزدوج، التحم سبيزر بجريندايزر وعادا للمركز، حينها غادرت غرفة الرصد صوب المركز الطبي لأطمئن كوجي:
لقد انتهى القتال، اطمئن كوجي!
أنتِ لا زلتِ هنا؟
ماريا أصرت على الخروج بسبيزر وتجاوزتني إليها، أنا آسفة!
لا عليكِ.
***
لكن ما حدث في ذلك اليوم دفع دايسكي لحديث جدي مع ماريا حول قواعد العمل في الفريق، أعتقد أنه محق في ذلك، لكن المشكلة أن ماريا بدت أكثر صعوبة مما توقعتُ يومها، فبالأمس وبينما نحن جالسون معًا في المزرعة هبت رياح قوية، كانت قوية لدرجة أن انتزعت المظلة من مكانها واقتلعت غطاء الطاولة وسكبت ما عليها، بدأ البرق يلتمع في السماء كذلك والريح تشتد قوتها، اتصل دايسكي بالدكتور أمون يسأله عما يحدث فجاءنا الجواب الصادم، لم يكن دكتور أمون يملك تفسيرًا لما يحدث وطلب منا العودة للمركز فورًا، أسرعنا للجيب جميعًا، اتخذ كوجي مقعد القيادة وجلس دايسكي مجاورًا له، اتخذتُ مكاني خلف دايسكي وبقينا ننتظر ماريا التي كانت تركض في المرزعة لتلتقط قبعة أبي التي طارت مع الريح، رفع دايسكي يده يناديها ويستعجلها وفور وصولها انطلق كوجي بالجيب صوب مركز الأبحاث.
هناك في غرفة المراقبة بدأت تظهر الحقائق المرعبة، هناك انجذاب غير عادي من الفضاء الخارجي، لقد كانت نجمة محترقة أكبر من القمر بمرة ونصف تقترب من الأرض.
كان المفترض أن تصطدم هذه النجمة بالأرض في طريقها، كانت نجمة ارجوانية غريبة الشكل لم أرها قبلًا، علَّقتُ على لونها فأجاب دايسكي بأن هذه النجمة قد تكون من مدار فيجا وربما هي مشبعة بإشعاعات فيجاترون.
أخذ دكتور أمون يحللها بموجات الأشعة وتوصل لكون استنتاج دايسكي صحيحًا، النجمة محترقة فعلًا ولا حياة عليها، كما أنها فعلًا مشبعة بالإشعاعات وتكاد تكون أشبه بالنفايات أو الحجارة الخفيفة الوزن، سألنا دكتور أمون عما قد يحدث إن وصلت لغلاف الأرض، أخبرنا أنه بمجرد عبور هذه النجمة للغلاف الجوي فسيحدث انفجارًا كبيرًا وستهب أكبر عاصفة يمكن أن يتخيلها إنسان، قال أنها ستثير مئات الزوابع والأعاصير وأنها قد تفني الحياة على سطح الأرض.
كنا في موقف رهيب، تجمدت ماريا ولم تشارك بالحديث، سأل كوجي عما يجب علينا فعله، فأجاب دكتور أمون أن بإمكاننا تفجير هذه النجمة قبل وصولها لجو الأرض بصاروخ موجه لكن المشكلة تكمن في قوات فيجا التي قد تعوق هذا الصاروخ، هنا تدخل دايسكي قائلًا بأن جريندايزر سيشارك في العملية فأعطاه دكتور أمون الأمر بالاستعداد، أومأ دايسكي برأسه بحزم وانصرف فورًا وذهبنا جميعًا للاستعداد للخروج.
كانت خطة دكتور أمون أن نخدع قوات فيجا بظهور جريندايزر بحيث يتمكن هو من إطلاق الصواريخ، وكان علينا المحاولة مهما كانت النتائج.
خرج دايسكي ولحقنا به، لكن بدأت التضاربات من جديد رغم دقة الموقف الذي نعايشه، فقد بادرت ماريا بالانطلاق قبل كوجي الذي يُفترض به أنه قائد الأسلحة الثلاث، وبَّخ كوجي ماريا على تصرفها لكنها أجابته ببساطة: “الحق بي”، كانت توقعاتنا صائبة، فقد أطلقت قوات فيجا وحشًا شرسًا لإيقافنا وتعطيلنا، اشتبك جريندايزر مع الوحش، وحاولنا الانقضاض عليه أكثر من مرة، لكن تهور ماريا وخروجها عن التشكيل بطريقة عشوائية كان يعوقنا كثيرًا، وقد تمكن الوحش منها في إحدى المرات وأمسك بسبيزر الحفار فعلًا.
استغرقت معركتنا الكثير من الوقت وكان وحش فيجا يمسك بجريندايزر بطريقة أعجزتنا عن إصابته، فكان الوحش يختبئ خلف دايزر وأي سلاح سنستخدمه كان سيؤذي دايسكي في المقام الأول، كنا نرى دايسكي يعاني ويصعق وينادينا لنجدته لكننا كنا عاجزين تمامًا، ماريا لم تحتمل هذا الموقف طويلًا، كانت تندفع لنجدة دايسكي بشعور صادق لكن اندفاعها كان يزيد من مشاكلنا في ساحة المعركة، حال قضائنا على وحش فيجا أخبرنا دكتور أمون بأننا تأخرنا في إطلاق الصواريخ للأسف وأن الحل الوحيد هو أن يساعد جريندايزر بحمل الصواريخ بسرعة تفوق سرعتها القصوى، وافق دايسكي فورًا وطلب من دكتور أمون بحزم أن يطلق الصواريخ وانطلقت فعلًا، رأيت دايزر يقفز ويلتحم بسبيزر وينطلق بأقصى سرعة، تهاوى قلبي وقتها وخفت كما لم أخف من قبل، غاب جريندايزر عن ناظري وطار بعيدًا.. بعيدًا جدًا.
طار متعلقًا بالصاروخ الذي أطلق وكان المفترض به أن يفجر النجمة المشبعة بإشعاعات فيجاترون، حدث انفجار هائل في الفضاء وعرفنا أن مهمة القضاء على النجمة المظلمة قد تمت بنجاح، لقد نجت الكرة الأرضية والحمد لله؛ لكن ماذا عن دايسكي؟ ماذا حدث لك دايسكي؟ ماذا؟
شملني الرعب في ذلك الوقت لدرجة أني تجمدتُ تمامًا، كنتُ أحلق بسبيزر وأبحث عن دايسكي على الشاشات ومن خلال الزجاج الأمامي لقمرة القيادة، كنتُ أسمع دكتور أمون وهو يقول: “أصيب جريندايزر أنجده فورًا” كانت جملته تعذبني، سقط دايسكي من ارتفاع شاهق، سقط متأثرًا بانفجار هائل، سقط وسط إشعاعات فيجاترون، ما الذي يمكن أن يحدث له يا ترى؟
أخيرًا لمحناه، كانت سبيزر تطفو على سطح البحر، هتف بي كوجي يطلب مني أن أهبط إليه، تمنيتُ أن أقول له بأني لستُ بحاجة لهذا الأمر يا كوجي، أرجوك دعني وحدي الآن، أرجوك!
نزلتُ بسبيزر وغطستُ في الماء وجعلتُ أبحث عنه، حتى وجدته، كان دايزر ملقى على الصخر دون حراك، رأيتُ دايسكي في شاشة جهاز الاتصال مرتطمًا بلوحة القيادة وفاقدًا لوعيه، لطفك يارب!
أخذتُ أناديه وأرجوه أن يستيقظ، رجوته أن ينهض لأطمئن أنه بخير وأنه لا زال حيًا، كررتُ محاولاتي حتى أفاق دايسكي، رفع رأسه ينظر لسلاحي الملاحي وهو يهتف باسمي.
تنهدتُ وطلبتُ منه أن نلتحم، حرك دايزر قليلًا ليساعدني على الالتحام، التحم السلاحان معًا وخرجنا من الماء، لحفت بنا سبيزر وكذلك سلاحي كوجي وماريا وعدنا للمركز، لكننا عدنا للأسف لنقطة بعيدة كنا قد نسيناها منذ شهر، فلقد أدى هذا الحادث لانتكاسة جديدة وكان علينا أن نعيد الكرة مجددًا، وهذه المرة علاج طويل الأمد ولأجل غير مسمى كما ذكر دكتور هانز، لقد أثمر الشهر الماضي فعلًا هذا اليوم، ولولاه لكنا قد فقدنا دايسكي للأبد، لكن كمية الإشعاعات الهائلة التي أصابته خلال الانفجار قد آذته كثيرًا، هذه المرة لم يقاوم دايسكي أو يرفض، هو أيضًا بدأ يعرف يقينًا أن هذا العلاج مهم حتى لو لم يُشفَ جرحه به، اخترنا موعدًا جديدًا لعلاج دايسكي، ورفض هو منتصف الليل كي لا يتسبب في سهري كل ليلة، كان من الواضح أننا ندخل مرحلة جديدة الاستسلام للأمر الواقع هو طابعها، أثار هذا الشعور بداخلي الكثير من الألم للأسف ومع ذلك فأنا لا زلت آمل بمعجزة!
قبل كتابتي لهذه الأسطر بساعات كنت جالسة مع ماريا أتأملها، تذكرتُ ما أخبرنا به دايسكي منذ فترة وكيف فسر لنا ما حدث في يوم سباق الخيول وليلته، قال أن ماريا تملك حاسة الرؤيا، شيء من البصيرة أو الحاسة السادسة، قال أن واحدًا من كل مائة في فليد يتمتع بقدرة كتلك، وأن صاحب تلك القدرة يمكنه التنبؤ بما سيحدث، لكنه استدرك بأن هذا التنبؤ لا يصح دائمًا، وقتها استاءت ماريا، لقد تركتنا وهي تهتف منزعجة: “انسياها أكرهها”.
كانت ماريا تكره هذه القدرة التي تميزها، تساءلتُ بداخلي عن سبب ذلك لكن لم أتوصل لشيء، فكرتُ بسؤالها عن الأمر ولكني تراجعتُ خشية إزعاجها، كما أنني تذكرت أحداث اليوم والتي لم تعرف عنها ماريا أو تتنبأ بها مطلقًا، جالت بخاطري أمنية غريبة ووجدتُ نفسي أتساءل بصمت: ماذا عن دايسكي يا ماريا، هل بإمكانك رؤية شيء يطمئن قلبي عليه؟!
وبقي سؤالي بلا جواب.
اترك تعليقًا